رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.عادل المطيرات 25 سبتمبر، 2019 0 تعليق

ضوابط التغيير المشروع


أصبحت المطالبة بالتغيير ظاهرة عامة تحيط بالمتابع للأحداث في كل وسيلة إعلامية، وصار التبشير بالتغيير القادم شعارا يهتف به الفرقاء على اختلاف اتجاهاتهم، وذلك يستوجب تأصيلا واضحا للتغيير من الوجهة الشرعية وبيان ماجاءت به النصوص من معيار دقيق للتغيير، ليبني المسلم موقفه من التغيير على أساس علمي سليم، لا على أساس عاطفي جامح يرفض التغيير من حيث المبدأ، أو يقبل، لمجرد الرغبة في تبدل الواقع الذي يعيشه وتجريب واقع سواه.

المقصود بالتغيير

أولًا: ما المقصود بالتغيير من الوجهة الشرعية؟

- التغيير يعني: إنكار وضع مخالف للشرع، والسعي في تبديله، سواء أكان هذا الوضع متعلقا بأمور الدين أم الدنيا، في صحيح مسلم يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ». فنص الحديث هنا على كلمة (التغيير) وأنها تكون في حال وجود أي منكر، ديني أو دنيوي، وذلك يعني: أن من أراد التغيير فإن عليه أن يسلك المسلك الذي رسمه الشرع في التعامل مع المنكر، ومن هنا وجب أن يُراعَى في التغيير ما يراعى في التعامل مع المنكر من الشروط، وأن يكون وفق الدرجات الثلاث المعروفة في إنكار المنكر.

ضوابط التغيير

ثانيًا: الضوابط الشرعية للتغيير: للتغيير الشرعي ضوابط مهمة يجدر التنبيه عليها وهي تنتظم ثلاث أسئلة: هل الوسائل المستخدمة في التغيير سليمة أم لا؟ هل الراية المرفوعة لإيجاد التغيير راية شرعية أم لا؟ هل عواقب التغيير مأمونة؟

الضابط الأول

     أن تكون الوسائل شرعية؛ إذ الغاية السليمة للتغيير لا تسوغ استخدام وسيلة ممنوعة شرعا، فإن استخدمت وسائل باطلة للتغيير فهذا التغيير في نفسه منكر، وإن كان صاحبه يريد إزالة وضع خطأ لا يُقرّه الله -تعالى-، ولهذا ذكر أهل العلم في شروط تغيير المنكر: ألا يؤدي إنكار المنكر إلى منكر أشد منه، فإن أدى إلى منكر أشد فذلك ضرر محض لا يُقره الشرع، لأن المقصود بتغيير المنكر أن يزول أو يَخِفّ لا أن يزداد.

ولهذا روى الآجري أن الحسن البصري قيل له: خرج خارجي بالخريبة - وهي محلة في البصرة - فقال: «المسكين رأى منكرا فأنكره فوقع فيما هو أنكر منه».

الضابط الثاني

     ما راية التغيير التي ترفع؟ هل هي على منهج نبيينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أم هي على خلاف ذلك؟ يجب أن تكون راية التغيير التي تُرفع ويلتف حولها الجماهير المطالبة بالتغييرـ راية واضحة، هدفها إقامة دين الله، فإن كانت على خلاف ذلك فقد جاء الحديث الصحيح بالحكم الدقيق عليها؛ حيث روى مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:  «مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي». وفي لفظ: «فقِتلةٌ جَاهِلية»، وذلك يعني: أن من قُتل تحت هذه الراية فسعيه هدرٌ، وليس على طريق صحيح، ولذا عُدّ قتلُهُ تحت هذه الراية العمية قِتلة جاهلية، والعمية من العماء وهي الضلالة، كالقتال في العصبية والأهواء، ولا يخفى أن كثيرا من الرايات المرفوعة للتغيير لا ذِكر فيها للإسلام أصلا، كما أن الأهداف المعلنة التي يصرح بها كثير ممن يريدون التغيير لا تتحدث عن إقامة دين الله، ولا عن إحقاق حق وفق شرع الله أو إبطال باطل أبطلته النصوص، بل قد تكون الراية لتأييد شخص أو مبدأ، وتزهق الأرواح لذلك.

الضابط الثالث

     هل عواقب التغيير مأمونة؟ فقد جاء الشرع العظيم بتبصير أهله بأهمية النظر في العواقب والمآلات التي يمكن أن تنتهي إليها الأمور، وذَمِّت النصوص العجلة والطيش، وحثَّت على الحكمة والتروي والتأني، ومن هنا حذرت النصوص كثيرا من أمر (الفتنة) ونهت عن الاشتراك فيها، والفتنة في كثير من الأحيان تكون في أمر مُشتبِه غير واضح، ومع ذلك يطير إلى الاشتراك فيها جموع كثيرة من الناس، دون تدبر للعواقب ولا نظر في المآلات التي يمكن أن توصلهم إليها، فلذا حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفتنة كثيرا، فقال فيما رواه مسلم: «وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ».

الحث على التروي

ومما جاء عن السلف في الحث على التروي والنظر في العواقب وترك العجلة ما روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: إِنَّهَا سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَأُمُورٌ مُشْبِهَاتٌ، فَعَلَيْك بِالتُّؤَدَةِ؛ فَتَكُونُ تَابِعًا فِي الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونَ رَأْسًا فِي الشَّرِّ.

أين نحن في واقعنا اليوم؟

قد يسأل سائل أين نحن في واقعنا اليوم من هذا الهدي العظيم الذي تقدم في النصوص، وفي كلام السلف -رضي الله عنهم-؟ فأقول:

التغيير المندفع

- أولا: لا يجوز المبادرة إلى التغيير المندفع، سواء بالقول أم بالفعل، وأخطر ما في الموضوع على الإطلاق أن يشترك أحد من أهل العلم الشرعي في تهييج الناس وتحريضهم على سفك الدماء وعلى التدمير بدعوى التغيير، لأن الناس إذا رأوا هذا المقتدَى به يفتيهم بذلك فإنهم يكونون على حال من الاطمئنان الشديد بأن ما هم فيه ما هو إلا نوع من أنواع الجهاد، وهذا يخالف سعي علماء السلف إلى تسكين الفتن وإطفاء نارها قدر ما يستطيعون، وقد تحملوا -رضي الله عنهم- في سبيل ذلك نقدا لاذعاً من عدد من المندفعين، كما روى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه سأله رجلان بنوع من العتب عن سبب امتناعه من الاشتراك في الفتنة، فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي، فقالا: ألم يقل الله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}، فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. فهكذا ينبغي لأهل العلم أن يثبتوا ويكونوا صرحاء في هذه الأمور العظام، سعيا في إبراء الذمة وإطفاء الفتنة، وإن عتب عليهم العاتبون ولامهم اللائمون.

إزالة الظلم

- ثانيا: أن كثيرين ممن يطالبون بالتغيير إنما يطالبون به من باب ردة الفعل لإزالة الظلم فيتبنون مفاهيم متحررة لإسقاط هذا الظلم، وكأن الشرع لا وسط فيه، فبعد أن تنهال عليهم المظالم ينتقلون إلى طرف مقابل فيطالبون بحرية مطلقة، لماذا؟ ليزول الظلم، ويا لله، ما أعجب هذه المطالبة! كأن الشرع لا وسط فيه: إما الظلم المحض أو الحرية الفوضوية. وردة الفعل المتطرفة لا يمكن أن تكون هي الطريق الصحيح لإزالة الظلم، لأن الباطل لا يزال بباطل مثله، وكم عانى الناس الأمرّين من الحرية الفوضوية، كما عانوا من الظلم والتسلط.

الفطنة للعواقب

- ثالثا: أن كثيراً من المطالبين بالتغيير لا يتفطنون للعواقب التي يمكن أن تنشأ لو انفلت الأمن، فإن المجتمعات عموما لا تخلو من مجموعات مخربة لا يردعها خوف الله -تعالى-، ولا مروءة أهل الفضل، وهي بالتأكيد مجموعات في غاية التربص والانتظار لأي انفلات أو فوضى، لتهجم كالسباع الضارية على غيرها: سرقة وسفكاً للدماءٍ وهتكا للأعراض المحرمة وانتقاما لثارات قديمة، فإذا انفلت الأمن انفتحت الأبواب الواسعة لهؤلاء المفسدين في الأرض لتحقيق مآربهم الإجرامية، وكثير ممن يطلب التغيير لا يريد هذا قطعاً، لكنه لا يتفطن إلى أن التغيير المتعجرف البعيد عن منهج الشرع يمكن أن يفتح لهؤلاء المفسدين الباب، وأخطر مافي انفلات الأمن أن باب الفوضى إذا فتح قد لا يُغلق، ويعجز العقلاء لاحقاً عن تلافي آثار ذلك الانفلات، وثمة بلدان انفلت فيها الأمن منذ سنين عديدة وظلت الفوضى هي السائدة فيها إلى اليوم، وذلك بسبب تغيير متسرع أدى إلى انفلات الأمور، وسيادة الفوضى.

الرجوع على أهل العلم

- رابعاً: أن أكثر الناس لا يَردُّون الأمور إلى مَن أمَرَ الله أن تُردّ إليهم في محكم القرآن، وهم أهل العلم، قال الله -عز وجل-: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83). فأمر الله برد الأمر إلى أهل البصيرة والعلم الذين ينظرون النظرة الشرعية لا النظرة العاطفية ولا النظرة الحاقدة المتربصة، ينظرون نظر المشفق الراحم لإخوانه، وكأنه في وسطهم، وإن كان بينه وبينهم آلآف الأميال، لكن كثيرين لا يردون الأمور إلى أهل العلم، بل يردونها إلى وسائل الإعلام، فيتبنون ما تبثه من رأي مُوجَّه يتبناه القائمون عليها، فإن تبنت التحريض تبناه كثيرون، وإن شجعت جهة ما شجعها كثيرون، وهكذا، ولهذا فإن وعي المتابع لوسائل الإعلام على جانب كبير من الأهمية، وهو أمر غائب عن عدد من المتابعين للإعلام الموجًّه بكل أسف.

الانجرار للعاطفة

     من هنا فعلى المسلمين جميعا التروي في أمر (التغيير) وعدم المبادرة إلى اتخاذ موقف عاطفي غير علمي منه؛لأن العاقل لا يمكن أن يتبنى كل تغيير، فإن من التغيير ما يعد حربا على الشرع وقلبا لموازينه، فهذا التغيير مرفوض رفضاً تاما، والفضيلة في الوقوف في وجهه والثبات على المبدأ الذي سعى دعاة التغيير إلى زعزعته، وقد مدح الله في كتابه من لم يبدّل ولم يغيّر، وذلك في قوله -تعالى-: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (الأحزاب: 23).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك