ضوابط التكفير والتفسيق وأصولهما عند أهل السنة والجماعة (3)
بعد أن ذكرنا في الحلقة السابقة الأدلة التي تحذر من الإفراط في التكفير والتفسيق, وكذلك الأدلة التي وردت في مقابلها بتهديد من أخطأ في الحكم بإسلام كافر إذا كان مُدَّعِي التسوية مصيبًا! نستكمل الحديث في ذلك المقام ونقول:
ومما يدل على الاستفصال عند ورود الاحتمال في الإخراج من الإسلام: قصةُ حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه - عندما أرسل كتابًا إلى كفار قريش، يخبرهم بتجهيز الرسول -صلى الله عليه وسلم – جيشًا لفتح مكة، وسمى الله -عز وجل- هذا الفعل موالاةً للكفار, فقال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} (الممتحنة:1) فسمى الله فعله موالاة للكفار, وإلقاءً وإسرارًا بالمودة إليهم, وَوَصَفَ مَنْ فَعَل ذلك بأنه قد ضل سواء السبيل, ومع ذلك لم يُكَفِّر حاطبًا بعينه, بل ذكر الخطاب للمؤمنين، فقال سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.....} وحاطِبٌ داخل في عموم ذلك, لأن الموالاة تنقسم إلى قسمين, موالاة تامة مُكَفِّرة, وهي ما كانت عن حب لدينهم, ورغبة في نصرتهم, وإجلال وتقدير لهم, وموالاة ناقصة غير مُخْرِجة من الإسلام، وهي ما كانت عن حب في دنياهم, مع كراهية دينهم الباطل.
وقد نهى الله عن موالاة الكفار, فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة:51) وقال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)}. (النساء:138-139). ويقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (الحشر:11).
وقد قال القرطبي : «مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعُه على عورات المسلمين, ويُنَبِّه عليهم, ويُعَرِّف عدوهم بأخبارهم؛ لم يكن بذلك كافرا, إذا كان فعله لغرض دنيوي, واعتقاده على ذلك سليم, كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد, ولم ينو الردة عن دينه» اهـ.
وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم - لحاطب: «ما حَمَلَكَ على ما صنعتَ يا حاطب»؟ دليل على التريُّث قبل إطلاق التكفير على أمر يحتمل التكفير وما دونه, وإذا كان الأمر لا يحتمل إلا التكفير؛ فهناك أمر زائد على ذلك وهو: أنه ينبغي التريُّث حتى نتأكد من استيفاء شروط الحكم بالتكفير أو التفسيق وانتفاء موانعه, أم لا؟ فإذا تخلّف شرط, أو وُجِدَ مانع؛ فلا تكفير ولا تفسيق.
ولما حمل عمر -رضي الله عنه - فِعْلَ حاطب على الكفر الأكبر – وهو النفاق الموجب لضرب العنق- بَّين له النبي -صلى الله عليه وسلم - أن الأمر ليس كذلك, ولما قال حاطب: والله يا رسول الله, ما فَعَلْتُهُ رغبةً في الكفر, ولا رِدَّةً عن ديني, ولكن لكل واحد منكم قرابة في مكة, وأنا أعلم أن الله ناصرك, وليس لي عندهم قرابة, و لي صبيان عندهم, فأردت أن تكون لي يد عندهم؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «صَدَقَ حاطب» فلما استأذن عمر في قتله؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ما يدريك يا عمر، لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وفي هذا الجواب فوائد:
1- العبرة بجواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لا باستئذان عمر في القتل؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم - رد على عمر رأيه بقتل حاطب، وإن لم يَرُدَّ عليه رأيه بقتْل من دلَّ على عورات المسلمين في الجملة.
2- قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في أهل بدر ليس معناه: وإن كَفَرَ الرجل من أهل بدر فهو مغفور له؛ لأن الكفر يحبط عمل صاحب الرسالة لو فرضنا إمكان وقع ذلك منه, – فضلاً عن البدري- إلا أن الله -عز وجل- عصم الرسل من الكفر والكبائر، ومع ذلك فلو وقع هذا منهم لحبط عمل من وقع منه ذلك لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزُّمر:65) فهل يكون من شهد بدرًا أعظم مكانة عند الله من صاحب الرسالة ؟
3- معلوم أن الذنوب ثلاثة أقسام: صغائر, وكبائر, وشرك, فالصغائر تُغْفَر باجتناب الكبائر، وذلك حُكْم عام لأهل بدر وغيرهم, لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (النساء:31) أي نكفِّر مادون الكبائر، وهي الصغائر, ومعلوم أيضًا أن الشرك لا يُكَفِّره إلا التوبة، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا} (النساء:48) وهذا عام في أهل بدر وغيرهم, إذًا فماذا بقي خصيصة ومزية لأهل بدر عن غيرهم، كما يدل الحديث السابق؟ لم يبق لهم إلا قسم الكبائر, فغيرهم لا يُكَفِّرها في حقهم إلا التوبة, وإلا فهو معرَّض للوعيد, أما أهل بدر فيغفر الله لهم بالتوبة, أو بشهود بدر, وإن كان أهل بدر أتقى لله وأعلم به من إصرارهم على صغيرة فضلاً عن كبيرة, فظهر من هذا أن جواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - على عمر يشير إلى أنها موالاة من قسم الكبيرة لا من قسم الشرك الموجِب للنفاق والقتل.
- والمقصود هنا: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الذي قَبِلَ إسلام مَنْ قتله أسامة لنطقه بالشهادة مع الشبهة، وحذَّر المقداد من الإقدام على قتْل من قَطَع يده, وقد أراد قتله لنطقه بالشهادة مع وجود الشبهة أيضًا, وودى بني جذيمة الذين قتلهم خالد, ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا, فقالوا, صبأْنا, صبأْنا, وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» قاله مرتين، وقَبِلَ إسلام الوفود مع احتمال أن يكون بينهم أحد من المنافقين الذين مردوا على النفاق من الأعراب الذين هم حول المدينة, وهو -صلى الله عليه وسلم - لا يْعلَمهم, والله عز وجل وحده الذي يعلمهم، كل هذا في جهة الإدخال في الإسلام، ولما حَدَثَ مِنْ حاطب أمر يحتمل التكفير وغيره – وهذا في جهة الإخراج من الإسلام- لم يحمِلْه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - على الكفر, بل سأله واستفصله, وصدّقه على قوله, بأنه لم يفعل ما فعل رغبة في الكفر, وأنكر على عمر عندما حمل فعله على النفاق, واستأذن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - في ضَرْب عنقه, وإن كان غير حاطب قد يفعله نفاقًا وردة، كل هذا يدل على أن الشريعة جاءت بالتسهيل والتيسير في أمر الدخول في الإسلام, والتشديد في أمر الإخراج منه, فكيف يُدَّعى أنهما سواء؟!
(د) ومن الأدلة على التفرقة قاعدة: (الخطأ في العفْو أسهل من الخطأ في العقوبة)، وهي مأخوذة من عمومات في الشريعة، ومن حديث: «لأن يخطئ أحدكم في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة»، وهو مع ضعفه من جهة الإسناد؛ إلا أنه موافق لمقاصد الشريعة:
وذلك أن من أخطأ في العفو, وظهر له خطؤه بعد ذلك؛ فإنه يمكنه الاستدراك لما فاته, بخلاف من أخطأ فكفَّر رجلاً, فقُتل هذا الرجل رِدَّةً, ثم اتضح بعد ذلك أن الحكم بكفره كان خطأ, فلا يمكن الاستدراك بعد ذلك!
(هـ) قاعدة: ادرؤوا الحدود بالشبهات, وقد رُوي ذلك مرفوعًا، ولا يصح.
(و) من حُكِمَ له بالإسلام فلا يخرج منه إلا بيقين,وحصول اليقين لا يكون مع وجود شك أو احتمال, بخلاف الحال عند الحكم بدخوله الإسلام.
فهذه أدلة ظاهرة على عدم التسوية بين الخطأ في تكفير مسلم, والخطأ في الحكم بإسلام كافر, وأن الأول أعظم عند الله, وسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - تدل على ذلك أيضًا, والله أعلم.
لاتوجد تعليقات