شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان .. السَّابِعُ مِنْ شُعَبِ الْإِيْمَانِ .. الْإِيْمَانُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ
- يظهر الفرق والتغابن جليا بين الخلائق إذا وقعت الواقعة لأنها ترفع أقواما إلى أعلى عليين وتخفض أقواما إلى أسفل سافلين
- مع الإيمان بالبعث يترسخ في نفس المؤمن اعتقاده بقدرة الله تعالى الذي يعيد الأرواح بزجرة واحدة
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن عاقل عالي الهمة، يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها؛ فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف كثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك شرحتها بأسلوب سهل مختصر مدعّم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا.
الشُعَبة السابعة من شعب الْإِيْمَانِ هي: الْإِيْمَانُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، لِقَوْلِهِ -تعالى-: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} (التغابن:7)، وَلِقَوْلِهِ -تعالى-: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} (الجاثية:26)، وَلِحَدِيْثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عه - فِي الصَّحِيْحِ فِي حَدِيْثِ الإْيْمَانِ: الْإِيْمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَبِالْبَعْثِ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ، وَبِالْقَدَرِ كُلِّه.الشرح
- قوله: (الإيمان بالبعث بعد الموت)، يعني: اليقين الجازم الذي لا يتطرق إليه شك، بأن الله -تعالى- سوف يبعث الخلائق بعد موتهم عند قيام الساعة، وهو ركن من أركان أعمال القلب، وهو تبع للإيمان باليوم الآخر، لقوله -تعالى-: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} (التغابن:7). يقول الطبري في تفسيره: القول في تأويل قوله -تعالى-: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (التغابن:7)، يقول -تعالى- ذكره: زعم الذين كفروا بالله أن لن يبعثهم الله إليه من قبورهم بعد مماتهم. وكان ابن عمر يقول: زعم: كنية الكذب. وقوله: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}، يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: قل لهم يا محمد: بلى وربي لتبعثن من قبوركم، {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ}، يقول: ثم لتخبرنّ بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا، {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، يقول: وبَعْثُكم من قبوركم بعد مماتكم على الله سهل هَيِّنٌ.
- قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وبالبعث من بعد الموت»، زَادَ فِي التَّفْسِير لفظ «الْآخِر»، وَلِمُسْلِمٍ فِي حَدِيث عُمَر: «وَالْيَوْم الْآخِر» فَأَمَّا الْبَعْث الْآخِر، فَقِيلَ: ذَكَرَ الْآخِر تَأْكِيدًا، كَقَوْلِهِمْ: أَمْس الذَّاهِب، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْبَعْث وَقَعَ مَرَّتَيْنِ: الْأُولَى: الْإِخْرَاج مِنْ الْعَدَم إِلَى الْوُجُود، أَوْ مِنْ بُطُون الْأُمَّهَات بَعْد النُّطْفَة وَالْعَلَقَة إِلَى الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَالثَّانِيَة: الْبَعْث مِنْ بُطُون الْقُبُور إِلَى مَحَلّ الِاسْتِقْرَار، وَأَمَّا الْيَوْم الْآخِر: فَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ آخِر أَيَّام الدُّنْيَا؛ أَوْ آخِر الْأَزْمِنَة الْمَحْدُودَة، وَالْمُرَاد بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيق بِمَا يَقَع فِيهِ مِن الْحِسَاب وَالْمِيزَان وَالْجَنَّةِ وَالنَّار. وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيح بِذِكْرِ الْأَرْبَعَة بَعْد ذِكْر الْبَعْث فِي رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيِّ، وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس أَيْضًا.
أدلة البعث في القرآن
ساق الحليمي أدلة محسوسة على البعث والنشور ومنها: (1) الإحـالـة على القـدرة: فقـوله -تعالى-: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأحقاف: 33). (2) الأرض تكون حية تنبت وتثمر وتموت، فتصير إلى ألا تنبت وتبقى خاشعة هامدة. فأما حياتها؛ فإنها تكون عند سخونة الهواء التي جاورتها وإسخانه إياها، وانسياق الماء إليها وترطيبه لها. وأما موتها فإنما يكون عند إسخان الشمس إياها من غير ما تصل إليها؛ لأنها تصير كالفخار. (3) احتج على عباده بقوله -تعالى-: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} (البقرة: 28). يعني نطفًا في الأصلاب والأرحام، فجعلكم منها بشرًا تنتشرون. وقال: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} (المرسلات). (4) قوله-تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} (الأنعام: 95) وذلك أن الحب إذا جف ويبس بعد انتهاء تمامه ووقوع الناس من ازدياده. وكذلك النوى إذا تناهى عظمه، وجف ويبس؛ كانا مسببين، ثم إنهما إذا أودعا الأرض الحية فلقهما الله -تعالى-، وأخرج منهما ما يشاهد من النخيل والزرع حبا ينشأ ويثمر. (5) ما أراه إبراهيم -صلوات الله عليه- لما قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} (البقرة: 260)، فأمره الله أن يأخذ أربعة من الطيور، فيقطعهن، ويجعل على كل جبل منهن جزءًا ثم يدعوهن. فرجع كل جزء إلى مثله، حتى يلتئم جملة ذلك الطير، ويرد الله الحياة إليها، ويأذن له في إحيائه، فيأتينه سعيًا. (6) الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها! وكان معه حمار، وركوة عصير، وسلة تين، على ما جاءت به الأخبار؛ {فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يومًا أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام}. (7) عصا موسى -عليه السلام- فإن الله -تعالى- قال لموسى: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} (طه)، ثم إن فرعون جمع له السحرة، فألقوا حبالهم وعصيهم، وخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، فقال الله-تعالى-: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} (طه: 69)، فلما ألقاها تلقفت حبالهم وعصيهم، ثم عادت كما كانت. فليس لأحد أن يستبعد مع هذا إحياء الله -تعالى- للأموات وبعثهم. (8) أصحاب الكهف فإنهم كانوا بين ظهرانَي قوم يكذبون بالبعث، فضرب الله على آذانهم في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين، ثم أقامهم، وأعثر قومهم عليهم؛ ليعلموا بحفظ الله -تعالى- أجسادهم مع فقدهم الغذاء تلك المدة الطويلة، وصيانة شعرهم وبشرهم مع ذلك عن أن تأكلها الأرض، وكل ذلك خارج عن العادة، دل ذلك على أن الله -تعالى- قادر على إحياء الموتى وإعادة الأجسام الهامدة كما كانت، وإن كان ذلك مفارقًا للعادة. ا.هـفوائد الإيمان بالبعث
- مع الإيمان بالبعث يترسخ في نفس المؤمن اعتقاده بقدرة الله -تعالى-، الذي يعيد الأرواح بزجرة واحدة، والبعث هو إحياء الخلائق جميعًا بعد النفخة الثانية، قال -تعالى-: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} (الزمر: 68).
- الاستعداد ليوم البعث بالإيمان بالله والعمل الصالح.
- تعظيم ذلك اليوم في قلب المؤمن والخوف منه، قال -تعالى-: {خَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (النور: 37).
- تمييز إيمان المؤمن من عناد الكافرين وإلقائهم لاستبعاد دعوة الرسل -عليهم السلام- حين قالوا: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الجاثية: 25).
- يظهر الفرق والتغابن جليا بين الخلائق إذا وقعت الواقعة؛ لأنها خافضة رافعة؛ بحيث يُرفع أقوامٌ إلى أعلى عليين، ويُخفض أقوام إلى أسفل سافلين، والعاقل البصير يحرص على أن يكون في زمرة الأولين من أهل الإيمان والعمل الصالح.
لاتوجد تعليقات