رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: ياسر برهامي 27 أكتوبر، 2017 0 تعليق

صفات جيل النصر المنشود (3)

 

بينت لنا سورة الحشر صفات جيل النصر المنشود، التي هي صفات الصحابة -رضوان الله عليهم- من المهاجرين والأنصار، السابقين إلى الله ورسوله، الذين قام الإسلام على أكتافهم، ونقلوا إلينا القرآن والسنة غضين طريين كما أنزلا، وأتوا بالإسلام إلينا على طبق من ذهب؛ فهم مصابيح الدجى وأعلام الهدى، ونتناول في هذه السلسلة صفات هذا الجيل وواجبنا نحوهم، لعلنا نقتدي بهم وبآثارهم، وتكلمنا في العدد الماضي عن فضلهم وفضل حبهم، واليوم نكمل ما بدأناه بالحديث عن مفهوم الهجرة وفضلها.

      لا تظن أن الهجرة فقط هي الانتقال من دار الحرب إلى دار الإسلام؛ فالمهاجرون هاجروا الهجرة العظيمة السابقة التي فازوا بها بشهادة من رب العباد في كتابه عز وجل، فسماهم المهاجرين، لكن هناك معنىً أوسع للهجرة بينه النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم فعلاً تركوا الوطن والأهل والتجارة لله -سبحانه وتعالى-، وباعوا ذلك لله -عز وجل- وربح بيعهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـصهيب: «ربح البيع أبا يحيى» عندما دلهم -أي: كفار قريش- على ماله ليأخذوه ويتركوه يهاجر في سبيل الله -عز وجل.

هل لنا نصيب من الهجرة؟

      فعندما هاجر المهاجرون تركوا كل ما استراحوا إليه من الأهل والمسكن والأموال والتجارة، والعمل المناسب، وانتقلوا إلى دار غريبة عليهم، وكل هذا هجرة في سبيل الله -عز وجل- فهل لنا نصيب من الهجرة؟ نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» فكل عادة، تعودت عليها، واسترحت إليها، لكن فيها معصية لله -عز وجل- فإذا هجرتها، فأنت مهاجر إلى الله، والمهاجر: من هجر السوء، يعني: أن تترك ما نهاك الله -عز وجل- عنه وإن كنت محتاجاً إليه، كعادة من العادات، بل للمسلمين اليوم نصيب كبير جداً من أن يكونوا من المهاجرين؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عبادة في الهرج كهجرة إلي» رواه مسلم في صحيحه.

العبادة في وقت الفتن هجرة

     فالعبادة في وقت الفتن هجرة، وما أكثر الفتن من الصد عن سبيل الله، والإعراض عن دينه، وترك الالتزام بها، ومن الفتن عدم العمل بدين الله -تعالى- في كل مجالات الحياة وحصر العمل في الأسرة، ثم يقولون: نعبد الله في أنفسنا، مع أن العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، فليس من العبادة أن تبقى في دارك تاركاً لكل المنكرات تتفشى، وتذهب إلى عملك ساكتاً عنها، ثم تلاقي الناس ولا تنكر، وإنما تصلي ما عليك من ركعات وكفى، ليست هذه هي العبادة المقصودة، وإنما العبادة: أن تمتثل طاعة الله، وأن تترك ما حرمه عز وجل، لتكون مهاجراً، وفي الحديث: «عبادة في الهرج كهجرة إلي»؛ وذلك لأن الوقت وقت فتن، فتشتد فيه الأمور، ويصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر؛ ولذلك يكون مهاجراً.

حقيقة الهجرة إلى الله

     انظر إلى العادات التي تعودت عليها، وانظر ماذا يخالف شرع الله -عز وجل- منها؟ وما يعيقك عن لذيذ العلم والعمل؟ ثم اهجره، واهجر كل ما نهاك الله -عز وجل- عنه؛ لكي ينطلق قلبك إلى الله -عز وجل- وذلك أن الهجرة هي هجرة إلى الله وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتكون بالقلب كما تكون بالبدن، عندما يشرع بالانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام، لكن الهجرة بالقلب فرض في كل حين.

      فالهجرة إلى الله، أن تهجر كل ما نهاك الله -عز وجل- عنه، فتهجر التوكل على غيره إلى التوكل عليه، والخوف من غيره إلى الخوف منه وحده، وحب غيره والحب لغيره إلى الحب له وفيه سبحانه وتعالى، ورجاء غيره وابتغاء غير وجهه إلى رجاء فضله وابتغاء وجهه -سبحانه- وهكذا في كل عبادة من العبادات تهجر ما نهاك الله عنه إلى ما يحبه -سبحانه وتعالى- ويرضاه.

الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 

     وأما الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكما يقول ابن القيم -رحمه الله-: هي سفر النفس في كل مسألة من مسائل الإيمان وحادثة من حوادث الأحكام، ومنزلة من منازل القلوب إلى معدن الهدى ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ؛ فخذ كل مسألة طلعت عليها شمس رسالته، وإلا فاقذفها في بحر الظلمات، وكل شاهد عدله هذا المزكي، وإلا فعده من أهل الريب والظلمات.

      فهذه الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تهاجر إليه بالفعل عندما تشتد الفتن، وتكثر العقائد الفاسدة، والعبادات الباطلة والبدع فيها، ويترك الناس العبادة الصحيحة، وربما تركوا العبادة بأسرها، فصارت الصلوات مهجورة، والزكاة لا تؤدى، والصيام الواجب يجهر بإفطاره، ويقل الحج، بل تعثر خطوات من يريده، ونحو ذلك، فإذا حدث ذلك، فأداء العبادة في هذا الوقت أعظم.

     وكذلك تكون الهجرة بالقلوب، وأحوال الأخلاق، عندما تتغير القلوب والأخلاق، ويكون الالتزام بالسنة في هذا المقام هجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

      فللمسلمين نصيب في الهجرة في كل وقت، وليست مقصورة على انتقال البدن الذي به يكون الإنسان مبتعداً عن رؤية أهل الكفر والفساد والظلم، مع إقرارنا أن رؤيتهم ومعاشرتهم من أسباب شقاء الإنسان، ومن أسباب العذاب إلا أن يكون داعياً إلى الله، فيعاشرهم بشرع الله لأجل الدين، ويدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى.

تحمل ألم الإخراج من بين الأهل والمال والولد

      قال -عز وجل-: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} (الحشر:8) فتحمل هؤلاء المهاجرون ألم الإخراج، ومعلوم: أنه لأن تخرج بنفسك أهون من أن تُخرج؛ فإخراج الإنسان من داره أمر شديد على النفس، وذلك يجعل كثيراً من الناس يتركون الالتزام، والإنسان الذي تحمل ذلك الخطر، أو ذلك الفعل ولو للحظات قوي العزيمة والدين، وقد يخرج الإنسان من داره يوماً أو يومين أو ثلاثة أو شهراً أو شهرين أو أكثر ظلماً وعدواناً بغير حق إلا أن يقول: ربنا الله.

      وكذا أن يخرج من ماله، فيفسد عليه ماله، وتفسد تجارته، أو يمنع من ممارستها، أو ممارسة عمله الذي يتكسب منه ما يحتاجه، إن ذلك أمر شديد على النفس، ولاسيما من كانت أموره متأثرة كالمهاجرين -رضي الله تعالى عنهم- قبل هجرتهم، وقبل التزامهم بدين الله -سبحانه وتعالى- ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم .

     فتحمل هذا الإخراج من الديار والأموال هو من أعظم الصفات الجاذبة لتأييد الله -سبحانه وتعالى- ونصرته، وأن يعوضهم الله -عز وجل- خيراً مما فاتهم؛ فما كانوا يتصورون أبداً أن يطؤوا بلاد الكفار التي بجوارهم، بل صار كل واحد منهم أميراً على مصر من الأمصار، قال الله -عز وجل- عن بني قريظة: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} (الأحزاب:26-27)، فحصون اليهود في المدينة ما كان العرب قبل الإسلام يطؤونها أبداً، وما كانوا يسمحون لهم بالدخول، ولا كان يفكر المسلمون بأنهم سوف يدخلونها أبداً، كما قال -عز وجل-: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} (الحشر:2) ثم كانت العاقبة أن أفاء الله عليهم أموال بني النضير وبني قريظة ومكن لهم جزيرة العرب كلها؛ لأنهم تحملوا في سبيل الله -عز وجل- ألم الإخراج من الديار والأموال، وضحوا بذلك في سبيله -سبحانه وتعالى.

      هذه الصفة أي: الاستعداد للتضحية والبذل والعطاء لا بد أن تكون موجودة في هذا الجيل، وأن يتحمل الإنسان أنواع المشاق بما فيها ألم الإخراج والخوف في سبيل الله -عز وجل.

الإخلاص لله لنيل رضوانه

     قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} (الحشر:8) فلا يبتغون شيئاً من الدنيا، ولابد من وجود الإخلاص في كل عمل، وأن يبتغي الإنسان وجه الله -عز وجل- ولا يريد جزاءً ولا شكورا،ً كما قال -عز وجل- عن المؤمنين: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} (الإنسان:9).

     فقوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} أي: يبتغون الفضل والثواب والجنة والرضوان، وهو من أعلى ما يطلبه المؤمن؛ لأنه ذاق في هذه الدنيا حب الله عز وجل، وعرف أن رضاه -عز وجل- هو أعظم شيء يعطاه الإنسان؛ فهذا ذاق أثر الطاعة؛ فإن الإيمان: هو أثر من آثار رضاه -سبحانه وتعالى- عن العبد؛ ولذلك عندما يذوق الإنسان حلاوته يعلم بالفعل أن رضوان الله من أعظم ما يطلب، كما قال -سبحانه وتعالى-: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} (التوبة:72) أي: أكبر من الجنة فعلاً، نعني بذلك: أكبر من الثواب الحسي في الجنة، فرضوان الله هو الذي جعل الجنة دار الأبرار، والرضا الأعظم هو الرضا الذي لا سخط بعده، كما يقول الله -عز وجل- لأهل الجنة -كما ثبت في الحديث الصحيح-: «تريدون شيئاً أزدكم؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من هذا، ألم تبيض وجوهنا؟ وتدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ فيقول: بلى أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً».

     فهذا الرضوان الذي يبتغيه المؤمن، ويريد أن يرضي الله -سبحانه وتعالى- بكل طاعة، إلى أن يصبح الشخص مرضياً عنه، ولا يزال العبد يتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، حتى يكون محبوباً عند الله عز وجل، كما قال -عز وجل- في الحديث القدسي: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه».

مرحلة أخرى

      إذاً: فهناك مرحلة أخرى، فهو يحب منه قبل هذا كله فعل كل عمل صالح، لكن إذا واظب على النوافل بعد الفرائض، وصل إلى أن يكون محبوباً بذاته عند الله؛ لذا يكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سأل الله ليعطينه، ولئن استعاذ به ليعيذنه، وهذا من علامات قبول العبد عند الله، وكل هذا جزء من الرضا، وإلا فالرضا الأعظم: هو الذي لا سخط بعده، وهو إنما يكون يوم القيامة، وبرضاه دخلوا الجنة، ولكن رضا أتم، وهذا أعظم ما يمكن أن يوجد، إن نصيب العبد من الله -عز وجل- هو أعظم ما يسعد الإنسان، وأعظم ما يجد به السعادة في الجنة أن ينظر إلى وجهه، وأن يستشعر رضوان الله، وأن يعلم بكلام الله أن الله أحل عليه رضوانه.

      كما قال -سبحانه-: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} هذا الذي يحرك في الإنسان كل الدوافع الحسنة والطيبة للإخلاص، وربما يعاني الواحد منا منازعات الرياء والشهرة والسمعة ومدح الناس له، وفي ذلك أعظم ما ينقله نقلة سريعة إلى الإخلاص، فيبتغي ما ذكر الله، ويفكر كثيراً في الثواب والفضل من الله، ويفكر في رضوانه، وعندئذٍ سوف يصغر العالم كله في قلبه، وعند ذلك يسهل عليه الإخلاص، ويتيسر عليه أن يكون مخلصاً لله -عز وجل- في كل عمل؛ لأنه وضع نصب عينيه رضوان الله، وعلم أنه يعامل الله عز وجل، ووضع نصب عينيه الوصول إلى أن يحبه الله، ويريد رضوانه، وثوابه في جنته، وهذا الذي يمحو من قلبه هذه الدنيا فتصغر جداً، فلا يمكن أبداً بعد ذلك أن يعمل من أجل مدح مادح، أو يفر من ذم ذام، أو أن يبتغي شيئاً من حطام الدنيا من رياسة، أو مال، أو شهوة، نسأل الله العافية، وأن يرزقنا الإخلاص والعمل الصالح، ونعوذ بالله أن نشرك به شيئاً نعلمه، ونستغفره لما لا نعلمه. 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك