صورة من صور محاسن بر الأبناء بالآباء
كان أمية بن الأسكر الكناني من سادات قومه، هاجر وولده كلاب إلى المدينة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأقام بها مدة، ثم لقي ذات يوم طلحة بن عبد الله والزبير بن العوام فسألهما: أي الأعمال أفضل في الإسلام؟ فقالا: الجهاد. فلما عزم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على إرسال جيش إلى اليرموك قام أمية وقال لعمر: يا أمير المؤمنين هذا اليوم من أيامي لولا كبر سني، فقام إليه ابنه كلاب وكان عابداً زاهداً فقال: لكني يا أمير المؤمنين أبيع الله نفسي وأبيع دنياي بآخرتي، فسأل عمر فضمه إلى الجيش المتجه إلى اليرموك.
فلما رجع إلى بيت أبيه ليستعد للمعركة تعلق به أبوه له وكان في ظل نخل له وقال: يا كلاب يا ولدي لا تدع أباك وأمك شيخين ضعيفين ربياك صغيراً حتى إذا احتاجا إليك تركتهما.
فقال كلاب: نعم أتركهما لما هو خير لي، فخرج غازياً بعد أن أرضى أباه.
فأبطأ في الغزو، وذات يوم كان أبوه في ظل نخل له وهو يراقب حمامة تدعو فرخها، فلما رآها الشيخ بكى، فرأته العجوز فبكت، وأنشد يقول:
لمن شيخان قد نشدا كلاباً
كتاب الله إن ذكر الكتابا
أناديه ويعرض لي حنينٌ
فلا وأبي كلابٌ ما أصابا
تركت أباك مرعشةً يداه
وأمك ما تسيغ لها شرابا
فإن أباك حين تركت شيخٌ
يطارد أينقاً شزباً جذابا
إذا رُتّعن إرقالاً ســراعاً
أثرن بكــــل رابيةٍ ترابا
طويلاً شوقه يبكيك فرداً
على حزنٍ ولا يرجو الإيابا
إذا غنت حمامة بطن وجٍّ
على بيضاتها ذكرا كلابا
ثم اشتد حزنه على ولده حتى أصابه ما أصاب يعقوب عليه السلام، وابيضت عيناه من الحزن؛ فعمي واشتد عليه البلاء، وصار يتذكر ولده ويراه بين يديه في كل حين فأخذ من شدة ما في قلبه يريد أن يدعو على ولده أو على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لكن نفسه لم تطاوعه فاخذ يقول في شعره:
لمن شيخان قد نشدا كلابـا
كتاب الله لو ذكر الكتابا
أناشده ويعرض إلــى إبـاء
فلا وأبي كلاب ما أَصابا
إِذا هتفت حمامة بطن وجٍ
إلى بيضاتها ذكرا كلابا
أَتاه مهاجـــــران تكنــــَّفاه
بترك كبيرة خطئا وخابا
تركت أباك مرعشة يــداه
وأُمَّك ما تسيغ لها شرابا
تُمسِّح مهده شفـقا علــــيه
وتجنبه أَباعرنا الضَّعابا
فإنَّك وابتغاء الأجر بعدي
كباغي الماء يتَّبع السَّرايا
فلما بلغت هذه الأبيات عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أرسل إليه، فأقبل أحد من أصحابه ليأخذه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقال يا أبا كلاب تذهب معي في حاجة؟؟
قال: إلى أين؟
قال: اذهب معي، فأخذه بيده وهو الأعمى يسوقه حتى ذهب إلى المسجد وأقبل إلى حلقة عمر بن الخطاب وأجلسه فيها، والشيخ لا يدرى أنه في مجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم قال له صاحبه يا أبا كلاب...
قال: نعـــم.
قال: أنشدنا من أشعارك، ولشدة تعلقه بولده أول ما تبادر إلى ذهنه الأشعار التي في ولده فقال:
أَعاذل قد عــــذلت بغير علم
وما يدريك ويحك ما ألاقي
فإمَّا كنت عــــــاذلتني فردِّى
كلابا إِذ توجَّــــــه للعـراق
سأَستدعي على الفاروق ربا
له، رفع الحجيج إلى بسـاق
إِن الفاروق لم يردد كـــلابا
على شيخـين هامُهـما زواق
فلو فلق الفـــؤاد حماط وجد
لهمَّ ســـــواد قلـبي بانفـلاق
فقال: عمر من هذا؟؟
قالوا: هذا أميــه بن الأسكر الكناني.
قال عمر رضي الله عنه : ما خبره؟؟
قالوا: أرسلت ولده إلى الثغور.
قال عمر رضي الله عنه : ألم يأذن؟؟
قالوا: أذن على مضض.
فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ديوانه فأرسل مباشرة إلى سعد بن أبي وقاص بالكوفة، (يأمره بإرجاع كلاب بن أُميّة إليه بالمدينة على دواب البريد) ودواب البريد أسرع من الدواب العادية فالخيل التي تقطع مسافة أسبوع تقطعها هذه الدواب في يوم أو أقل من يوم.
فعاد كلاب إلى المدينة المنورة فوافاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إنه بلغني أن أباك وجد لفراقك وجداً شديداً فبماذا كنت تبره؟ قال: كنت أبره بكل شيء حتى أني كنت أحلب له ناقة فإذا حلبتها عرف حلبي. فأرسل عمر رضي الله عنه إلى الناقة فجيء بها من حيث لا يعلم الشيخ، فقال له: احلبها، فقام إليها وغسل ضرعها ثم حلبها في إناء. فأرسل عمر، رحمه الله، بالإناء إلى أبيه فلما أُتي به بكى ثم قال: إني أجد في هذا اللبن ريح كلاب. فقال له نسوة كن عنده: قد كبرت وخرفت وذهب عقلك، كلاب بظهر الكوفة وأنت تزعم أنك تجد ريحه! فأنشد يقول:
أعـــاذل قد عذلت بغير علمٍ
وهل تدري العواذل ما ألاقي
سأستعدي على الفاروق رباً
له حجُّ الحجيج على اتساق
إن الفاروق لم يردد كـــلاباً
إلى شيخين ما لهما تواقــي
ثم طلب عمر رضي الله عنه أمية الكناني وقال له: أي شيء أحب إليك؟
قال أمية: النظر إلى ولدي كلاب.
فدعاه.
فلما رآه قام إليه فاعتنقه، وبكى بكاء شديدا، وبكى عمر رقة لهما؛ ثم قال: «يا كلابُ، الزم أباك أمية وأمك، ولا تؤثرن عليهما شيئا ما بقيا، فقد وضعنا عنك الغزو وأجرينا لك العطاء».
وتغنت الركبان بشعر أبيه، فبلغه فأنشد يقول:
لعمرك ما تركت أبا كــــلابٍ
كبير السن مكتئباً مصابا
وأماً لا يــزال لهــــا حنــــينٌ
تنادي بعد رقــدتها كلابا
لكسب المال أو طلب المعالي
ولكني رجوت به الثوابا
وكان كلاب من خيار المسلمين، وقُتل مع علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه، بصفين وعاش أبوه أمية دهراً طويلاً بعد موته حتى خرف.
لاتوجد تعليقات