رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عمار بن محمد الأراكاني 25 نوفمبر، 2019 0 تعليق

صِفاتُ الخوارجِ بينَ النّصوص الشرعيّة وإسقاطاتِ خُصوم السّلفيّة


الشَّريعةُ جَرت على سنن العَرب في الكلام؛ فعرَّفت الشيءَ بما يتعرَّف به ويتميَّز في ذهن السامعِ والمخاطَب، ولم تقصد إلى التعريف الجامع المانِع، وكلَّما احتاج المخاطَب إلى توضيح زادته في الصفات حتّى يتميّز الشيءُ في ذهنه، وقد جرتِ الشَّريعة على هذا السَّنَن في أبوابِ الدين منِ اعتقادٍ وعملٍ؛ ففصَّلت الكفر، والإيمان، والنفاقَ، والسنةَ، والبدعةَ تفصيلًا، يجعل هذه المسمَّيات تتميَّز في ذهنِ كلِّ مَن عقل العربية وفهمها فهمًا صحيحًا، وحين تحدَّثَت عنِ افتراق الأمَّة، لم تتركه مجملًا، بل بيَّنت الفرقَ بالعدَد وحصرتهم بالصِّفة؛ ممَّا جعلها مستغنيةً عنِ الحدِّ، ومِن أقدم هذه الفرَق ذكرًا في النصوص وشناعةً في الصفات فرقةُ الخوارج؛ فقد حصَرتهم الشريعةُ بصفاتهم التي تزيَّلوا بها عن سائر أهلِ القِبلة، وهذه الصفاتُ بَعضُها يخصُّهم، وبعضُها يشترك معهم فيها غَيرُهم، لكن يزيدون عليهم بظهور الصِّفة وقوَّتها فيهم، وهذه لمحةٌ سَريعة عَن صِفاتهم في النّصوص، والفرقُ بينها وبين الإسقاطاتِ المعاصرة التي صارت أقربَ إلى تصفيَة الخصوم منها، إلى بيان الحقِّ والتحذير من الباطل.

حقيقةُ الخوارج

     كثيرٌ منَ المؤرِّخين للفِرق اهتمُّوا بالحكم على الظواهرِ والتحقُّقات لهذا المذهب؛ فاهتمُّوا بالأسُس العقديَّة لهذا الفكر وموقفه من مرتكب الكبيرة وقوله في الإيمان، وبعضُهم نظر إلى النشأة والمسوِّغ لقيام الفِكرة، وهي قضيةُ التحكيم؛ فجعل كلَّ خارجٍ على الحاكم وحامِل للسَّيف مِنَ الخوارج، بغضِّ النظر عن طبيعةِ الخروج.

وَصَفَتْهُمْ به النّصوص

     إلا أنَّ الاسم الذي صار علمًا عليهم هو الاسمُ الذي وَصَفَتْهُمْ به النّصوص واشتُقَّ لهم من فعلهم؛ فالنصوص التي تحدَّثت عنهم ذكرت صفةً لازمة لهم وهي الخروج؛ فقد قال -عليه الصلاة والسلام- عنهم: «يخرجُون على حين فُرقةٍ منَ الناس»، وقد نوَّع النبي[ العبارةَ في وصفهم بالخروج؛ فأحيانًا يصِفهم بالخروج، وأحيانًا بالمروق، ومنه قوله: «دَعْهُ؛ فإنَّ له أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مع صَلَاتِهِمْ، وصِيَامَهُ مع صِيَامِهِمْ، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»، وقد اشتقَّ لهم السلف من هذه النصوص أسماء؛ فسمَّوهم بالخوارج، وسمَّوهم بالمارقة، اشتقاقًا للوصف من الفعل المذكور في الحديث.

اسم الخوارج

     إلا أن اسم الخوارج صار علمًا على كل مكفِّر لمرتكب الكبيرة، مستحلٍّ لدماء المسلمين مفارقٍ لهم؛ فجميع التعريفات لهم تنحو هذا المنحى، وقد ميَّزهم شيخ الإسلام -رحمه الله- بالخصوصية فقال: ولهم خاصّتان مشهورتان فارقوا بهما جملة المسلمين وأئمتهم: إحداهما: خروجهم عن السنة، وجعلهم ما ليس بسيِّئة سيِّئة، أو ما ليس بحسنة حسنة، هذا هو الذي أظهروه في وجه النبيِّ[؛ حيث قال له ذو الخويصرة التميمي: «اعدل؛ فإنك لم تعدِل».

الثانية: أنَّ الخوارجَ جوَّزوا على الرسول نفسِه أن يجور ويضلَّ في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته، وإنما صدَّقوه فيما بلَّغه من القرآن دون ما شرعه من السنّة التي تخالف بزعمهم ظاهر القرآن.

أصولٍ منهجيَّة

     لكن هذا الاسم لا يتحقَّق إلا بوجود أصولٍ منهجيَّة، تميِّز القومَ عن غيرهم، وهذه الأصولُ جاءت بها الشريعةُ في شكلِ صفاتٍ ملازمة للقوم لا تنفكُّ عنهم، ويمكن إجمالُ صفات الخوارج حسب النصوصِ الشرعية وما تدلُّ عليه؛ فإنها مجمَلَة في صفات خلقية وسلوكية، وأخرى عمَليَّة هي التي تشكِّل التأسيس العقديَّ لهذه الفرقة.

صفات الخوارج

جاءت النصوص الشرعية بعدد من صفات للخوارج، نذكرها فيما يلي:

أولا: التحليق

     وُصِف جيل التأسيس من الخوارج ببعض الصفات السلوكية الظاهرة، لكي يميّزهم من يراهم من الصحابة، وهي علمٌ من أعلام النبوة، وبعض هذه الصفات الموجودة في الجيل الأوَّل من الخوارج ليست محصورةً فيهم، ومن ذلك: التحليق؛ فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: «يخرج ناسٌ من قبل المشرق، ويقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه»، قيل: ما سيماهم؟ قال: «سيماهم التحليق»، أو قال: «التسبيد»، والتحليق: إزالة الشعر، والتسبيد: استئصال الشعر.

فيه إشكالٌ

     قال الكرمانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: فيه إشكالٌ، وهو أنه يلزم من وجود العلامة وجود ذي العلامة؛ فيستلزم أن كلّ من كان محلوق الرأس فهو من الخوارج، والأمر بخلاف ذلك اتفاقًا. ثم أجاب بأنّ السلف كانوا لا يحلقون رؤوسهم إلا للنسك أو في الحاجة، والخوارج اتخذوه دَيْدنًا فصار شِعَارًا لهم، وعُرفوا به، قال: «ويحتمل أن يُراد به حلق الرأس واللحية وجميع شعورهم، وأن يراد به الإفراط في القتل، والمبالغة في المخالفة في أمر الديانة»، وهذه صفة ظاهرة لهم، لكنها لا تكون محدِّدة لهم إلا إذا انضمَّت إليها صفات أخَر وهي:

ثانيًا: الغلوّ في الدين

     وهذه الصفة هي الأبرز في صفاتهم السلوكية، والمقصود بالغلو في الدين المبالغة وتجاوز الحدِّ الشرعي على نحو لا يستطيعونه، ويجعلهم يسيئون الظنَّ بأهل الفضل كما وقع لإمامهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم : والله، إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله، قال عبد الله بن مسعود: فقلت: والله، لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فأتيته فأخبرته؛ فقال: «فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟! رحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر»، وهكذا وقع لهم مع علي رضي الله عنه في قضية التحكيم، ومع عبد الله بن خباب حين حدَّثهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم : «فكن عبدَ الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل» فقتلوه.

ثالثًا: حداثة السِّنِّ وقلَّة التجرِبة

     وهذه الصفة منصوص عليها في الحديث؛ فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: «يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام»، وقد كان لهذه الصفة الأثر البالغ في توجُّهات القوم، وفيما يصدر عنهم من معتقدات وتصرّفات؛ إذ الشباب مظنَّة الطيش والسفَه والاندفاع والحماس الزائد.

رابعًا: عدم الفقه في الدين

     وهذه صفة منصوص عليها، وقد وقعوا في ضَعف الفقه من جهتين: إحداهما نتيجة حتمية للأخرى؛ فالجهة الأولى: أنهم لم يفهموا النصَّ فهمًا سليمًا، وقد نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ فقال: «يقرؤون القرآن ولا يجاوز حناجرهم»، قال ابن عبد البر: «وأما قوله: «يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم»؛ فمعناه: أنهم لم ينتفعوا بقراءته؛ إذ تأوَّلوه على غير سبيل السنة المبيِّنة له، وإنما حملهم على جهل السنة ومعاداتها وتكفيرهم السلف ومن سلك سبيلهم وردهم لشهاداتهم ورواياتهم، تأولوا القرآن بآرائهم، فضلوا وأضلوا، فلم ينتفعوا به، ولا حصلوا من تلاوته إلا على ما يحصل عليه الماضغ الذي يبلع ولا يجاوز ما في فيه من الطعام حنجرته».

     والجهة الثانية: الخطأ في العمل بالنصّ؛ فقد قال -عليه الصلاة والسلام- في وصفهم: «يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان»؛ فخرجوا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين، حتى كفَّروا من خالفهم، مثل عثمان، وعلي، وسائر من تولاهما من المؤمنين، واستحلُّوا دماء المسلمين وأموالهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: «يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان».

قلة الفقه

     وقد ظهرت قلَّة الفقه في فهمهم للنصوص في مناظرتهم لابن عباس -رضي الله عنهما-؛ فلم تسعفهم عقولهم بجواب لما قال لهم، ويُرجع ابن حزم -رحمه الله- قلَّة فقه الخوارج إلى أن «أسلاف الخوارج كانوا أعرابًا قرؤوا القرآن قبل أن يتفقهوا في السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن فيهم أحد من الفقهاء، لا من أصحاب ابن مسعود، ولا أصحاب عمر، ولا أصحاب علي، ولا أصحاب عائشة، ولا أصحاب أبي موسى، ولا أصحاب معاذ بن جبل، ولا أصحاب أبي الدرداء، ولا أصحاب سلمان، ولا أصحاب زيد وابن عباس وابن عمر؛ ولهذا تجدهم يكفِّر بعضهم بعضًا عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها؛ فظهر ضعف القوم وقوة جهلهم».

خامسًا: مفارقة المسلمين ونبذ السلف

     وهذه صفة مصرَّح بها في النصوص؛ فالبيئة الحاضنة لهم هي الفرقة والخلاف؛ ففي الحديث: «يخرجُون على حين فُرقةٍ منَ الناس»، وقد تنبَّه السلف لذلك؛ فقال قتادة واصفًا حالهم: «ولعمري، لو كان أمر الخوارج هدًى لاجتمع، ولكنه كان ضلالًا فتفرَّق، كذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدتَ فيه اختلافا كثيرًا؛ فقد ألاصوا  هذا الأمر منذ زمان طويل؛ فهل أفلحوا فيه يومًا أو أنجحوا؟! يا سبحان الله! كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأولهم؟! لو كانوا على هدًى قد أظهره الله وأفلحه ونصره، ولكنَّهم كانوا على باطلٍ أكذَبه الله وأدحَضه؛ فهم كما رأيتهم، كلما خرج لهم قرن أدحض الله حجتهم، وأكذب أحدوثتهم، وأهراق دماءهم، إن كتموا كان قرحًا في قلوبهم، وغمًّا عليهم، وإن أظهروه أهراق الله دماءهم، ذاكم والله دين سوء فاجتنبوه». وهذه الصفات المبيِّنة لحالهم التي أنتجت عقائدهم وأعمالهم هي التي ينبغي محاكمتهم إليها في كل زمان ومكان.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك