رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 17 يونيو، 2020 0 تعليق

طالبُ العلم في زمن (الكورونا)


تمرُّ على طالب العلم أزمنةٌ ذهبيَّةٌ لتحصيله المعرفي، يتهيَّأ له فيها من سعة الوقت وانصراف الشواغل ما يكون عونًا له على الخَطْوِ واسعًا في طريق تحصيله، هذه الأزمنة هي ما يبرهن على صدق طلبِه إنْ هو استغلَّها، ومتى ما فرَّطَ في هذه الأزمنة المهداة كان ذلك طعنًا في عدالة جدِّيته.

فعليه في هذه الأزمنة: أن يسعى في تكثيفِ تحصيله، وسدادِ ديونه العلمية، أن يقلِّب دفتر المهام، ويقيِّد ما عسى أن ينجزه من مشاريع وأعمال، ثم يبسطَ سجادة قراءته، ويبدأ في تسجيل أرباحه العلمية دون فتور.

مرحلة عصيبة

     وفي هذه الأيام نعيشُ مرحلةً عصيبةً بفُشُوِّ هذا الوباء (كورونا) -كفى الله المسلمين شرَّه-، حتى اضطرَّ واحدُنا للزوم بيته، وتجرَّع الناسُ مرارةَ هذا الاضطرار، وامتُحِنَ صبرُهم في دقائقه الأولى فنَفِدَ أو كاد، وأما الموفَّقُ فهو من يقرأ في صفحات هذه المِحْنة نصوصَ المِنَح، ويبحث في فجواتها عن مسالكَ ينفُذُ من خلالها إلى مدارج الرقي والرفعة، وينشغل بتحصيل العلوم، ناويًا بذلك التقرُّبَ إلى الله -تعالى- ومدافعةَ البلاء بصالح العمل، والعلمُ من أشرفِ ذلك وأرفعِه، وقد قال الخليل بن أحمد (170هـ): «إني لأغلق عليَّ بابي، فما يجاوزُه همِّي».

 قال أحمد أمين (1373هـ): «قليلٌ من الزمن يُخصَّص كلَّ يومٍ لشيءٍ معيَّنٍ قد يغيِّرُ مجرى الحياة، ويجعلُكَ أقومَ مما تتصوّر وأرقى مما تتخيَّل».

وقال مارون عبود (1381هـ): (إنَّ ساعةً تُنتَزَعُ كلَّ يومٍ من ساعات اللَّهْوِ وتُستَعمَلُ فيما يفيد تُمكِّنُ كلَّ امرئٍ ذي مقدرةٍ عقليَّةٍ أن يتضلَّعَ من علمٍ بتمامه).

الكثير لا القليل

وفي زمن (الكورونا)، بوُسْعِ طالب المعرفة أن يخَصِّصَ الكثير لا القليل، ساعاتٍ لا مجرَّد ساعة.. وإذا واظب في هذه الأيام على ذلك الكثير وتلك الساعات كان خليقًا بحصد الكثير من المنجَزَات، وما عليه ليتمكَّن من ذلك إلا التحلِّي بحِلْية الصَّبر، وللصبرِ -كما يقول ابن الجوزي- حَلاوةٌ تبين في العواقب.

مرحلة عابرةٌ

     ولأنَّ هذه المرحلة عابرةٌ لا قارَّة، استثناءٌ لا أصل، محدودةٌ لا ممدودة، فمِنَ الرأيِ لطالب العلم أن يخصص لها مشروعًا ينقطعُ له ويقبلُ عليه، مشروعًا علميًّا متكاملًا يحقِّق به طالبُ العلم منجَزًا في أحد مجالات العلم والمعرفة، هذا المشروع من شأنه أن يكون قصيرَ المدى، ولكنه عظيمُ الفائدة والعائدة، له مبدأٌ ومنتهًى، يُحقِّقُ به المرءُ مُنجَزًا معرفيًّا مكتملَ الأركان، أيًّا ما كان ذلك المشروع، قراءةً أو حفظًا أو تأليفًا أو غير ذلك.

ولا سيما هذه الفَلَتات المرحليَّة العابرة أنها تجعل للمشروع العلمي موقعًا مكينًا من ذهنيَّة طالب العلم، لتماسكه بسبب قرب إنجازه واتضاح حدوده، كما أن ذلك يُروِّضُه على فضيلة الانقطاع للعلم وجمع الهم عليه.

قال أبو هلال العسكريُّ (400هـ): «اجتهدْ في تحصيل العلم لياليَ قلائلَ، ثمَّ تذوقْ حلاوة الكرامة مُدَّةَ عمرك، وتمتَّع بلذَّة الشرف فيه بقيَّة أيامك، واستَبْقِ لنفسِك الذِّكرَ به بعد وفاتك»، فلتكنْ وصيَّةُ أبي هلالٍ هذه نصب عينَيْك هذه الأيام.

خارطة مشروعك

ثم إن ها هنا أمورًا من الحَسَنِ استصحابُها وأنت ترسم خارطة مشروعك في زمن الكورونا:

لا تشتِّت مشروعك

الأول: لا تشتِّت مشروعك هذه الأيام بكثرة التنقُّلات، ولا بكثرة المشاورات، بل حدِّدْ لك غايةً وانطلق إليها، {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (آل عمران: 159)، لا تلتفت، فالمشروعُ لِيَنجحَ بحاجةٍ إلى مزيدِ تركيزٍ وتكثيفٍ للنظر في مساحات معينة دون تشعُّثِ همٍّ وانتقالِ خاطر.

أعِدَّ مجلسَ مشروعك بعناية

الثاني: أعِدَّ مجلسَ مشروعك بعناية، أسرِفْ في إعداده وترتيبه وتطييبه؛ فإن لذلك أثرًا بالغًا في تهيئة النفس للإنجاز والتحصيل.

حُرْمَة لا تُنتَهَك

الثالث: اجعل لمجلس مشروعك العلمي حُرْمَةً لا تُنتَهَك، ولا تزاحمْه بغيره، حدِّد له أوقاتًا لا يشاركه فيها غيره، وأوَّلُ ذلك أن تخلِّص مجلسك من وسائلِ التواصل الاجتماعي.. اُركُلْ -بلا رحمةٍ- هاتفَك بعيدًا عنك، ولا تخفْ، فلن يتواصل معك أحدٌ لتُسعِفَ العالم بلقاحٍ لا يعرفه سواك! ثم إن لك في هامش يومك سعةً في متابعة ما تشاء من وسائل التواصل، وأمَّا زمن فاعليَّة المشروع فاجعله خالصًا له.

 

من آداب مواقع التواصل الاجتماعي

 

     الكتابة أمانة ومسؤولية، ويجب أن يعلم الإنسان ويستحضر أن كل شيء مسجل ومدون, قال -تعالى-: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}، فيجب أن يقف الإنسان مع نفسه وقفة محاسبة، هل في المشاركة أجر؟ هل فيها إحقاق للحق وإبطال للباطل أم عكس ذلك؟ ومن جملة آداب التعامل مع مواقع التواصل ما يلي:

- يجب على الإنسان أن يتحرى صدق ما يكتب؛ لأن المعلومة تصل للناس بسرعة هائلة، فإذا حرص المسلم على نشر المفيد كتب الله له أجرها، وإن كانت كذبا كتب عليه وزرها.

- أعظم القربات في مواقع التواصل على الإطلاق، نشر الآيات ومعانيها وتفسيرها، وكذلك نشر الأحاديث الصحيحة مع شرحها، مع احتساب الأجر في ذلك.

- يجب تنبيه الناس والشباب خصوصاً لخطورة نشر الكفريات والشركيات, والسخرية من الناس والتوافه والمحرمات, وما يترتب على ذلك من أوزار جارية.

- مواقع التواصل فيها مجال كبير للدخول في الرياء، فيجب الحذر قدر المستطاع.

- يجب على الإنسان قبل أن يكتب أي شيء أن يتثبت منه، فلا تنشر الظن والكذب والتفسير الخطأ للحقائق.

- لا يجوز نشر حكم شرعي غير مُتَأكد منه، فيقول أنا لست عالما ولكن أظن أن الحكم كذا وكذا، وهل يجوز أن يفتي الإنسان بالظن؟

- هناك أزمة نفسية عند الكثير وهي من الأسبق والأول في النشر؟ فيجب الحذر منها، قال - صلى الله عليه وسلم -: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع».

- يجب أن يعود الإنسان ويتوب ويعتذر ويتراجع عن نشر الخطأ والكذب والباطل.

- من الغيرة على الوقت ألا يتابع المرء ما يضيع وقته ويشغله عن الخير.

- هناك مسؤولية كبيرة على الآباء والأمهات في توجيه الأبناء لمن يتابعون، ومعرفة من يتابعون؟

- يجب مراعاة آداب النصح في مواقع التواصل, ومن أهمها نصيحتك في السر، وتكون بالحكمة والموعظة الحسنة.

- يجب نسبة الفضل لأهله في حال النشر، كما قال الشاعر: «ونص الحديث إلى أهله» - «فإن الوثيقة في نصه».

- يجب التأني وعدم سرعة التعليق على ما ينشر من غير تثبت أو تأنٍّ؛ فقد يتبين لك الأمر عندما تتحرى وتتثبت فتكون من النادمين على عجلتك.

- من أهم الآداب في مواقع التواصل غض البصر، قال -تعالى-: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}، {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}؛ لأن {ذلك أزكى لهم}.

- وأخيرًا، يجب أن تصاحب أهل التقوى والصلاح وتجلعهم جلساءك الإلكترونيين في المجامع والقروبات الخاصة، كما قال سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل».

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك