رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ د. عبد الرحمن السديس 11 فبراير، 2020 0 تعليق

ضوابط تجديد الخطاب الديني

في زمن الفتن الصحماء، والمحن الدهماء، وبين أحداث التاريخ، ووقائع الزمان، تنبجس قضايا تأصيلية جد مهمة، تحتاج إلى وقفات وتأملات، لتحديد المقاصد، والمنطلقات، والوسائل، والغايات، حتى لا تكوي أكباد الغيورين؛ لأنها قد تندرج تحت حروب فكرية ممنهجة، ترمي إلى فرض أنماط ثقافية ومفاهيم ومصطلحات غير شرعية في المجتمعات الإسلامية، ويتسنى ذروة هذه القضايا، قضية جوهرية خطيرة، تزداد خطورتها حينما تعلو أصوات خطابات التطرف، والتشدد، والغلو، والطائفية، والحقد، والكراهية، والعنصرية، هي قضية تجديد الخطاب الديني.

     إن شريعتنا الإسلامية الغراء، ملأت البسيطة عدلا وحكمة وتيسيرا ورحمة، واستوعظت قضايا الاجتهاد والنوازل، فهي ليست شريعة جامدة، أو أحكاما متحجرة، بل هي مرنة متجددة، لا تنافي التجديد في الوسائل وآليات العصر والإفادة من تقنياتة في مواكبة للمعطيات والمكتسبات، وموائمة بين الثوابت والمتغيرات والأصالة والمعاصرة.

من أصول أهل السنة والجماعة

     وإن من أصول أهل السنة والجماعة أن الله -تبارك وتعالى- وهب للعقل خاصية استحسان الحسن واستقباح القبيح، وأن الخلق مفطورون على ذلك، بَيْد أن من الأمور ما لا يمكن للأفراد من الخلق إدراك حقيقة الوسطية فيها, ولاسيما فيما يتعلق بالمستجدات والنوازل الكبرى، ومسائل الأمة العظمى؛ فكان حتما ولزاما الرجوع إلى الشارع الحكيم في ذلك, وهذه أولى ضوابط التجديد الموثوق في الخطاب الديني، أي يعتمد على النصوص والأدلة الشرعية، قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}، يقول الإمام ابن تيمة -رحمه الله-: «وكل من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد دعا إلى بدعة وضلالة»، والإنسان في نظرة مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة، هداه الله إلى الصراط المستقيم؛ فإن الشريعة مثل سفينة نوح -علية السلام- من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق.

التأصيل العلمي

     وثاني هذه الضوابط: التأصيل العلمي؛ فهو قارب النجاة دون الأفكار المضلة، والمشارب الهدامة المذلة، وبه يترسخ الوعي الشرعي السليم لكثير من القضايا المهمة، ولا يتم ذلك على الوعي الصحي المأمون، إلا بملازمة العلماء الراسخين والرجوع اليهم؛ فهم ورثة الأنبياء، ومصابيح الدجى، وهم الجهة الموثوقة في الفتوى، والنوازل، والملمات, وليس أنصاف المتعلمين ولا أشباههم؛ فمن اشتبه عليه علم شيء؛ فليكله لعالمه ولا يخبط فيه خبط عشواء، قال -جل وعلا-: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}، وقال -سبحانه-: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.

المحافظة على الأصول الثوابت

     الضابط الثالث: المحافظة على الأصول الثوابت؛ لأنها لا تقبل التجديد؛ لذلك كان من سمات هذه الشريعة المتميزة وخصائصها الألقة صلاحيتها لكل زمان ومكان، والثبات والدوام والخلود قال -تعالى-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، والتجديد يكون في المستجدات التي لا نص فيها, ولا يوجد لسلفنا الصالح -رحمهم الله- فيها رأي، أو قول، أو ما شبهها، ولا اجتهاد معتبر.

تصحيح الانحرافات

      الضابط الرابع: أن يستهدف التجديد لتصحيح الانحرافات العقدية والفكرية والبدع العملية والسلوكية؛ فالإسلام وحده هو الذي اهتم بالروح والجسد؛ بخلاف الشرائع والأنظمة الأخرى، الذي اهتم بعضها بالجسد على حساب الروح؛ فكان الانحلال الخلقي والآخر اهتم بالروح على حساب الجسد؛ فكان الانحراف الفكري والسلوكي.

التجديد الصحيح

     إن التجديد الصحيح للخطاب الديني يكون تجديدا في الأداء والوسائل دون المساس بالثوابت والأساس، وهو لا يعني قصورا سابقا في الخطاب، ولكنة تجديد يتطلبه اختلاف الزمان والمكان وتطور الوسائل والأدوات، ويكون في أسلوب الخطاب لا في روحه ورسالته، وهو بهذا مطلب شرعي، وقضية حيوية للمجتمع، لتجاوز هوة التخلف والتقليد؛ فيتواصل مع التراث ولا ينغلق عليه، بل ينفتح على العصر وآلياته؛ فيكون المقصود من التجديد، إحياء معالم الدين العلمية والعملية وبعثها، بحفظ النصوص الصحيحة والنقية، وتمييز ما هو من الدين مما هو ملتبس به، كتنقيته من الانحراف، والبدع النظرية، والإضافية، والعملية، والسلوكية، وبعث منهج النظر والاستدلال لفهم النصوص على ما كان عليه السلف الصالح -رحمهم الله- لتقريب واقع المجتمع المسلم في كل عصر إلى المجتمع النموذجي الأول، من خلال وضع الحلول الإسلامية لكل المستجدات والنوازل والملمات، وجَعْل أحكام الدين نافذة على أوجه الحياة، ووضع ضوابط لاقتباس النافع الصالح من كل حضارة على ما أبانته نصوص الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة -رحمهم الله.

الدعوة إلى الله -تعالى

     إن الدعوة إلى الله -تعالى- لا تنتشر بالخطاب الديني المتطرف، أو نشر الغلو والجفاء، وإنما تنتشر بالاعتدال والوسطية التي هي من أبرز خصائص الدين الإسلامي الحنيف، الذي يواجه التطور بلا جمود ولا تحجر, بل يبني الحياة على القواعد الشرعية، والنواميس المرعية، التي تستجيب لحاجات الأمة في مختلف الظروف والأحوال والبيئات، قال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.

تَسامحْ ولا تستوفِ حقك كله

                                    وأبقِ فلم يستقصِ قط كريم

ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد

                                    كلا طرفي قصد الأمور ذميم.

الخطاب الديني

     الخطاب الديني يبني ولا يهدم، ويجمع ولا يفرق, ويعمر ولا يدمر, ويشيد ولا يبيد, شعاره الرحمة، والتسامح، ودثاره الحوار، والتعايش، وعلى هذا المنهج الوسطي صار علماء السلف الصالح -رحمهم الله- يقول الإمام العز بن عبد السلام -رحمه الله-: «وعلى الجملة؛ فالأولى بالمرء ألا يأتي من أقواله وأعماله إلا ما فيه جلب مصلحة، أو درء مفسدة، مع الاعتقاد المتوسط بين الغلو والتقصير»، ويقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «ما من أمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى غلو وإما إلى تقصير، والحق وسط بين ذلك»، ويقول الإمام الشاطبي -رحمه الله-: «إن الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط العدل الأخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه».

شريعة الهداية والاستقامة

     ولذلك يتبين أن شريعة الإسلام،  شريعة الهداية والاستقامة والوسطية والاعتدال، وأن الخطاب في الإسلام، خطاب رحمة وتسامح، وأمن واستقرار، ورخاء وسلام، قال -تعالى-: {وَأَنَّ هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ  وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ  ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

الحفاظ على ثوابت الأمة

     إن المؤمَّل من قضية تجديد الخطاب الديني هو: الحفاظ على ثوابت الأمة وأصولها، أن تطالها يد العبث والتغير وتخليص الشريعة، مما علق بها من شوائب الجهل، والمحدثات، وأدران الأباطيل والضلالات، ومحاربة التعصب المذهبي، والتقليد المذموم اللذين يبثان في الأمة الفرقة والشقاق, وإمداد الأمة بنخبة من المجتهدين ذوي القدرات العالية، والملكات الفقهية المتزنة، القادرة على استنباط الأحكام, وتخريج الفروع على الأصول, والإسهام في علاج النوازل والمستجدات بمنهج وسطي معتدل، وإبراز محاسن الشريعة ومقاصدها، حتي لغير المسلمين، قال -تعالى-: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، ليكون دعوة لهذا الدين، من خلال الصورة المشرقة للمفاهيم الصحيحة التي تحقق الخير والعدل والصلاح للبشرية قاطبة {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}.

احتواء الشباب وتحصينهم

     ومما يؤكد في هذه القضية المهمة، تجديد الخطاب الديني للشباب لاحتوائهم وتحصينهم وحوارهم وتحفيزهم وتتويجهم، لئلا تغلب العاطفة العاصفة على العقل والاتزان والحكمة في الأمور, وهكذا خطاب المرأة المسلمة في تمكينها التمكين الشرعي في خدمة دينها ووطنها ومجتمعها, والتجافي عن خطاب الإقصاء والكراهية والتفرقة والطائفية والحزبية والمذهبية والعنصرية {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.

مواقع التواصل

     وإنك لواجد في الخطاب المتداول في بعض مواقع التواصل، ما يندى له جبين القيم والفضيلة والمروءة والأصول والثوابت، تتولى كبر ذلك أجندات مكشوفة في حرب إلكترونية وإرهاب تقني سافر ضد أمن الأمة واستقرارها الفكري وسلمها الاجتماعي.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك