صفحالت مشرقة من حياة المحسنين الكويتيين – عبدالله الخلف السعيد
منذ نشأة الكويت عمومًا، وشروق شمس الكويت الحديثة خصوصًا، تتسابق العائلات الكويتية وتتنافس في إنشاء مشاريع الخير ودعمها بكل سخاء، في ملحمة عطاء إنسانية فريدة ورائدة، صارت مضرباً للأمثال، وقدوة لفضائل الأعمال، تتناقلها أجيال بعد أجيال، وتنسج فسيفساء في غاية الروعة والجمال، وفي هذه الحلقات نحاول عرض السير العطرة لرموز العطاء من المحسنين والواقفين الكويتيين وجوانب إحسانهم ووقفياتهم ومشروعاتهم الخيرية، واليوم مع علم من أعلام هؤلاء المحسنين وهو العم: عبدالله الخلف السعيد
هو عبدالله بن خلف بن حمد بن عثمان بن عبداللطيف السعيد، ولد في منطقة الجهراء في دولة الكويت عام 1317هـ الموافق 1899م حيث نشأ والده وجدّه، ينتمي إلى أسرة السعيد وهي من الأسر الكويتية العريقة التي هاجرت من نجد في المملكة العربية السعودية إلى الكويت من منطقة (أوشيقر) قبل أكثر من مائتي عام.
توفي والده وهو لم يتعدّ السنة الأولى من عمره، فتولّى جده حمد تنشئته، وأحسن تربيته وتعليمه، حتى تعلم القرآن الكريم والكتابة ومبادِئ الحساب، وهو التعليم المتاح في ذلك الوقت. وكثمرة لهذه التربية الإيمانية ظل عبدالله السعيد منذ الصغر مستقيماً محافظاً على أداء الصلوات الخمس في المساجد في جماعة.
رحلة العمل والجد
ثم بدأ رحلة العمل والجد في الحياة وهو في سن صغيرة، فعمل في مزرعة عمه في الجهراء، ثم في التجارة وقد رزقه الله منها رزقاً واسعاً مباركاً، وبعد أن مَنَّ الله عليه بسعة الرزق وشرف المكانة حرص على أن يبذل من أمواله الكثير لمساعدة المحتاجين وإغاثة الملهوفين من أبناء الكويت والبلاد الأخرى، كما ساهم في العديد من مجالات الإحسان كما يلي:
تفريج الكرب
كان المحسن عبدالله الخلف السعيد شديد الإحساس بمصائب الناس وآلامهم، ويسارع إلى التخفيف عنهم بما يستطيع، فعندما انهار جليب (بئر ماء) في إحدى مزارع الجهراء على أحد الشباب وتوفي على الفور، حزنت أمه عليه حزناً شديداً، ولم تتوقف عن البكاء، وعلم بذلك الحاج عبدالله الخلف، فبادر بزيارتها ومواساتها، وقدم إليها أربعمائة روبية مساعدة لها على تحمل أعباء الحياة.
سداد ديون المعسرين
كما اعتاد -رحمه الله- على سداد الديون المستحقة على المعسرين والمحتاجين تفريجاً لكربهم وستراً لهم لما آلت إليه أحوالهم، وكان يتفقد أصحاب الحاجات، ويتعرف على أماكن سكناهم، ويترك لهم المساعدات العينية ليلاً أمام الأبواب، فإذا أصبح الصباح وفتحوا أبواب بيوتهم وجدوها أمامهم، وكان لا يخشى ضياع هذه المساعدات لأن المجتمع الكويتي كان ينعم في ذاك الوقت بالأمن والأمان وللّه الحمد والمنة.
كان لا يرد سائلاً، ولم يتوقف عن البذل والعطاء للمحتاجين والفقراء والمساكين، فقد كان يستقبلهم في أي وقت بصدر رحب ووجه بشوش.
ولم تقتصر مساعداته على الفقراء المعوزين والمكروبين، وإنما اتسعت إلى الشباب الراغب في الزواج إعانة لهم على الإحصان والعفاف، ومساهمة منه في تأسيس الأسر المسلمة الطاهرة.
إكرام المسافرين وعابري السبيل
حرص -رحمه الله- على نقل المسافرين (العبرية) -أي عابري السبيل- بسيارته على الطريق، بين الجهراء والكويت دون مقابل، ومن الطريف أن المسافرين إلى مدينة الكويت ولا يملكون أجرة الانتقال بالسيارة معه يمشون بعد صلاة الفجر راجلين على طريق الكويت، وذلك قبل موعد انطلاقه بقليل لأنهم يعلمون على سبيل اليقين أنه سيقف ليحملهم بسيارته دون أن يحاسبهم لعلمه أنهم لو كانوا يملكون أجرة النقل لالتحقوا به من بداية الطريق في مدينة الجهراء، وكان المسافرون من المملكة العربية السعودية الشقيقة ومدينتي البصرة والزبير في جنوبي العراق يقيمون في ديوانه ومزرعته بالجهراء أيضاً دون مقابل ولكن كرماً منه، وكان يقيم لهم الولائم سواء أكان يعرفهم أم لا يعرفهم.
همزة الوصل
كان في شبابه يمثل همزة الوصل بين منطقة الجهراء وأهل الكويت بزياراته ولقاءاته مع الشيوخ والحكام والمسؤولين، إذ كان أول من امتلك سيارة في المنطقة عام 1927م، وكان دائم التنقل بين الجهراء والكويت لنقل البضائع والمنتجات الزراعية، وبعد ذلك امتلك سيارات كبيرة لنقل الركاب والبضائع بين الكويت والسعودية، كما كان يملك مزارع عدة للنخيل والخضراوات في الجهراء.
هلال رمضان وعيد الفطر
لم يترك المحسن عبدالله السعيد طريقاً للخير إلا وسلكه؛ لذلك فقد أخذ على عاتقه مسؤولية إعلام أهالي الجهراء برؤية هلال شهري رمضان وشوال، فيمكث في المدينة (الكويت) منتظراً حتى يتم الإعلان عن رؤية الهلال، ثم يسرع إلى منطقة الجهراء، متحملاً مشاق الطريق وخطورتها في هذا الوقت المتأخر من الليل، وعندما يصل يطلق من بندقيته عدة طلقات اعتاد الناس على سماعها كل عام إيذاناً ببدء شهر رمضان ونهايته. فلم تكن هناك إذاعة أو تلفاز في البلاد في ذلك الوقت، كما أن المساجد لم يكن بها مكبرات للصوت.
مسجد عبدالله الخلف
في عام 1394هـ الموافق لعام 1974م شيد المحسن عبدالله الخلف مسجداً كبيراً على قطعة أرض مملوكة له في منطقة الجهراء القديمة، وقد سمّي هذا المسجد باسمه، ويضم إلى جانب مصلى الرجال مصلى للنساء، ومكتبة عامة تحتوي مراجع في مختلف العلوم التي تخدم طلبة العلم. وقد توّلى وحده نفقات هذا المسجد كافة.
وبعد وفاته -رحمه الله- أصبح هذا المسجد منارة علمية تُعقد فيها الدروس والندوات والمسابقات الإسلامية لنشر الثقافة الإسلامية بين الأهالي في منطقة الجهراء.
مسجد الجهراء القديم
كما ساهم -رحمه الله- في تحمل مصاريف مسجد الجهراء القديم، وتكفل براتبي الإمام والمؤذن، حتى تولّت إدارة الأوقاف العامة، ومن بعدها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت رعاية المساجد وتحمل مصاريفها.
كما قام -رحمه الله- بإنشاء بعض المساجد في عدد من الدول العربية والإسلامية، منها مسجد في بلوشستان، ومسجد آخر في (حمَّانا) في لبنان، وحفر العديد من الآبار في أفريقيا، وساهم كذلك في مسجد على نفقته الخاصة في أفريقيا وأفغانستان.
وقد حرص على أن يضم مسجده مكتبة كبيرة، تضم عدداً كبيراً من الكتب والمراجع الدينية والعلمية، التي يحتاجها طلبة العلم، كما ساهم في إنشاء المدارس.
مدرسة الجهراء الابتدائية للبنين
حرص المحسن عبدالله الخلف على دعم المسيرة التعليمية بالجهراء من خلال الدعوة إلى إنشاء مدرسة الجهراء الابتدائية للبنين، التي بنيت على أرض مستقطعة من مزرعته، وكان ذلك على يد الشيخ ساير بن عبدالله العتيبي، الذي تبرع له المحسن عبدالله الخلف بثمانين روبية شهرياً، مقابل انتقاله للعمل في المدرسة والإشراف عليها، وهو مبلغ مساو للراتب الشهري الذي كانت تصرفه له دائرة المعارف آنذاك.
سور قرية الجهراء
بعد انتهاء معركة الجهراء، شارك المحسن عبدالله الخلف السعيد في بناء السور، الذي أمر الشيخ سالم المبارك الصباح حاكم الكويت حينئذٍ ببنائه حول قرية الجهراء، ليكون خط الدفاع الأول عن الكويت.
وفاته -رحمه الله
لقد كان المحسن عبدالله الخلف السعيد من الرعيل الأول الذين ساهموا بدور بارز في بناء الاستقرار السياسي والاقتصادي للكويت الحديثة، ولم تنقطع إسهاماته في هذا المجال حتى وفاته صباح يوم الأحد الثامن والعشرين من ذي القعدة عام 1414هـ الموافق للثامن من مايو عام 1994م وعمره نحو 95 عاماً، أسكنه الله فسيح جنّاته، وجعل أعماله في ميزان حسناته، وجزاه عن الكويت وأهلها خير الجزاء.
المصادر والمراجع:
- لقاء مع المهندس فيصل عبدالله الخلف السعيد ابن المحسن عبدالله الخلف السعيد
- سلسلة محسنون من بلدي – الجزء الثاني – بيت الزكاة – الكويت 2001
لاتوجد تعليقات