رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. محمد عودة أحمد الحوري 8 سبتمبر، 2020 0 تعليق

صور من الفسـاد المالي بينـتـهـا السنـة النبـويـة (5) الفساد المالي في البيوع

يعد البيع من أوسع أبواب المعاملات المالية، التي يعتمد عليها قوام الحياة، ولما كانت النفس مجبولة على حب المال؛ فقد تطغى على صاحبها، وتنحرف عن السلوك القويم، رغبة في ربح المال وجمعه؛ لذا فلا عجب أن تكون الأسواق -وهي مجتمع الناس لتبادل البيع والشراء- أبغض الأماكن إلى الله -تعالى-، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها»، ويعلل هذا البغض نصيحة سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: «ألا تكونن -إن استطعت- أول من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منها؛ فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته».

     ولما كانت النفس كذلك، وجدنا الشارع الحكيم يوجهها لما يصلح لها ويصح حالها، بالترغيب تارة، وبالترهيب أخرى، ومن هذه التوجيهات الصدق في البيوع والابتعاد عن الكذب، يدل عليه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإن صدقا وبينا، بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا، محقت بركة بيعهما»، وقد بينت السنة النبوية القضايا التي تفسد البيع وتمحق بركة المال.

ملحقات بالبيوع

ومما قد يلحق بالبيوع من صور الفساد المالي لقربه منه في المعنى:

أولا : المال المكتسب بسبب الكهانة:

فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حلوان الكاهن.

- والكاهن: الذي يتعاطى خبر المستقبل عن الكائنات، ويدعي معرفة الأسرار، وأبطل أبو بكر - رضي الله عنه  - هذا الكسب بفعله فيما روت عائشة -رضي الله عنها-: قالت: «كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء، ووافق من أبي بكر جوعا، فأكل منه لقمة قبل أن يسأل عنه، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر إصبعه في فيه، فقاء كل شيء في بطنه».

قال ابن هبيرة -رحمه الله -: في هذا الحديث من الفقه ما يدل على ورع أبي بكر - رضي الله عنه - ولا سيما في هذه الصورة؛ فإن أخذ الأجر على الكهانة محرم.

ثانيا: المال المكتسب بسبب القمار:

والقمار: كل لعب يشترط فيه غالب من المتغالبين شيئا من المغلوب.

قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل طعام المتباريين: السباق، والقمار». وفي رواية قال: «نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل».

وعلل الخطابي -رحمه الله - النهي، فقال: «لأنه داخل في جملة ما نهي عنه؛ من أكل المال بالباطل.

ثالثا: كسب المال بالحلف الكاذب:

     يسعى الإنسان لكسب رزقه ومن يعول، وعليه أن يتحرى الكسب الحلال، إلا أن بعضهم لا يبالي كيف كسب؟ ومن طرق الكسب الحرام التي تصل لدرجة الكبيرة؛ التكسب بالحلف الكاذب، وربما سوغ لنفسه بأنه محتاج، أو أن ما حلف عليه كان قليلا؛ لذا جاء التحذير النبوي من هذا العمل بصيغة مرهبة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه؛ حرم الله عليه الجنة، وأوجب له النار». قالوا: وإن كان شيئا يسيرا؟ قال: «وإن كان قضيبا من أراك»..

     ويعلل القاضي عياض -رحمه الله - قائلا: «إنما كبرت هذه المعصية بحسب اليمين الغموس؛ التي هي من الكبائر الموبقات، وتغييرها في الظاهر حكم الشرع، واستحلاله بها الحرام، وتصييرها الحق في صورة المبطل، والمبطل في صورة المحق؛ ولهذا عظم أمرها».

صور الفساد المالي في الدين

يعد الدين وسيلة لا غنى لفئة من المجتمع الإنساني عنها؛ لتيسير حياتهم، وتسيير معاملاتهم؛ لذا نظمت الشريعة الإسلامية هذه المعاملة، ووضعت لها من المعايير المعنوية والمادية ما يضمن استمرارها، مع حفظ حقوق الناس، ومن أنواع الفساد المالي في الدين:

أولا: الربا

     يعد الربا أبشع صور الفساد المالي عموما؛ فهو من الكبائر، وهو الذنب الذي أعلن الله -تبارك وتعالى- وأعلم بمحاربته صاحبه؛ إن لم يتب منه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 278-279)، وتوعد بمحق الربا فقال: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (البقرة:276)، وجاءت السنة النبوية بلعن آكله وموكله.

ثانيا: جحود الدين

     قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها؛ أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها؛ أتلفه الله»، ففي هذا الحديث الشريف بشارة ونذارة: بشارة لمن أراد أن يقيم حياته ومن يعول وكان عاجزا، فله أن يقترض من الناس ما يقضي بمثله حاجته، شريطة أن يكون عازما على إعادة ما أخذه، وفيه نذارة لمن يستسيغ أخذ أموال الناس وليس في نيته إرجاعها.

استئكال أموال الناس

     قال ابن بطال -رحمه الله -: في هذا الحديث الحض على ترك استنكال أموال الناس، والتنزه عنها، وحسن التأدية إليهم عند المداينة، وقد حرم الله في كتابه أكل أموال الناس بالباطل، وخطب النبي -عليه السلام- بذلك في حجة الوداع، فقال: «إن دماءكم، وأموالكم، عليكم حرام»، یعني: من بعضكم على بعض، وفي حديث أبي هريرة أن الثواب قد يكون من جنس الحسنة، وأن العقوبة قد تكون من جنس الذنوب؛ لأنه جعل مكان أداء الإنسان أداء الله عنه، ومكان إتلافه إتلاف الله له، فبعد أخذ أموال الناس مع تبييت النية بعدم الوفاء نوع من صور إفساد المال، وهو علم من أعلام النبوة؛ لما نراه بالمشاهدة ممن يتعاطى شيئا من الأمرين.

ثالثا: المماطلة في الأداء

     عد الشارع الحكيم المماطلة نوعا من أنواع الظلم؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مطل الغني ظلم». وبمعناه حديث: «لي الواحد يحل عرضه وعقوبته». فالمطل: منع قضاء ما استحق أداؤه، وعليه، لا يجوز لمن وجب عليه تأدية دين أن يؤخره؛ وهو قادر على الأداء، وإلا عرض نفسه للعقوبة، قال العز بن عبد السلام -رحمه الله-: وإن طولب بدين، أو حق واجب على الفور، لزمه أداؤه، ولا يحل له أن يقول لخصمه لا أدفعه إلا بالحاكم؛ لأنه مطل، والمطل بالحقوق المقدور عليها محظور؛ لقوله -عليه السلام -: «مطل الغني ظلم»، وكثيرا ما يصدر هذا من العامة مع الجهل بتحريمه، وإثمه أعظم من إثم المطال المجرد؛ لما فيه من تعطيل المدعي بانطلاقه إلى الحاكم، ومثوله بين يديه، وبما يغرمه لأعوان الحاكم على الإحضار.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك