رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني 13 مايو، 2014 0 تعليق

ضوابط التكفير والتفسيق وأصولهما عند أهل السنة والجماعة


أين الحرص على هداية الخلْق أولاً، والسعي في تبليغهم دين اللـه، وإزالة الشبهات عنهم – لهدايتهم لا للتسرع في إلقاء الأحكام عليهم؟!

 

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:

فاعلم أن الاختلاف في مسألة الأسماء والأحكام – أي وَصْف الرجل بالإيمان أو الكفر، ومِنْ ثَمَّ الحكم عليه بالجنة أو النار – أول خلاف وقع في هذه الأمة، وظهر به الفَرْق بين أهل السنة، والخوارج والمعتزلة والمرجئة.
ثم اعلم أن الحُكْم على الناس بالتكفير والتفسيق أمره عظيم عند الله – كما سيأتي بيانه قريبًا إن شاء الله- ولذلك وضع له أهل السنة ضوابط وقيودًا وأصولاً, حتى يكون إطلاق ذلك صوابًا, بعيدًا عن الإفراط والتفريط, لما لذلك من آثار سيئة على الفرد والمجتمع, كما سيأتي تفصيله – إن شاء الله تعالى- إلا أنني أحب التنبيه على أمور قبل الكلام عن هذه الضوابط، فمن ذلك:

1- أهل السنة إنما يُحَذِّرون من الإفراط أو التفريط في هذه الأحكام, أما إذا كان الحكم الصادر من العالم المتأهِّل لذلك قد رُوعيتْ فيه ضوابطه وأصوله؛ فإنهم لا يمنعون من جواز إطلاق الحكم حينئذٍ, بل يتقربون إلى الله تعالى بذلك, وإلا وقعوا في الحكم بغير ما أنزل الله, إنما يذمون التجاوز للحد, أو التقصير عنه؛ لذا فهم يذمون منهج الفِرَق المُفْرِطة في ذلك كالخوارج, والمعتزلة, والرافضة, وغيرهم, كما يذمون منهج الفرق المُفَرِّطة في ذلك كالمرجئة, فإن كلا طرفَيْ قَصْدِ الأمورِ ذميمُ.

2 – الخلل في هذا الباب الخطير يؤدي إلى الفوضى, واستحلال الدماء والأعراض والأموال, ويُقطِّع أوصال المجتمع المسلم, وهذا مما يريده الشيطان وحزبه, يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}(الأنعام:159)،وقال تعالى: {}(آل عمران:103)،  وقال عز وجل: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ(الشُّورى:13)،  وقال جل وعلا: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }. (الرُّوم: 31 - 32).  ويقول صلى الله عليه وسلم : «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض».
فلا بد من تحرير هذه الضوابط, ومراعاتها بدقة، حتى لا تصل الأمة إلى هذا الحد المدمِّر من فساد ذات البين، وحتى يحافظوا على وَحْدتهم، وأُلْفتهم، وقوتهم.

3 – لا شك أن الخلل في هذا الأمر العظيم له أسباب كثيرة, فمنها:

أ – عدم الرجوع إلى الكتاب والسنة في معرفة الأحكام الشرعية, إنما يحْتكمون في هذا الأمر الخطير إلى قواعد مُحْدَثة, وأقوالٍ عارية عن الأدلة, وحظوظ نفسية, وعصبية جاهلية, والله عز وجل يقول: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ}(البقرة:231)، وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَىٰ}(النَّجم:23). فترى بعض الناس هَمَّه إطلاق أحكام الكفر على الآخرين، فإذا ذكرْتَ له ضوابط أهل السنة، وحررْت له أدلتها، وأخبرتَه أن هذا المقام ليس كلأً مباحًا لكل أحد، وشَعَر بتضييق الخناق في هذا، قال: بناءً على هذا فلا يوجد كافر، أو من نكفِّر إذًا؟ وكأن الغلو في التكفير، وتوسيع دائرته على الأفراد والمجتمعات غاية شرعية، ومقصد من مقاصد الشريعة من أول وهلة!! ألم يعلم هذا القائل أن الواجب شرعًا دعوة الناس إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والشفقة عليهم، والحرص على هدايتهم، والفرح باستقامتهم، والتألم لإعراضهم؟ كما وصف الله رسولهصلى الله عليه وسلم بحرصه على المؤمنين، فقال سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}(التوبة:128)، بل قال الله عز وجل مُسَلّيًا نبيهصلى الله عليه وسلم في صبره على دعوة الكفار، وحرصه على هدايتهم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴿}(الكهف:6). قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري – رحمه الله- في تفسير هذه الآية: «يعني تعالى ذكره بذلك: فلعلك يا محمد قاتل نفسك ومهلكها على آثار قومك الذين قالوا لك: {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا}(الإسراء:90)  تمردًا منهم على ربهم، إن هم لم يؤمنوا بهذا الكتاب الذي أنزلته عليك، فيصدِّقوا بأنه من عند الله؛ حُزْنًا وتلَهُّفًا ووجْدًا، بإدبارهم عنك، وإعراضهم عما أتيتهم به، وتركهم الإيمان بك” اهـ.

     فأين الحرص على هداية الخلْق أولاً، والسعي في تبليغهم دين الله، وإزالة الشبهات عنهم – لهدايتهم لا للتسرع في إلقاء الأحكام عليهم إن لم ينقادوا-؟ وأين التلطُّف في دعوتهم، وعدم إعانة شياطين الجن والإنس عليهم؟ أين هذا كله قبل الاندفاع إلى تكفير المسلمين، والحكم بخروجهم من ملة الإسلام؟

     نعم، تكفير من لم يدخل في الإسلام أصلاً، ومن ارتد ردة صحيحة صريحة، وأفتى بذلك العلماء ومراجع الأمة، كل ذلك لا يتعارض مع دعوته بالحكمة، ومجادلته بالتي هي أحسن، أو إقامة الحد عليه إذا استوفى شروط ذلك كله، وانتفت عنه موانعه، وكل هذا مما جاءت به الشريعة الشاملة الكاملة.

ب – ومن أسباب الخلل في هذا الباب: التأويلات الفاسدة, وأَخْذُ أحكام هذا الباب عن غير أهله الفاقهين فيه، ولا شك أن الرجوع إلى فهم الصحابة – رضي الله عنهم- ومن تبعهم بإحسان من علماء هذه الأمة هو سبيل النجاة، والأدلة والتاريخ يشهدان بذلك.

     وقد ذكر الإمام ابن القيم في كتابه «الصلاة وحكم تاركها» (ص26) تقسيم الكفر إلى أكبر وأصغر، ثم قال: «وهذا التفصيل هو قول الصحابة، الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام والكفر ولوازمها، فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم، فإن المتأخرين لم يفهموا مرادهم، فانقسموا فريقين…» إلخ، ثم ذكر انقسام الكفر، والشرك، والنفاق، والفسق إلى أكبر وأصغر.

     ويُذْكَر هنا ما أخرجه الخطيب: أن أحد الخوارج أُدخل على المأمون، فقال: ما حملك على خلافنا؟ قال: آية في كتاب الله تعالى، قال: وما هي؟ قال: قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(المائدة: 44). فقال له المأمون: ألك عِلْمٌ بأنها منزلة؟ – أي هل أنت متيقن من كونها آية من القرآن الكريم؟- قال: نعم، قال: وما دليلك؟ قال: إجماع الأمة، قال: فكما رضيت بإجماعهم في التنزيل، فارْض بإجماعهم في التأويل، قال: صَدَقْتَ، السلام عليك يا أمير المؤمنين أهـ، وهذه الحكاية وإن لم يصح سندها؛ إلا أن المعنى صحيح، أي فكما صدَّقنا الصحابة – رضي الله عنهم- ومن تبعهم بإحسان في الرواية، فلْنأخذ بمنهجهم في الدراية، وكما قَبِلْنا نقْلهم للتنـزيل؛ فلْنقْبلْ فهمهم للتأويل.

جـ – ومن أسباب هذا الخلل في باب التكفير: لَبْس الحق بالباطل, وترْك بعض الحق, وأَخْذ بعض الباطل, وهذا ناتج عن الكلام في أمر لم تُجْمَع أدلته، ولم يُرْجَع فيه إلى أهله.

د- التساهل في ظُلْم الناس, ووجود النزعة العدوانية عليهم, كما جرى من الخوارج في ظلمهم وتكفيرهم للصحابة، وقتل بعض الخلفاء الراشدين – وإن أَلْبسوا ذلك لباس التديُّن والتأويل- بل تجرَّأ أصلهم ذو الخويصرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اعدل يا محمد».

هـ – تفسير المصطلحات الشرعية بغير الشرع, وتوسع بعضهم في الرجوع في هذا الباب إلى كُتَّاب عصريين، وشباب متهورين، واعتماد كثير منهم على كتب اللغة في تفسير القرآن والسنة, مع أن الألفاظ منها شرعي لا يفسِّره إلا الشرع وأهل العلم المتخصصون فيه: كالصلاة، والصوم, والإيمان, والكفر, ومنها كلام لغوي يُرجع فيه إلى كتب اللغة: كالشمس والقمر, ومنها عُرْفي يُرجع فيه إلى العُرف, كالمرض والسفر المرخِّصَيْن في الفطر والقصر.

و- عدم إعذار بعضهم الناسَ بالعجز والخطأ, ويرون ذلك تفريطًا منهم يُعاقَبون عليه بالتكفير، ومِنْ ثَمَّ الحكم عليهم باستحلال دمائهم.

 ز- ومن خلال الضوابط التي ستُذكر يمكن القول: بأن الإخلال بأي ضابط منها سبب من أسباب الإخلال بهذا الباب, والله أعلم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك