رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 16 نوفمبر، 2020 0 تعليق

ضوابط الفقهية للأعمال الوقفية – الضوابط المتعلقة بصيغة الوقف – يصحّ تعليق الوقف على الموت ويجري مجرى الوصيّة


معنى الضابط: من علّق وقف شيءٍ من ماله -مما يصحّ وقفه- بموتِه، فإنّ هذا التعليق صحيحٌ، ينعقدُ به الوقْف، لكنه يكون محكوماً بأحكام الوصيّة، لأنّه في الواقع يُنزَّلُ منزلة الوصيّة بالوقف، ولا يكون وقفاً منجَّزًا من حين النُّطْق به. وصورة هذه المسألة أن يقول: إذا متُّ فداري هذه وقفٌ على المساكين -مثلاً. وقد ذهب الجمهور من أهل العلم إلى تصحيح هذه الصورة، وتنزيلها منزلة الوصيّة، على خلافٍ بينهم في مدى مطابقتها للوصيّة من كلّ وجه، أو وجود بعض الفوارق بينها وبين الوصيّة.

فالصحّة هي المعتمد عند الحنفيّة، وهي مذهب الشافعيّة والمالكيّة والحنابلة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيميّة.

وقد ذهب أبو حنيفة، وبعض الحنابلة، وبعض الشافعيّة إلى أنّ تعليق الوقف على الموت لا يصحّ، والراجح قول الجمهور.

     ومعنى أن ينزّل الوقف في هذه الصورة منزلة الوصيّة، أن تجري عليه أحكامها، في كونه لا يلزَم إلّا بالموت، ويجوز له الرجوع عنه، ولا يجوز في أكثر من ثلث المال إلّا بإجازة الورثة، ولا يجوز أن يكون وقفاً على وارثٍ إلا بإجازة الورثة أيضاً، كالوصيّة للوارث، ويكون كالوصيّة أيضاً في كونه إذا كان وقفاً على معيّنٍ، فإنّ ردّه لا ينفّذ إلا بعد موت الواقف، ولا عبرة بردّه في حياته، إلى غير ذلك من أحكام الوصية المشهورة، والمعروفة في مظانّها. قال في (ترتيب الصنوف): «لو قال أحدٌ: داري هذه وقفٌ بعد موتي على المساكين، أو محبوسة على المساكين، وكانت الدار مما تخرج من ثلث ماله، صحّ وقفه، وإلّا فلا».

وفيه أيضاً: (يصحّ الوقف المُضاف إلى غدٍ أو إلى الموت).

التطبيقات

1- من قال: داري هذه وقفٌ إذا متُّ، كانت وقفاً إذا كانت تساوي ثلث تركته فقط أو أقلّ من ذلك، فإن كانت أكثر من الثلث كانت صحّة الوقف فيما زاد على الثلث موقوفة على إجازة الورثة.

2- لو قال أحدٌ: جعلت عقاري هذا سقايةً سبيلاً بعد موتي على المسجد الفلاني، صحّ وقفه إن عيّن المسجد، وكان عقارُه مما يخرج من ثلث ماله.

الضابط الخامس

يصحُّ تعليقُ الوقْف على شرطٍ على المذهب الراجح

معنى الضّابط: كلُّ وقفٍ جُعل انعقادُه معلَّقاً بتحقُّق شرط، ومؤجَّلاً إلى حين حدوثِه، فالراجح أنّه وقفٌ صحيحٌ.

يدور البحث في هذه المسألة على ثلاثة أنواع من التّعاليق، هي:

- الأول: التعليق على شرطٍ مستقبل، كأن يقول: هذه الدّار وقفٌ إذا رضي أبي بذلك.

- الثاني: تعليق الوقف في صورة النّذر، كأن يقول: لله عَلَيَّ إن شفاني الله أن أقف داري على طلبة العلم، فذلك صحيحٌ، لأنّ النّذر يجوز تعليقه بالاتفاق.

- الثالث: تعليق الوقف على الموت، كأن يقول: إذا متُّ فداري وقفٌ على كذا وكذا، وقد سبقت هذه الصورة قريباً، فيبقى البحث في الصورتين الأوليَيْن، ولنبدأ بالثانية منهما لأنّها أوضح، ومحلّ اتّفاق.

تعليق الوقف في صورة النّذر

     التعليق بصيغة النّذر، وصورته أن يقول: لله عليّ إن شفى الله مريضي أن أجعل أرضي وقفاً، فإنّه نذرٌ صحيحٌ منعقدٌ، والوفاءُ به واجبٌ ديانةً لا قضاءً، لأنّ وجوب الوفاء بالنّذرٌ دينيٌّ وليس بحكم القاضي، فإن وفى بنذْره وجعلَ أرضَه وقفاً لزمَ الوقْف، ويكون لزوم الوقف بسبب وفائه بالنّذر، لا لإنشاء النّذر. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من نَذَرَ أنْ يطيع الله فليطعه، ومن نَذَرَ أن يعصيه فلا يعْصِهِ». فصحّة نَذْر الوقف محلّ اتفاقٍ بين الفقهاء، لأنّه نَذْر طاعةٍ.

تعليق الوقف على شرط:

- قدّمنا صورة هذه المسألةِ أوّلاً، وثمّة صورةٌ متّفقٌ على صحّتها من صور هذا التّعليق، وهي تعليق وقف المسجد، فقد اتّفق الفقهاء على أنّ من علّق وقْفَه لمسجدٍ على شرطٍ، فإنّ ذلك صحيح. إذا عُرف هذا، فإنّ التعليق على الشرط -فيما سوى النّذر والموت- له صورتان مشهورتان:

- الأولى: التعليقُ على شرطٍ موجودٍ قائمٍ محقّقٍ عند التعليق، كما لو قال: هذه الأرضُ وقفٌ على المساكين إن كنتُ أملكُها، وكان يملكها فعلاً عندما قال ذلك. وحكم هذا التّعليق أنّه يصحّ معه الوقْف، ويعد في حكم النّاجز.

- الثانية: التعليق على شرطٍ يُنتظر حصولُه وتحقُّقه في المستقبل، كما لو قال: أرضي هذه وقفٌ إن جاء زيدٌ من السّفر.

اشتراط التنجيز في الوقف

وهذه الصّورة هي محلّ الخلاف بين أهل العلم، وفيما يأتي بيان ما يتعلّق بالصورتين من كلام الفقهاء والقانونيّين:

عبّر القانونيّون الآخذون بمذهب الحنفيّة عن هذا المعنى بعد التوطئة له باشتراط التنجيز في الوقف، فقد جاء في المادّة (257) من (ترتيب الصنوف)(ص134): «يُشترط أن يكون الوقف منجّزاً»، والمنجّز هو غير المعلّق على شيء.

ثمّ قال شارحاً: «ولأجله لا يصحّ الوقْف المضاف أو المعلّق، إنّي جعلت عقاري هذا صدقةً موقوفةً غداً مثلاً، أو إن انتهى الشّهر، أو كلّمتُ فلاناً، أو إنْ تزوّجت فلانة، بطل الوقف».

ولم يُلْغَ أثر التّعليق عندَهم إلّا إذا كان الشرطُ كائناً واقعاً في الحال لا في المستقبل.

قال في المادة (262): «التعليق على ما هو موجود ومحقَّقٌ في الحال يعتبر تنجيزاً».

وعلَّلَ ذلك بقوله: «وذلك لما يستلزمه التعليق من انعدام المعلّق عليه وقت التعليق مع إمكان وجوده، أمّا إن كان المعلّق عليه موجوداً فلا مجالَ أو وجهَ للتعليق، وعليه فيصحُّ وينجُز الوقف المعلّق على ما هو موجود ومحقَّق حين الوقف».

ثمّ مثّل للشرط المحقّق في الحال بقوله: «فلو أشار أحدٌ إلى عقارٍ له قائلاً: إنْ كان هذا العقارُ ملكي فهو وقفٌ، ثمّ ظهر أنّه يمتلك ذلك العقار وقت قوله، صار ذلك العقار وقفاً».

وبه جزمَ كذلك في «قانون العدل والإنصاف»، فإنّه نفى صحّة الوقف المعلّق بشرطٍ كائنٍ في المستقبل أو غير كائنٍ، إلّا ما كان محقّقًا في الحال.

بُطلان الوقف المعلّق بشرطٍ

     وبُطلان الوقف المعلّق بشرطٍ هو مذهب الحنفيّة، والشافعيّة، والحنابلة، وهذا الإبطالُ بطبيعة الحال مبنيٌّ عندهم على أصولٍ في التّعاليقِ عموماً وتأثيراتها على صحّة العقود، ولم يفرّقوا بين الشروط الكائنة، أي التي لا بدّ أن تتحقّق يقيناً، كقوله: عقاري هذا وقفٌ إن جاء شهر رمضان، ولا في المشكوك في تحقُّقها، كقوله: عقاري هذا وقفٌ إن تزوّجتُ فلانة. قال ابن قدامة: «ولا يجوز تعليق ابتداء الوقف على شرط في الحياة، مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر فداري وقف، أو فرسي حَبيس، أو إذا وُلد لي ولد، أو إذا قدم لي غائبي، ونحو ذلك، ولا نعلم في هذا خلافاً؛ لأنّه نقلٌ للملك فيما لم يُبْنَ على التغليبِ والسِّرايةِ، فلم يجز تعليقه على شرطٍ، كالهبةِ».

     أمّا المالكيّة فلم يشترطوا التنجيز لصحّة انعقاد الوقف، بل صحّحوا ما وقعَ منه معلَّقاً ولو كانَ وقْفُ العين معلَّقاً على ملكها أصلاً، كما لو قال: إن اشتريتُ دار فلانٍ فهي وقفٌ، يصحّ وينعقد، وقد قاسوا الوقف في ذلك على العِتْق. وهذا القول هو إحدى الروايات عند الحنابلة أيضاً، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميّة، وتلميذه ابن قيّم الجوزيّة، وهو الرّاجح لقوّة أدلّته وتعليله، فإنّ التعليق لا يستغني عنه المكلّف، ولا يمنع الشرع منه، والأصل في الشروط السّلامة والصّحّة إذ لا محذور فيها، خاصة في عقود التبرّعات التي هي أوسع شأناً من غيرها، والتي من مقصود الشرع التشجيع عليها والحثّ على الاستكثار منها لما لها من منافع في الدنيا والآخرة.

معنى التنجيز في صيغة عقد

     قال العلّامة الشيخ مصطفى الزرقا: «ومعنى التنجيز في صيغة عقد الوقف، أن لا يكون فيها تعليقٌ على شرط غير كائن، ولا إضافة إلى المستقبل، لأنّ الوقف فيه معنى تمليك المنافع والغلّة، وإن كان إسقاطاً للملكيّة على الأرجح بالنسبة إلى رقبة الموقوف، والتمليكات عامّة كالهبة والصدقة والعارية يُبطلُها التعليق والإضافة، وإنّما صحّت الوصيّة مع أنّها تمليكٌ مُضافٌ إلى ما بعد الموت على سبيل الاستثناء، تشجيعاً على عمل البرّ وتسهيلاً له». والشيخ هنا مع كونه يقرّر مذهب الحنفيّة في بطلان الوقف المعلّق بالشرط، فإنّه يقرّر كذلك أنّ العلّة التي من أجلها صحّت الوصيّة مع كونها معلّقة بالموت هو تسهيل أعمال البرّ، فنقول: ولهذه العلّة بعينها فإنّ مذهب المالكيّة الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيميّة أيضاً بتصحيح الوقف المعلّق، هو الذي ينبغي ترجيحه والمصير إليه والله أعلم، فإنّ هذه العلّة متحقّقةٌ فيه وظاهرةٌ ظهوراً جليًّا بيّناً.

وعلى مقتضى هذا الترجيح، خرجَ هذا الضّابط، وبناءً عليه فإنّ الوقف المعلّق على شرطٍ صحيحٌ، لأنّ المعلّق بشرطٍ كالمنجّز عند وجود ذلك الشرط، وهذه العبارة في ذاتها قاعدةٌ أطلقها جماعةٌ من الفقهاء.

التطبيقات:

1- إذا قال: إذا جاء رمضان، فأرضي الفلانيّة وقفٌ على المساكين، فإنّه يصحّ على الراجح، وتصيرُ وقفاً إذا دخل رمضان الدّخول المعتبر شرعاً.

2- إذا قال: لله عليَّ أن أقف داري على المساكين إن شفى الله ولدي، فهو نذرٌ صحيحٌ، يجب عليه الوفاء به، فإنْ لم يفِ؛ احتمل عواقب ذلك ديانةً ولا تكون داره وقفاً، وإن وفى فهي وقف.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك