رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: محمد عبدالرحمن العقيل 8 سبتمبر، 2020 0 تعليق

شمس آخر الليل..


الصلاة خير من النوم... عندما أستيقظ من نومي على هذا النداء المقدس، أسمي بالله، وأنهض بهدوء من فراشي، ثم أفتح المصباح الصغير الذي بجانبي، وأذهب لأتوضأ للصلاة، ثم أخرج من بيتي في وقت السحر متوجها إلى المسجد لصلاة الفجر، مستأنسا بذكر الله، وأنا أمشي بروية داخل أستار الليل الساكن وهدوئه المتناغم، فأذكر الله ما شاء أن أذكره، وأدعوه بالثبات وصلاح الحال وأشكره، {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (الإسراء:78). ففي هذه اللحظات تهدأ الأصوات، وتنقطع فيها الحركات، فتكون النفس أصفى، والذهن أجمع؛ فإن هدوء الصوت في السحر، وسكون البشر، أعون للنفس على التأمل والتدبر فيما ندعو ونذكر.. ولكن مع الأسف، لا يستمر هذا التواصل الجميل طويلا، وسرعان ما ينقطع لحظة دخولي إلى المسجد! نعم المسجد؛ وذلك بسبب إفراط بعض المصلين في فتح أضواء المسجد جميعها، وكأننا في حفل، فأدخل في حالة متناقضة تماما عما كنت عليها، وكأن الشمس أشرقت فجأة ودون مقدمات، فأخرج من ناشئة الليل إلى منتصف النهار!

     جعل الله -تعالى- لكل شيء ميزانا مقدرا {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس:40)، فلا الشمس تخرج فجأة، ولا يتعدى الليل على النهار، بل -سبحانه- {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} (الحديد:6) وهذا هو خلق الله البديع الذي يخرج النور من الليل بتدرج لطيف، ويخرج الليل من النهار بلطف خفيف، يقول العلماء لو خرجت الشمس فجأة لعمي الناس جميعا! فكل حركة في هذا الكون مصممة لخدمة الإنسان وطبيعته، فكما أن هناك خلايا في جسم الإنسان بحاجة لطاقة الشمس، فكذلك توجد خلايا أخرى بحاجة إلى سكون الليل لتوازن الجسم.

الليل سكن وراحة

     إن الليل نعمة من نعم الله علينا، لنسكن ونرتاح، ونريح أجسادنا من عناء العمل، وكذلك لنريح أعصابنا من تسلط أشعة الشمس عليها طوال النهار، فلابد للإنسان أن يعيش فترات يومه كما أرادها له خالقه وقدرها {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} (يونس:67).. فلا ينبغي للإنسان ان يجعل ليله كنهاره، كلاهما مضيئان.. هذا بلا شك تعد وعبث في هوية الوقت، وإرهاق لأعصاب الجسم.

الإنارة بدون حساب

     وقد تكون الوفرة المالية والتباهي بكثرة الإنارات، هو ما جعل الأمر لدينا مألوفا وطبيعيا في بلداننا العربية ولا سيما الخليجية؛ فلذلك غاب عنا مفهوم خصوصية الوقت، وزال احترامه وقدسيته من نفوسنا، وصرنا لا نقدر الساعة الزمنية في أجسادنا؛ فقد اعتاد عليها الكثيرون، حتى أصبحوا لا يميزون بين إنارة المكان على قدر الحاجة، وبين إنارته بالإضاءات العالية، وكأنهم لا يريدون الخروج من النهار!

     ومن عجيب ما قرأت عن أضرار عدم الاتزان اليومي مشكلات سكان القطب الشمالي والجنوبي، الذين يعانون من اضطرابات جسدية واضطرابات نفسية واضحة، تصل لدرجة التفكير بالانتحار لدى بعضهم؛ وذلك بسبب عدم انضباط النظام الوقتي، فليلهم ستة أشهر، ونهارهم ستة أشهر أخرى.

زهوة الإضاءات الصناعية

أكثر ما يزيد الموضوع تعقيدا برأيي هو زهوة الإضاءات الصناعية وإشراقتها الجذابة، التي تشعر بعضنا بالبهجة والسعادة للوهلة الأولى من دخوله لأي مكان عالي الإضاءة، ولكن انتبه؛ فهذا الشعور المغري سيكون على حساب قدرة تحمل أعصابك.

     نشرت دراسة في مجلة التقدم العلمي الكويتية، عن خطورة الإفراط في استخدام الإضاءات الصناعية العالية، وأطلق عليها العلماء مصطلح (التلوث الضوئي - light pollution) ومن أهم أضرار التعرض الطويل للضوء الصناعي على جسم الإنسان هو: تقليل إفراز هرمون (الميلاتونين)، وهو هرمون مهم لصحة الإنسان؛ فهو الهرمون الذي يعيق الخلايا السرطانية في الجسم، والإضاءة الصناعية العالية تؤثر على عدم ضبط الساعة البيولوجية في جسم الإنسان، مما يؤدي إلى خلل في ضبط أداء أعضاء الجسم عموما، وتنشأ عنها أمراض كثيرة مثل: الأرق والصداع والبدانة والضعف الجنسي وضعف البصر، وعضلة العين... وغيرها من اضطرابات في وظائف الجسم.

هوس الإضاءات العالية

     أصبح عند بعض الناس هوس الإضاءات العالية، لدرجة أن هناك من يفتح الأنوار في ذروة النهار، مع ملاحظة أني لم أر بيتا في الدول المتحضرة يفتحون الإضاءات كما نفعل في دولنا العربية! قد يكون بدافع التوفير، ولكن في النهاية يعيشون هوية اليوم كما قدره الله، دون زيادات أو إسراف.

أبداننا بحاجة لتعيش فترات اليوم بطبيعته وبجماله ودون تعد يخل بهوية الوقت. فللشروق جمال، وللغروب جمال، وللنهار جمال، وللليل جمال، وكل خلق ربي جمال.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك