شــــــرح الصــــــــدور في الـــــــــــــــــــــرد على من أجاز التمســــــــــح بالقبــــــــــور
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه الطيبين الطاهرين، أما بعد:
فقد قرأت للكاتب علي يوسف المتروك مقالا بعنوان: «زيارة القبور بين الإباحة والتحريم» منشور في جريدة الوطن بتاريخ 29/5/1430هـ الموافق 24/5/2009، العدد 11987/6433 السنة 48؛ فوجدته مقالا جانب فيه كاتبه الصواب في مسائل اعتقادية خطيرة، وأتى بروايات باطلة ليوهم القراء بأنه على الحق في جواز التبرك والتمسح بالقبور وغيرها من آثار الصالحين.
فأقول - والله المستعان وأسأله التوفيق والسداد فيما نويت من الذب عن منهج السلف الصالح ومعتقدهم، رضي الله عنهم.
الكلام حول ما نقل عن الإمام أحمد في جواز التمسح بقبر النبي[.
نقل العلامة المرداوي في «الإنصاف» هذه الرواية، قال: لا يستحب تمسحه بقبره عليه أفضل الصلاة والسلام على الصحيح من المذهب.
قال في «المستوعب»: بل يكره، قال الإمام أحمد: أهل العلم كانوا لا يمسونه، نقل أبو الحارث يدنو منه ولا يتمسح، بل يقوم حذاءه فيسلم عليه وعنه يتمسح به! ورخص في المنبر.
وفي المستوعب قال: سئل أحمد - رحمه الله - عمن يتمسح بقبر النبي[؟ فقال: ما أعرف هذا! أهل العلم كانوا لا يمسون ويقومون ناحية فيسلمون، وكذا كان ابن عمر يفعل، فدل على أنه غير مستحب، بل مكروه.
قال العلامة عبدالرحمن بن القاسم فيما نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية: قال الشيخ: «اتفقوا على أنه لا يقبل جدار الحجرة «ولا يتمسح به، فإنه من الشرك، والشرك لا يغفره الله وإن كان أصغر إلا بالتوبة». (انظر حاشية الروض المربع 4/194).
قال شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى-: «في ثبوت مثل هذا عن الإمام أحمد نظر؛ وعلى فرض ثبوت ذلك عنه، فهو كغيره من البشر يخطئ ويصيب».
قلت: صدق شيخنا - رحمه الله تعالى - فإن في ثبوت هذا عن الإمام أحمد نظر فإنه كان حريصا على سد كل أبواب توصل إلى الشرك بالله جل وعلا.
فقد ثبت عنه - رحمه الله تعالى - أنه كان ينهى عن التبرك به وبغيره كما قال العلامة ابن مفلح - رحمه الله تعالى- (الآداب الشرعية 2/225): «فصل إنكار أحمد للتبرك به، وتواضعه، روى الخلال في «أخلاق أحمد» عن علي بن عبدالصمد الطيالسي، قال: مسحت يدي على أحمد بن حنبل، ثم مسحت يدي على بدني، وهو ينظر فغضب غضبا شديدا وجعل ينفض يده، ويقول: عمن أخذتم هذا؟ وأنكره إنكارا شديدا.
وقال المروذي في كتاب «الورع»: سمعت أبا عبدالله يقول: كان يحيى بن يحيى أوصى لي بجبته، فجاءني بها ابنه، فقال لي: فقلت: رجل صالح قد أطاع الله فيها، أتبرك بها؟ قال: فذهب فجاءني بمنديل ثياب فرددتها مع الثياب. أ. هـ.
قلت: ورواية أبي بكر الأثرم تبين أن الصحيح والحق عند الإمام أحمد عدم جواز التمسح وتلمس القبر.
قال أبو بكر الأثرم: «قلت لأبي عبدالله - يعني الإمام أحمد: قبر النبي[ يلمس ويتمسح به؟ قال: ما أعرف هذا، قلت: فالمنبر؟ قال: أما المنبر، فنعم قد جاء فيه، قال أبو عبدالله شيء يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن ذئب عن ابن عمر أنه مسح على المنبر، قال: ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة، قلت: ويروى عن يحيى بن سعيد الأنصاري - شيخ مالك وغيره - أنه إذا أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا فرأيته استحسن ذلك ثم قال: لعله عند الضرورة.
قلت لأبي عبدالله: إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر، وقلت له: ورأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه ويقومون ناحيته فيسلمون، فقال أبو عبدالله: نعم وهكذا كان ابن عمر يفعل ذلك، ثم قال أبو عبدالله: بأبي وأمي[». ا. هـ.
قلت: رواية ابن أبي ذئب عن ابن عمر - رضي الله عنهما - في المسح على المنبر لا تصح، بل هي منقطعة،؛ فإن أبن أبي ذئب وهو محمد بن عبدالرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب، أبو الحارث المدني، ثقة فقيه فاضل وهو من الطبقة السابعة التي هي من كبار التابعين كمالك وسفيان الثوري التي اتفق علماء الجرح والتعديل أنها لم يثبت لها لقاء وسماع من أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - هم والطبقة السادسة اتفاقا فكيف بالسابعة.
وكذلك عن سعيد بن المسيب وشيخ مالك كلها روايات جاءت بلاغاً، وإن صحت فالفرق كبير بين القبر والمنبر؛ فالحق أن جمهور الصحابة - رضي الله عنهم - لم يكونوا يفعلوا ذلك؛ لأن السنة لم تندبهم إلى ذلك؛ فإنهم كانوا أحرص الناس على فعل الخير والاتباع.
أما مالك فقد قال القاضي عياض: وقال مالك في «المبسوط»: لا أرى أن يقف عند قبر النبي[ ويدعو، ولكن يسلم وينصرف، ويسلم على أبي بكر وعمر ثم يمضي، وقال مالك: ذلك لأن هذا هو المنقول عن ابن عمر أنه كان يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه، ثم ينصرف ولا يقف يدعو فرأى مالك ذلك من البدع، وفي قول لمالك: ولا يمس قبر النبي[ بيده.
وهذه رواية ابن وهب ويحيى بن يحيى وابن عبدالبر «كلهم اتفقوا على عدم جواز مس قبر النبي[».
قلت: ورواية ابن وهب عن مالك - رحمه الله - تؤكد ذلك، قال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي[ ولا يمس القبر بيده.
فالسلف كلهم متفقون على أن الزائر لا يسأل شيئا ولا يطلب إليه ما يطلب إليه في حياته ويطلب إليه يوم القيامة، لا شفاعة ولا استغفار ولا غير ذلك، وإنما كان نزاعهم في الوقوف للدعاء له والسلام عليه عند الحجرة؛ فبعضهم رأى هذا من السلام الداخل في قوله[: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام» رواه أبو داود وهو حديث حسن.
وعن عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - قال: قال[: «إن لله تعالى ملكا أعطاه سمع العباد، فليس من أحد يصلي علي إلا أبلغنيها وإني سألت ربي ألا يصلي علي عبد صلاة إلا صلى عليه عشر أمثالها» رواه الطبراني في الكبير وهو حديث حسن.
قال المناوي في فيض القدير عند شرحه لحديث: «زوروا القبور فإنها تذكر الآخرة».
«أي شرط ألا يقترن بذلك تمسح بالقبر أو تقبيل أو سجود عليه أو نحو ذلك؛ فإنه كما قال السبكي: بدعة منكرة إنما يفعلها الجهال». أ. هـ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى-: واتفق العلماء على أن من زار قبر النبي[ أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين - الصحابة وآل البيت وعندهم ألا يتمسح به ولا يقبله، بل ليس في الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود، وقد ثبت في الصحيحين أن عمر - رضي الله عنه - قال: والله! إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله[ يقبلك ما قبلتك! البخاري كتاب الحج باب ما ذكر في الحجر الأسود رقم 1597.
قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 27/79 - 80): «ولهذا لا يسن باتفاق الأئمة أن يقبل الرجل أو يستلم ركني البيت اللذين يليان الحجر ولا جدران البيت ولا مقام إبراهيم ولا صخرة بيت المقدس ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين حتى تنازع الفقهاء في وضع اليد على منبر سيدنا رسول الله[ لما كان موجودا فكرهه مالك وغيره؛ لأنه بدعة؛ وذكر أن مالكا لما رأى عطاء فعل ذلك لم يأخذ عنه العلم ورخص فيه أحمد وغيره، لأن ابن عمر - رضي الله عنهما - فعله، وأما التمسح بقبر النبي[ وتقبيله فكلهم كره ذلك ونهى عنه؛ وذلك لأنهم علموا ما قصده النبي[ من حسم مادة الشرك وتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله رب العالمين».
قال الكاتب في مقالته عن العيني صاحب عمدة القاري (9/241): «قال العيني في عمدة القاري: أخبرني الحافظ أبو سعيد بن العلائي قال: رأيت في كلام أحمد بن حنبل في جزء قديم عليه خط بن ناصر وغيره من الحفاظ، أن الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي [ وتقبيل منبره، فقال: لا بأس بذلك، قال: فأريناه للشيخ تقي الدين بن تيمية فصار يتعجب من ذلك ويقول: عجبت أحمد عندي جليل يقول هذا كلامه أو معنى كلامه، وقال العيني بعد ذلك: وأي عجب في ذلك وقد روينا عن الإمام أحمد أنه غسل قميصا للشافعي وشرب الماء الذي غسله به، وإذا كان هذا تعظيمه لأهل العلم، فكيف لمقادير الصحابة؟! وكيف بآثار الأنبياء؟! عليهم الصلاة والسلام».
قلت: أما تقبيل قبر النبي[ فقد تقدم الكلام عنه، وأما ما أورده العيني من أن الإمام أحمد غسل قميصا للشافعي وشرب الماء الذي غسله به فلم أجد من روى هذه القصة بهذا السياق، وإنما أوردها ابن مفلح في الآداب الشرعية (2/15) كالتالي:
«إن الشافعي - رحمه الله - كتب من مصر كتابا وأعطاه للربيع بن سليمان، وقال: اذهب به إلى أبي عبدالله أحمد بن حنبل وائتني بالجواب، فجاء به إليه، فلما قرأه تغرغرت عيناه بالدموع، وكان الشافعي ذكر فيه أنه رأى النبي[ في المنام، وقال له: اكتب إلى أبي عبدالله أحمد بن حنبل واقرأ عليه مني السلام.. فقال له الربيع: البشارة، فأعطاه قميصه الذي يلي جلده وجواب الكتاب، فقال له الشافعي: أي شيء دفع إليك؟ قال: القميص الذي يلي جلده، قال: ليس نفجعك به، ولكن بله وادفع إلينا الماء حتى نشركك فيه - وفي بعض الطرق - قال الربيع: فغسلته وحملت ماءه إليه، فتركه في قنينة وكنت أراه في كل يوم يأخذ منه فيمسح على وجهه تبركا بأحمد بن حنبل». ا. هـ.
قلت: «وفي هذا الإسناد بلايا كثيرة منها: أن فيه محمد بن عبدالله الرازي الذي يقال له: جراب الكذب، ومنها: أن هذه القصة تخالف أصول اعتقاد الإمامين، ولاسيما أن المنقول عن الإمام أحمد عدم جواز التبرك بالأشخاص».
قلت:
1 - القصة ليست ثابتة عن الإمامين.
2 - أن هذا الفعل مخالف لما ورد عنهما - رحمهما الله - من حرصهما على عدم التبرك بالأشخاص.
3 - أن كل إنسان يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر[، وعلى فرض أنها ثبتت - وهي لا تثبت - فهي مما يرد عليهما؛ لمخالفتها لما وقع الإجماع عليه من بدعية التبرك بالأشخاص.
4 - لم يثبت عن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - أنهم تبركوا بقبر النبي[ أو آثار بعضهم بعضاً على ما كان من تفاضل بينهم.
وقد أورد شيخنا الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله تعالى - في كتابه «الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد» كلاما يوضح عدم جواز التبرك والتمسح بقبر النبي[ وإليك نصه:
التبرك بالأماكن والآثار والأشخاص أحياء وأمواتا.
التبرك: طلب البركة، وهو ثبات الخير في الشيء وزيادته.
وطلب ثبوت الخير وزيادته إنما يكون ممن يملك ذلك ويقدر عليه، وهو الله سبحانه؛ فهو الذي ينزل البركة ويثبتها، أما المخلوق فإنه لا يقدر على منح البركة وإيجادها ولا على إبقائها وتثبيتها.
فالتبرك بالأماكن والآثار والأشخاص أحياء وأمواتا لا يجوز؛ لأنه إما شرك إن اعتقد أن ذلك الشيء يمنح البركة، أو وسيلة إلى الشرك إن اعتقد أن زيارته وملامسته والتمسح به سبب لحصولها من الله.
وأما ما كان الصحابة يفعلونه من التبرك بشعر النبي[ وريقه وما انفصل من جسمه[ فذلك خاص به[ في حال حياته؛ بدليل أن الصحابة لم يكونوا يتبركون بحجرته وقبره بعد موته، ولا كانوا يقصدون الأماكن التي صلى فيها أو جلس فيها ليتبركوا بها، وكذلك مقامات الأولياء من باب أولى، ولم يكونوا يتبركون بالأشخاص الصالحين كأبي بكر وعمر وغيرهما من أفاضل الصحابة لا في الحياة ولا بعد الموت، ولم يكونوا يذهبون إلى غار حراء ليصلوا فيه أو يدعوا، ولم يكونوا يذهبون إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى ليصلوا فيه ويدعوا، أو إلى غير هذه الأمكنة من الجبال التي يقال: إن فيها مقامات الأنبياء أو غيرهم، ولا إلى مشهد مبني على أثر نبي من الأنبياء.
وأيضا فإن المكان الذي كان النبي [ يصلي فيه بالمدينة النبوية دائما لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يقبله، ولا الموضع الذي صلى فيه بمكة وغيرها، فإذا كان الموضع الذي كان يطؤه بقدميه الكريمتين ويصلي عليه لم يشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله، فكيف بما يقال: إن غيره صلى فيه أو نام عليه؟! فتقبيل شيء من ذلك والتمسح به قد علم العلماء بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا ليس من شريعته [».
قلت: فجزى الله شيخنا خيرا على ما أوضح فقد أصاب وأجاد وأفاد في هذا التحقيق الماتع.
ومن الأدلة الصريحة التي لا تحتاج إلى كثير فهم أو بيان هذه القصة الصحيحة التي أوردها الإمام أحمد في مسنده على شرط الشيخين عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله [ قبل حُنين، فمررنا بسدرة فقلت: يا نبي الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها، فقال النبي [: «الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم».
فانظر - يا رعاك الله - كم تأثر النبي [ من طلب بعض مسلمي الفتح التبرك بشجرة ذات أنواط؛ لأن هذا إنما هو بداية الشرك الأكبر، وذلك باعتقاد النفع والضر بتلك الشجرة، ويدخل في ذلك كل من يتبرك به من شجر أو حجر أو قبر.
قلت: وقد أخطأ الكاتب هداه الله عندما ذكر الآية: «{قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا} (الكهف: 21). وهذا تأييد من القرآن بمشروعية هذا العمل».
والجواب من خمسة وجوه:
أولاً: أن أولئك القائلين كانوا كفارا وليسوا بمؤمنين، وجاء الإسلام بتحريم ذلك فقال النبي [: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (الرد على البكري 2/567): «فبيوت الأوثان وبيوت النيران وبيت الكواكب وبيت المقابر لم يمدح الله شيئا منها ولم يذكر ذلك إلا في قصة من لعنهم النبي [، قال الله تعالى: {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا}، فهؤلاء الذين اتخذوا مسجدا على أهل الكهف كانوا من النصارى الذين لعنهم النبي [ حيث قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
وقد حكى ابن جرير في «تفسيره» عن المفسرين في أولئك المتغلبين قولين: أحدهما: أنهم مسلمون، والثاني: أنهم مشركون.
وبما تقدم من بيان لعن النبي [ لفاعلي ذلك، وتواتر تحذيره، وعظيم وعيده: لا يصح حملهم إلا على أنهم كانوا مشركين.
الوجه الثاني: إن سلمنا أنهم كانوا مسلمين، فكانوا ضالين منحرفين بفعلهم ذلك، قد استحقوا لعن النبي [ بسببه، وهم من جملة الجهال والعامة.
الوجه الثالث: أن الله عز وجل لم يصف أولئك المتغلبين، بوصف يمدحون لأجله، وإنما وصفهم بالغلبة! وإطلاقها دون قرنها بعدل أو حق يدل على التسلط والهوى والظلم، ولا يدل على علم ولا هدى، ولا صلاح ولا فلاح.
قال الحافظ ابن رجب (795هـ) في شرحه على صحيح البخاري (2/397) على حديث: «لعن الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»: (وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا}.
فجعل اتخاذ القبور على المساجد، من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأن مستنده: القهر والغلبة واتباع الهوى، وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المتبعين لما أنزل الله عليه رسله من الهدى) اهـ.
الوجه الرابع: أن استدلال هؤلاء القبوريين بهذه الآية على هذا الوجه - مع مخالفته للأحاديث المتواترة الناهية عن ذلك - مخالف لإجماع علماء المسلمين على تحريم اتخاذ المساجد على القبور.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (27/488): (فإن بناء المساجد على القبور، ليس من دين المسلمين، بل هو منهي عنه بالنصوص الثابتة عن النبي [، واتفاق أئمة الدين، بل لا يجوز اتخاذ القبور مساجد، سواء كان ذلك ببناء المساجد عليها، أم بقصد الصلاة عندها، بل أئمة الدين متفقون على النهي عن ذلك)، وقد قدمنا الكلام عن هذا مفصلا.
الوجه الخامس: أن هذه الآية ليست مخالفة - ولا تصلح أن تكون مخالفة - للأحاديث المتواترة الناهية عن ذلك، وإنما هي موافقة لها، مصدقة بها؛ فقد أخبر النبي [ باتخاذ اليهود والنصارى قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، وقال [: «إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك التصاوير» رواه البخاري في صحيحه (427، 1341، 3873) ومسلم (582).
والله أخبر كذلك في كتابه بذلك، فقال سبحانه: {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا}؛ فالآية مصدقة للأحاديث لا مخالفة.
وختاما ننصح كل مَن تصدى للكتابة وبيان معتقد السلف الصالح - رضي الله عنهم - ومنهجهم أن يتحرى الدقة والأمانة في النقل؛ فإنه مسؤول أمام الله عز وجل عن كل ما كتبت يمينه وخطه يراعه {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} (الإسراء: 36).
وما أحسن ما قيل:
وما من كاتب إلا سيفنى
ويبقى الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بخطك غير شيء
يسرك في القيامــــة أن تراه
ولقد روى الترمذي في سننه وغيره عن النبي [ أنه قال: «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون».
فما أجمل أن يرجع الإنسان عن خطئه، ويتوب إلى الله فيما وقع فيه من خطأ، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من التوابين الرجاعين إلى الصواب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله الطيبين الطاهرين، وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم يا كريم.
لاتوجد تعليقات