ضوابط التكفير والتفسيق وأصولهما عند أهل السنة والجماعة (4)
بعد أن ذكرنا في الحلقة السابقة الأدلة الظاهرة على عدم التسوية بين الخطأ في تكفير مسلم, والخطأ في الحكم بإسلام كافر, وأن الأول أعظم عند الله, وسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تدل على ذلك أيضًا نقول:
كلامنا في هذا البحث إنما هو في الرجل المسلم المحكوم بإسلامه, إذا وقع في مُكَفِّر, فلا بد عند إخراجه من الإسلام الذي ينتمي إليه من مراعاة شروط وموانع, أما الكافر الأصلي – الذي لم يدخل في الإسلام أصلاً: كتابيًّا كان أم وثنيًّا- فردًا كان أم طائفة, أم أمة, فليس كلامنا في ذلك, بل من حكم على اليهود والنصارى بأنهم مسلمون؛ فهو إما جاهل ملبَّس عليه, أو شاك في حكم الله, أو معاند والأمران الأخيران مُكَفِّران؛ والجاهل الملبَّس عليه يُعَلَّم, فقد حَكَمَ الله بكُفْر هؤلاء في القرآن في كثير من الآيات، منها قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (البيِّنة:1) وقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (المائدة:73) وقوله سبحانه: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِيْنَ قَالُوْا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيْحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (المائدة:17) وقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (المائدة:82) وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفس محمد بيده, لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني, ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أُرسلت به؛ إلا كان من أصحاب النار»؛ لذا فقول من قال: «من لم يكفِّر الكافر فهو كافر» محمول على من لم يُكَفِّر الكفار الأصليين الذين صرح القرآن وصرحت السنة بتكفيرهم، وكذلك مَنْ صَرَّح الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم - بكفره بعينه كفرعون, وأبي لهب, وهامان, وقارون...إلخ، أما المسلم الذي فعل فعلاً، واختُلف في تكفيره بسبب الأمر الطارئ عليه، سواء كان ذلك للاختلاف في الدليل: هل هو صريح في التكفير أم لا؟ وكذلك إذا سلمنا بتصريح الدليل على الكفر؛ فهل المعيَّن قد استوفى شروط التكفير أم لا؟ ففي هذه الحالة أو تلك لا تُطبَّق قاعدة: «من لم يُكفِّر الكافر؛ فهو كافر» والحال كذلك، والله أعلم.
6- يجب الحذر من مجالسة الدعاة إلى هذا الفكر الغالي في الأحكام على الآخرين, والحذر من كتبهم، ورسائلهم، ومواقعهم على شبكة «الإنترنت» وغيرها، وكذا يُحذر من مجالسة الدعاة إلى التفريط في باب الأحكام على الآخرين, والطامسين لمعالم الدين وقواعده في الولاء والبراء، والتحذير من صور الشرك، فكلاهما حاكم بغير ما أنزل الله, وقد قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (النساء:140) ويقول سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأنعام:68) والنصوص كثيرة عن السلف في عدم مجالسة مَنْ أَحْدَثَ في الدين, إلا بتفاصيل معروفة عند أهل العلم, والله أعلم.
- وبعد الفراغ من هذه الأمور التي لزم التنبيه عليها؛ فهذا وقت الشروع في ذكر الضوابط والأصول التي أكّد عليها علماء السنة, حذرًا من الإفراط والتفريط:
- الأول: التكفير والتفسيق أمر أو حُكْم شرعي سَمْعي, وهو كغيره من الأحكام الشرعية من هذه الجهة, لكنه من أهم الأحكام التي يجب الرجوع فيها إلى دليل من الكتاب والسنة, فلا يجوز أن يكون التكفير, أو التفسيق, أو التبديع أو التضليل راجعًا إلى هوى, أو عصبية, أو ذوق, أو عادة, أو سياسة, أو منام, أو انتقام وانتصار للنفس...أو غير ذلك؛ لأن الحاكم بشيء مما سبق مُبَلِّغ عن الله عز وجل, فلا بد أن يستند في كلامه إلى نص شرعي, والأدلة على ذلك كثيرة, منها:
أ- قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف:33) ويقول تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء:36) ويقول سبحانه:{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (النور:15) وغير ذلك من آيات.
وقد ترجم علماء أهل السنة هذه النصوص وما في معناها ترجمة عملية واضحة في هذا الباب, فلم يُكفِّروا إلا من قام الدليل على كُفْره, بل إن من كفَّرهم ظلمًا وعدوانًا وإسرافًا لم يُكَفِّروه إذا كان لا يستحق ذلك, فالخوارج كفَّروا عليًا والصحابة – رضي الله عنهم جميعًا-، ومع ذلك لما سئل عنهم -صلى الله عليه وسلم - فلم يكفِّرهم, مع أنهم يكفَّرونه, وآل أمرهم إلى أن استحلوا دمه بالتأويل الفاسد, فلما قيل له: أُكُفَّارٌ هم؟ قال: مِنَ الكُفْر قد فرُّوا, قيل: أمنافقون؟ قال: المنافق يذكر الله قليلاً، وهم يذكرون الله كثيرًا, قيل له: فما هم؟ قال: قوم بغوْا علينا، فقاتلناهم، فلم ينتصر لنفسه ولإخوانه الذين قُتلوا في القتال – وهم أفضل من ملء الأرض من الخوارج- ولم يقل: لقد كفَّروني، وأنا مُبَشَّر بالجنة، ومناقبي مشهورة؛ إذًا فهم كفار؛ لأن من كفَّر مسلمًا بدون حق فهو أوْلى بهذه الكلمة!! هكذا فقْه أئمة الصحابة ومن بعدهم لهذه النصوص، لا فقه المتهورين.
وهذا الإمام أحمد وعلماء عصره قد كفَّرهم الجهميةُ, وعذّبوهم, وعاملوهم معاملة الكفار, وقتلوا بعض العلماء كأحمد بن نصر الخزاعي, وسجنوا الآخرين...الخ, ومع ذلك لم يكفِّرهم بأعيانهم – في الجملة- أحمد ولا غيره لجهلهم, ودخول الشبهة عليهم, وإن كانت هذه المقالة قد كفَّر السلف من قال بها، بل صرَّح بكفرهم خمسمائة من العلماء، كما ذكر أسماءهم اللالكائي في (شرح اعتقاد أصول أهل السنة والجماعة)، وقال الإمام ابن القيم في (نونيته):
ولقد تقلَّد كُفْرَهم خمسون في
عشْرٍ من العلماء في البلدان
واللالكائيُّ الإمامُ حكاه عنهم
بل قد حكاه قبْلَه الطبرانِي
ومع هذا التكفير العام لمن قال بهذه المقالة، فقد كان السلف يصلّون وراء هؤلاء الأئمة, وهم يقولون بخلْق القرآن, ولا يرون نزع اليد من الطاعة, بل قد حَلَّل الإمام أحمدُ – أي سامح- الأئمة الذين عذبوه, ولو كانوا كفارًا عنده ما حَلَّلَهم, كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم – رحمهما الله- قَد عُذِّبا, وأُهينا, ومع ذلك فهما من أبعد الناس عن تكفير من أساء إليهما, دَعْ عنك من هو دونهم في الإساءة إليهما!! بل قد أفتى علماء عصر شيخ الإسلام ابن تيمية بقتله وحِلِّ دمه، فلما تغيرت الأحوال، وأراد الأمير قتل هؤلاء، فزع ليستصدر الفتوى بحل دمائهم من شيخ الإسلام، فأبى عليه، وقال: «فشرعْتُ في مدحهم، والثناء عليهم، وشُكْرهم، وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجِدْ مثلهم في دولتك، أما أنا فهم في حَلٍّ من حقي، ومن جهتي...» قال: «فكان القاضي زين الدين بن مخلوف – قاضي المالكية- يقول بعد ذلك: ما رأينا أفتى من ابن تيمية، لم نُبْق ممكنًا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا».
ومع أن العلماء ردُّوا على من خالفهم, وما تركوا لهم شاذّة ولا فاذَّة إلا ورجموها بشُهب الأدلة الساطعة, وحذّروا مِنْ طُرُق أهل الغواية والضلالة المكفِّرين لعلماء السنة؛ إلا أنه لم يُشْهَر عنهم -مع كثرتهم وتطاول القرون- أنهم كَفَّروا أحدًا ممن كفَّرهم بدون دليل شرعي, أو من باب رَدَّة الفعل، والانتقام للنفْس، ولا يلزم الإصابة في كل الحالات, إلا أن الإصابة فيهم أكثر, وهم بين أجر وأجرين؛ ولذا شاع عن أهل السنة أنهم يُخطِّئون ولا يكفِّرون, فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-: فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضًا، ومن ممادح أهل العلم أنهم يُخطِّئون ولا يُكَفِّرون...إلخ، وهذا محمول على من كان خطؤه ليس كفرًا صريحًا, أو من وقع في الكفر الصريح لكن عن خطأ, أو تأويل, أو جهل, ونحو ذلك, فكانوا حقًّا: أعلم الناس بالحق, وأرحم الناس بالخلق, ولا يلزم من ذلك أنه لا يوجد فيهم من هو خلاف ذلك, كلا, إلا أنهم ينكرون على من خالف ذلك منهم، وإن كان من أئمتهم, فضلاً عمن هو دونه, وهم على ما فيهم في الجملة أفضل من غيرهم من الطوائف, فما كان فيهم من شر- مع إنكاره على القريب والبعيد- فهو في غيرهم أكثر, وما كان عند غيرهم من خير فهو فيهم أكثر, فلله دَرُّهم, وعلى الله أجرهم, وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المعنى.
- الثاني من الضوابط: أن الأحكام على الناس لا تُقْبل إلا من أهل العلم الشرعي, كالعلماء الكبار والقضاة المختصين, أما المبتدئون في الطلب, والخطباء المتحمسون بلا زمام ولا خطام، والكُتَّاب الذين اختلطت مشاربهم، والطلاب الذين لم يتأهلوا لذلك؛ فليس لهم الحق في الخوض في الأحكام على الأفراد, وإلا أفسدوا أكثر مما يصلحون, والواقع يشهد بذلك، فقد كفَّر بعضهم بعضًا بعد تكفيرهم المجتمعات، وكثير من الأفراد، فلما اختلفوا في بعض المخالفين لهم؛ رَجع بعضهم على بعض بالتكفير، وهذا من شؤم الغلو والإفراط!!
والأدلة السابقة في التحذير من القول على الله بغير علم شاملة لهذا أيضًا, ولو فُتح هذا الباب لمن دبَّ ودرج لأفسد أمة بأسْرها!!
ومن العجب أنك تجد بعض الطلاب إذا سُئل عن أحكام المسح على الخفين, أو الشُّفْعة, أو الكفارات؛ قال: لا أدري, سلُوا العلماء – ويُشْكر على ذلك- فإذا سئل عن مسائل الكفر والإيمان, ومسْح الرقاب, وإزهاق الأنفس؛ أفتى في المجتمعات والأفراد بجسارة لا توصف!! فهلا تورّع عن العظيم الخطير, كما تورع عن القليل اليسير؟! ألا يسعه في الثانية ما وسعه في الأولى, فيقول: لا أدري, سلُوا العلماء؟! ألا يحمد الله عز وجل أن كفاه الله بمن يتولى هذه الأحكام ويكفيه المؤنة؟! لماذا هذه الجرأة في غير موضعها؟ لماذا هذه التضحية بالحسنات وتوزيعها على العِبَاد بسبب ظلمهم، وأي ظلم أعظم من التكفير لهم بالمجموع؟ فإذا نفدت الحسنات؛ طارت سيئات العِبَاد من ميزانهم إلى ميزانه, ظلمات بعضها فوق بعض!!
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في رده على من خاض في قضايا التكفير بدون أهلية: «...لا يتكلم فيها –أي في مسائل التكفير- إلا العلماء من ذوي الألباب, ومن رُزق الفهم عن الله, وأُوتي الحكمة وفَصْل الخطاب, والكلام في هذا يتوقف على ما قدمناه, ومعرفة أصول كلية لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيره لمن جهلها, وأعرض عنها, وعن تفاصيلها...» اهـ.
لاتوجد تعليقات