رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني 19 يونيو، 2014 0 تعليق

ضوابط التكفير والتفسيق وأصولهما عند أهل السنة والجماعة (6)


استكمالا للحديث عن ضوابط التكفير والتفسيق عند أهل السنة والجماعة نتناول في هذه الحلقة الشروط الواجب توافرها, والموانع الواجب انتفاؤها قبل الحُكم على المعين؟

فالجواب: أن هذه الشروط والموانع هي:

1- العقل, ومقابله الجنون, فالعقل شرط, والجنون مانع, فلا تكليف مع الجنون, لقوله صلى الله عليه وسلم : «رُفِعَ القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يَبْلُغ, وعن النائم حتى يستيقظ, وعن المجنون حتى يُفيق».

2- البلوغ, ومقابله الطفولة أو الصِّبا، وللبلوغ علامات معروفة عند أهل العلم في الذَّكَر والأنثى, وجمهورهم على أن من بلغ خمسة عشر عامًا, ولم تظهر عليه علامات البلوغ -ذكرًا كان أو أنثى- فإن الأحكام تجري عليه, أما إذا لم تظهر عليه هذه العلامات, أو لم يبلغ هذا السن فلا تجري عليه أحكام التكفير أو التفسيق ونحوهما, للحديث السابق, وفيه: «عن الصبي حتى يَبْلُغ».

3- العلم, ومقابله الجهل, سواء كان الجهل بمعنى خُلُوّ النفس من العلم, وهو الجهل اليسير, أو بمعنى اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه, وهو من الجهل المرَكَّب.

     ومن الأدلة على أن الجهل عُذْر: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ  إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(التوبة:115)، ومع أن سبب النزول في قوم استغفروا لأقاربهم المشركين، ولم يكن قد نزل نهْي عن ذلك، إلا أن العبرة بعموم المعنى، وليس خصوص السبب، والجاهل بالحكم في حُكْم من لم يعلم به أصلا، ومن لم يعلم بالحكم – مع عدم تفريطه- في حُكم من لم يُنَـزَّل عليه الحكم أصلاً، ولا تكليف إلا بعد العلم والبلاغ، والآية عامة في كل ما يُحكم به على المخالف بالضلال، بعد أن عُدَّ في جملة المهتدين، لقوله تعالى: {إِذْ هَدَاهُمْ}(التوبة:115).

ومن الأحاديث:

أ- قصة الرجل الذي أوصى بنيه بإحراقه، وفيه: «لئن قَدَرَ الله عليَّ ليعذبَنَّي عذابًا ما عَذَّبه أحدًا من العالمين» قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرَّق هذا التفرُّق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد: من إنكاره لقدرة الله، وإنكاره معاد الأبدان وإن تَفَرَّقَتْ؛ كُفْر، لكنه كان مع إيمانه بالله، وإيمانه بأمره، وخشيته منه جاهلاً بذلك، ضالاًّ في هذا الظن مخطئًا، فغفر الله له ذلك».

ب- أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم  راوية خمر، فقال له: «هل علمتَ أن الله قد حَرَّمها؟»، فقال: لا، فسارّه رجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بم سارَرْتَه؟»، قال: أمرته أن يبيعها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الذي حرَّم شربها حرّم بيعها»، ففتح الرجل المزادتين حتى ذهب ما فيهما, هذا والخمر حرمتها أكيده، ولكن الجاهل له حكم آخر.

ج- قصة ذات أنواط: فبعض المسلمين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم  أن يجعل لهم ذات أنواط مثل المشركين، وهي شجرة كان المشركون إذا مروا بها يُعَلِّقون بها سيوفهم، معتقدين أن هذا جالب للنصر على عدوهم، وهذا اعتقاد مكَفِّر، ولما كان هؤلاء الصحابة المتكلِّمون بذلك حدثاء عهد بالإسلام؛ عَذَرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم  ولم يحكم بكفرهم واستتابتهم، إنما حذرهم من هذه المقالة المشابهة لمقالة بني إسرائيل لموسى -عليه السلام-.

د- ولقد دَفَعَ عمرُ الحدَّ عن امرأة حديثة عهد بإسلام لما زنت، ووجدها تستهل به, أي لا تبالي بالإفْصاح عنه، ولا تكتمه, لعدم علمها بتحريم الزنا، والزنا معلوم تحريمه من الدين بالضرورة، لكن الجهل في حق هذه المرأة – لحداثة عهدها بالإسلام- كان سببًا في عدم عقوبتها بموجَب فعلها.

     نعم، هناك تفصيل بين من تمكن من العلم، ولم يُحلْ بينه وبين العلم حائل إلا الإعراض والزهد فيه وفي أهله، وبين من كان جهله بسبب عدم تمكنه من العلم، فالثاني معذور بخلاف الأول، لكنه حتى يصل الباحث في حال شخص ما إلى جَعْلِهِ من أحد النوعين؛ فهذا يحتاج إلى وقت، وجُهد، ونَظَر، وأثناء هذا كله: فالأصل عدم حَمْلِه على النوع الأسوأ حتى يظهر أنه كذلك.

فإن قيل: إن العلماء لا يعذرون إلا من كان حديث عهد بالإسلام، أو نشأ في بادية.

فالجواب من وجهين:

أ- أن هذا القول منهم على سبيل المثال لا الحصر، أو لأن الجهل في حق هذين الصنفين أكثر من غيرهما، وهذا لا يمنع من جهل بعض من يعيش في الحاضرة وما حولها جهلاً يُعْذَر به.
ب- لو سلمنا بأن كلامهم على سبيل الحصر، ثم رأينا من يقع في مُكفِّر، ولا ندري أهو جاهل أم لا؟ وهل جهله لكونه أحد الصنفين المذكورين أم لا؟ فمع هذا الاحتمال لا يمكن التسرع في تكفيره بعينه حتى يثبت لنا أنه ليس من هذين الصنفين، فآل الأمر أيضًا إلى عدم تكفيره قبل إقامة الحجة، وإبلاغه الحكم الشرعي فيما فعل، ومن ثَمَّ عناده وإصرارُه، أو إعراضه وعدم مبالاته!!

4- ومن شروط التكفير: قَصْد الفعل أو القول أو الاعتقاد المُكَفِّر، وإن لم يَعْلم المرء أنه كُفْر؛ لأنه لا يُشترط في التكفير أن يقصد الكافر فعل الكفر فيما يراه هو؛ لأنه لو كان كذلك لما كفر اليهود والنصارى، فإن أكثرهم كفر وهو يظن أنه يحسن صنعا، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(الكهف: 103 - 104) وقال تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}(الأعراف:30)، فمن قصد الفعل المكفِّر – وإن لم يعلم أنه كُفْر- وعلم بأنه منهي عنه، فقد توافر فيه شرط القصد، ثم إذا ظهر أنه جاهل يُعَلَّم، فإن أصرَّ كَفَرَ بهذا، ويُنظر في بقية الشروط والموانع، أي أنه إذا بلغه حكم الله فيما أتى، فلا يُشترط أن يُسلِّم لمن يقيم عليه الحجة بذلك، شريطة ألا يكون المحكوم عليه عالمًا؛ لاحتمال أنه اجتهد ورأى في حُكْم المسألة خلاف ما يرى العالم الذي يقيم عليه الحجة – وهذا لا يكون في المسائل المجْمَع عليها-.

 والخلاصة: أنه لا يُشترط أن يقول: نعم أنا أفعل الكفر، وسأستمر على ذلك، إنما يُشترط أن يُبَلَّغ حكم الله ممن تقوم به الحجة، وأن يُخْبرَ أن ما هو عليه كُفْرٌ أكبر, فإن أصر وعاند كَفَرَ، بعد مراعاة بقية الشروط والموانع، والله أعلم.

والقصد منه عام وخاص, فالعام: هو تحقيق الإرادة الجازمة لتحقيق الفعل على وجه الرضا والاختيار؛ بحيث يكون الإنسان مخيرًا بين أن يفعل الفعل أولا يفعله, وهذا هو مناط التكليف.

وأما القصد الخاص: وهو إرادة فِعْل الكفر أو الفسق أو البدعة مع العلم بحكم ذلك, فقد سبق أن هذا ليس شرطًا في التكفير, والله أعلم.

والقَصْد مقابله الخطأ, فالخطأ مانع من موانع التكفير أو الفسق أو البدعة, ولهذا أدلة كثيرة, منها:

أ- قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ  فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ  وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ  وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}(الأحزاب:5).

وقوله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}(البقرة:286)،  وعند مسلم أن الله -عز وجل- قال: «قد فعلتُ».

ب- وحديث: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه».

جـ- وحديث: الرجل الذي وجد راحلته بعدما ضلَّتْ عليه, وأيقن بالهلكة, فقال: «اللهم أنت عبدي, وأنا ربك»، أخطأ من شدة الفرح.

والخطأ ضد الصواب, والمخطئ: من أراد الصواب فصار إلى غيره, أو من أصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل.

     والمقصود بالخطأ الذي يُعذر به صاحبه: هو ما صدر من باحث عن الحق مجتهد في الوصول إليه, إلا أنه لم يُوفَّق للصواب, بخلاف المخطئ بتفريطه, وتعديه حدود الله, وسلوكه السبيل الذي يُنْهَى عنها, فهذا هو الظالم لنفسه, ومن أهل الوعيد, قاله شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-

     والمقصود بالأعذار في الخطأ والنسيان – المنافييْن للقصد-: رفع الإثم والحرج, لا الحكم بأنه أخطأ في كذا أو كذا, كما لو قتل مؤمنًا خطأً, أو أتلف مال غيره, فالإثم مترتب على المقاصد والنيات, والناسي والمخطئ لا قَصْد لهما, فلا إثم عليهما, وأما رفْع الأحكام فليس مرادًا, فيحُتاج في ثبوتها أو نفيها إلى دليل آخر, قاله الحافظ ابن رجب.

والخطأ في حق العلماء المجتهدين, أو طلاب العلم المؤهلين يكون عن تأويل في الاجتهاد, فخرج من باب الخطأ في التأويل: العامة وأشباههم من المتجرئين غير المؤهلين.
     والخطأ في التأويل منه مذموم يأثم به صاحبه, وهو ما يُفضي إلى تعطيل أحكام الشريعة, فإنه من أكبر أصول الضلال والانحراف؛ حيث كان ذريعة لغلاة الجهمية والباطنية والرافضة والصوفية الحلولية والاتحادية في تأويل التكاليف الشرعية على غير حقيقتها, أو إسقاطها, أو الإلحاد في أسماء الله وصفاته بنفْي جميعها أو جُلِّها.

ومن التأويل ما يكون من قبل الخطأ, وتكون المخالفة دون قصد, ويكون سببها الجهل بحقيقة المراد من الأدلة.

والتأويل السائغ: ما كان من جنس التأويلات التي تتعلق بالفروع العلمية والعملية, وقد قال الحافظ: «يقول العلماء: كل متأول معذور بتأويله, ليس بآثم: إذا كان تأويله سائغًا في لغة العرب, وكان له وجْه في العلم» اهـ.

     وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “إن المتأول الذي قَصَدَ متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم  لا يُكفَّر, بل ولا يُفَسَّق إذ اجتهد فأخطأ, وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية, أما مسائل العقائد فأكثر الناس كَفَّر المخطئين فيها, وهذا القول لا يُعْرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان, ولا عن أحد من أئمة المسلمين, وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع»اهـ.

ومن الأدلة على أن الخطأ في التأويل مانع وعذر لمن قصد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا من قصد إفساد الدين وتدميره ما يلي:

أ- حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب؛ فله أجران, وإذا اجتهد فأخطأ؛ فله أجر».

ب- خَطَأُ قدامة بين مظعون في استباحته شُرْب الخمر، متأولاً قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا  وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة:93)، فدفَع عمر حُكْم الكفر عنه لتأويله, وأقام عليه الحد لشرب الخمر.
جـ- فتوى ابن عباس: “إنما الربا في النسيئة” وأجاز بيع الصاعين بالصاع؛ لحصره الربا في النسيئة, فأباح بعض صور الربا المحرم عن تأويل.

د- عدم تكفير الأئمة وجماهير السلف لأهل الأهواء, رغم ما ينتحلونه من عقائد تصادم أصول الدين وقواعده, وذلك للتأويل الذي زاغوا بسببه.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك