رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 23 أبريل، 2012 0 تعليق

شرّف الله ولاة الأمر برعايتها وخص أهل أم القرى بالسقيا منها- بئـر زمـــزم.. نبـع باق لا ينقطـع إلى يـوم القيـامــة

 

بئر زمزم هي بئر الماء الوحيدة التي تشرف عليها وزارة للبترول في العالم، وهي البئر رقم «1» في سلم اهتمام قادة المملكة العربية السعودية منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- حيث إنه وبموجب توجيهات سامية تشرف وزارة البترول والثروة المعدنية في السعودية على بئر زمزم باعتبارها ثروة قومية ودينية في البلاد، وقد كانت الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي قد أكمل مشروع توسعة صحن الطواف المحيط بالكعبة المشرفة، ليستوعب في الوقت الحالي نحو ثلاثة أضعاف عدد الطائفين عما كان في السابق، وقامت بردم مدخل البئر السابق في الجنوب الشرقي من واجهة الكعبة المشرفة، وتسقيف سطحه المفتوح ليدمج مع صحن الطواف، ونقل المدخل إلى خارج الحرم من جهة الصفا في المسعى باتجاه جبل أبي قبيس؛ لمواجهة الأعداد المتزايدة من الحجاج والمعتمرين عاما بعد عام.

        إن مهنة السقاية مهنة لها جذور عميقة، وأصول عريقة، ومن المهن الشريفة التي خص الله بها أهل أم القرى منذ عهد قصي ابن كلاب «الجد الرابع للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم »، الذي جاء إلى مكة المكرمة في حوالي منتصف القرن الخامس الميلادي قادما من بادية الشام ليلحق بقومه، فولي حجابة وأمر الكعبة، وجمع قومه من قريش من منازلهم إلى مكة المكرمة يستعز بهم، وتملك على قومه فملكوه، فكانت إليه: «الحجابة، والرفادة، والسقاية، والندوة، واللواء، والقيادة»، وحاز شرف مكة وأنشأ دار الندوة، وجمع قبيلة قريش بمكة المكرمة، وقام بترتيبها على منازلهم بها، فميز بين قريش البطاح وقريش الظواهر، فاستقرت قريش بمكة المكرمة، ونهضت بها، وجعلت منها مدينة ذات مركز ديني واقتصادي وأدبي ممتاز، حيث بلغت خلال القرن السادس وأوائل السابع الميلادي أوج النضج والازدهار بمقياس تلك العصور.

عين مباركة

       زمزم.. العين المباركة التي يشرب منها ضيوف الله، والتي شرف الله ولاة الأمر في هذه البلاد برعايتها والعناية بها، وخص أهل أم القرى بسقيا ضيوف الرحمن لها، هذا الماء الذي غسل به قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم  في طست من الذهب، وبيد جبريل عليه السلام ثلاث مرات، توطئة لبعثته  صلى الله عليه وسلم  ، ومرة واحدة لتهيئته صلى الله عليه وسلم  لمعراجه في طريقه للسماء، ومما يزيد هذه البئر شرفا عند المسلمين أنها حفرت بجناح جبريل، وساقت الملائكه مياهها من أنهار الجنة غياثا للسيدة هاجر وابنها الرضيع إسماعيل عليهما السلام، وسقيا لضيوف الرحمن، ولتكون آية للناس على مر العصور والأزمان، فهي للخائف أمان، وللمريض شفاء، وللجائع طعام، ولا يخالط شاربها - لإيمانه القاطع بأسرارها - أي عجب أو استنكار فيما لو تغير حاله من محض ماء، إلى شراب من سويق أو لبن أو عسل مصفى، للمنقطعين والعاكفين في البيت العتيق، والمرويات حول هذه الغرائب كثيرة، ناءت بحملها بطون الكتب الدينية وأسفار التاريخ والسيرة، وخصها الله سبحانه وتعالى بأسماء كثيرة، حتى ذكروا أنها تزيد عن ستين اسما، فنظم بعضهم جملة من أسماء زمزم فقال:

لزمزم أسماء أتت فهي برة

                                  وسيدة بشرى وعصمة فاعلم

ونافعة مضنونة عونة الورى

                                  ومروية سقيا وظبية فافهم

وهمزة جبريل وهزمته كذا

                                  مباركة أيضا شفاء لأسقم

ومؤنسة ميمونة حرمية

                                  وكافية شباعة بتكرم

ومغذية عدت وصافية غدت

                                  وسالمة أيضا طعام لأطعم

شراب لأبرار وعافية بدت

                                  وطاهرة تكتم فاعظم بزمزم

سر غامض

       وفي منبع بئر زمزم الأساس سر غامض يعده علماء الجيولوجيا كنزا كبيرا، ربما يستحيل كشف رموزه إلى أن تقوم الساعة، فقد تمت دراسات علمية عدة بهدف معرفة مصادرها من المياه، ليفيض الماء منه منذ آلاف السنين دون أن يجف البئر أو ينقص حجم المياه فيه، وقد كانت مفاجأة مدهشة للعلماء أثناء توسعة الحرم المكي وتشغيل مضخات ضخمة لشفط المياه من بئر زمزم حتى يمكن وضع الأساسات، أن غزارة المياه المسحوبة قابلها فيض مستمر في الماء، يفور ويمور  كأنه أمواج البحر.

       ويقول الدكتور المهندس يحيى حمزة كوشك: «لم تخرج بئر زمزم من ساحة الحرم، وهي موجودة في مكانها تحتى مستوى صحن الطواف منذ توسعة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -يرحمه الله- للمسجد الحرام، وقد كانت -قبل المشروع الجديد- محاطة بسياج من ألواح الزجاج السميك ليتمكن الناس من مشاهدتها، ولمنعهم من إلقاء أشياء ومتعلقات وسط البئر طلبا للبركة وغيرها، وقديما كان على البئر بناء تعلوه قبة مساحتها 88.8 مترا مربعا، يحتوي على غرف مستودعات ومبرد لدوارق ماء زمزم تم هدمه ما بين عام 1381و1388هـ لتوسعة المطاف، وتم عمل بدروم مكيف أسفل المطاف بمدخل منفصل للرجال والنساء، ويمكن رؤية البئر من خلف حاجز زجاجي شفاف، كما استبدلت أيضا طريق الشرب القديمة التي كانت تعتمد على  جلب الماء بالدلاء من جوف البئر، إلى اعتماد أنظمة حديثة توفر ماء زمزم عبر نظم سقاية حديثة، لتوفيره مفلترا وباردا ومعالجا بالأشعة فوق البنفسجية ليكون بأفضل المستويات الصحية.

       ويتذكر أنه أثناء عمليات تنظيف البئر، تم العثور على نقود معدنية وأباريق شاي، وقرون عظمية تحمل نقوشا، ويضيف كوشك عن المشروع الجديد: «تم عمل نفق أرضي من خارج الحرم للوصول إلى البئر وهو خاص بعمليات الصيانة فقط، وإن هناك رأيين حول استخدامات هذا النفق: الأول أن يتاح للراغبين في رؤية البئر الدخول منه دون السماح بالاغتسال فيه، والرأي الآخر استبعد ذلك لعدة عوامل منها أن مسافة النفق طويلة «نحو نصف ميل»، ومساحته ضيقة، ويحتاج إلى أنظمة تهوية وإنارة وإجراءات أمنية».

مصادر البئر

       ويصف المهندس يحيى كوشك مصادر مياه بئر زمزم وفق التحديد الذي قام به مع الفريق العلمي الذي ترأسه عام 1400هـ ونشر نتائجه في كتاب «زمزم» بقوله: «المصدر الرئيس فتحة تحت الحجر الأسود مباشرة وطولها 45 سم، ويتدفق منها القدر الأكبر من المياه، والمصدر الثاني فتحة كبيرة باتجاه  المكبرية «مبنى مخصص لرفع الأذان والإقامة مطل على الطواف»، بطول 70 سم، ومقسومة من الداخل إلى فتحتين، وارتفاعها 30 سم، وهناك فتحات صغيرة بين أحجار البناء في البئر تخرج منها المياه، خمس منها في المسافة التي بين الفتحتين الأساسيتين، وقدرها متر واحد، وكما توجد 21 فتحة أخرى تبدأ من جوار الفتحة الأساسية الأولى، باتجاه جبل أبي قبيس من الصفا، والأخرى من اتجاه المروة، ويبلغ عمق البئر 30 مترا على جزأين، الجزء الأول مبني عمقه 12.8 متر عن فتحة البئر، والثاني جزء منقور في صخور الجبل وطوله 17.20 مترا، ويبلغ عمق مستوى الماء عن فتحة البئرة نحو 4 أمتار، وعمق العيون التي تغذي البئر عن فتحة البئر 13 مترا، ومن العيون إلى قعر البئر 17 مترا».

       ويقول عند حديثه عن ضخ مياه زمزم: «بعد أن وضعت أربع مضخات قوية جدا كانت تعمل على مدار 24 ساعة وبمعدل ضخ وصل إلى 8000 لتر في الدقيقة، كان منسوب المياه من الفوهة 3.23 أمتار، وكانت القراءة تتم كل نصف دقيقة، حتى وصل منسوب المياه في داخل البئر إلى 12.72 مترا، ثم وصل إلى 13.39 مترا، وفي هذا العمق توقف هبوط الماء في البئر، ولما تم توقيف المضخات بدأ الماء يرتفع حتى وصل إلى 3.9 أمتار خلال إحدى عشرة دقيقة».

       وسجل مشاهداته بقوله: «لن أنسى ما حييت هذا المنظر الرهيب، كانت المياه تتدفق من هذه المصادر بكميات لم يكن يتخيلها أحد، وكان صوت المياه وهي تتدفق بقوة يصم الآذان».

التركيب الجيولوجي

       وينفي كوشك- وهو مدير عام سابق لمصلحة المياه بالمنطقة الغربية- أن تكون لعمليات حفر الأنفاق في الجبال وحفريات الأساسات العميقة للأبراج السكنية المحيطة بالحرم أي تأثير في التركيب الجيولوجي لمسار مياه زمزم، أو اختلاطها بمصادر أخرى سواء من الآبار أم من غيرها، وأكد أنه وفقا للدراسات التي قمنا بها وجدنا أنه عندما تهطل الأمطار على مكة المكرمة ويسيل وادي إبراهيم، فيزداد منسوب مياه زمزم زيادة طفيفة في البئر، ولكن عندما تهطل الأمطار على المناطق المحيطة بمكة كالطائف وغيرها تزداد المياه زيادة عظيمة في بئر زمزم، ومعنى هذا أن المصدر الأساسي للبئر هو الجبال المحيطة بمكة والتصدعات الصخرية الموجودة فيها، وفي كتابي «زمزم» توجد صورة أخذت عبر الأقمار الاصطناعية مرفقة بتحليل يبين أن كل هذه التصدعات الصخرية متجهة إلى بئر زمزم».

       وأضاف: «أعتقد أن السر يكمن في النبع الأساسي للبئر، فأي مياه تنبع من هذا المكان تكتسب خاصية ماء زمزم، والغريب في الموضوع أن هناك بئرا أخرى في الحرم اسمها بئر «الداؤدية» كانت موجودة عند باب إبراهيم، وتبعد بحدود 120 مترا عن بئر زمزم، لكن نتائج تحليل مياهها تختلف عن تركيبة ماء زمزم وهي النتيجة ذاتها التي توصلت إليها عند تحليل مياه عين زبيدة أيضا».

يعطي ويفيض

       ويقول الدكتور المهندس سامي عنقاوي: «عندما كنا نحفر في زمزم عند التوسعة الجديدة للحرم كنا كلما أخذنا من ماء زمزم ازددنا عطاء، فقمنا بتشغيل عدد من المضخات لكي نرفع الماء حتى يتيسر لنا وضع الأساس، وكلما نشفط المياه التي وصلت إلى واحد وعشرين ألف لتر في الدقيقة تضخ مرة أخرى».

       وأضاف: «قمنا بدراسة لماء زمزم من منبعه لنرى هل فيه جراثيم، فوجدنا أنه لا يوجد فيه جرثومة واحدة.. فهو نقي طاهر ليس فيه أدنى شيء، لكن قد يحدث نوع من التلوث بعد ذلك في استعمال الآنية أو أنابيب المياه أو الدلو فيأتي التلوث من غيره، ومن خصوصية ماء زمزم أيضا أنك تجده دائما، فهو يعطي ويفيض منذ آلاف السنين إلى اليوم».

أنقى المياه

       ويحكي أن شركة فرنسية اخترعت جهازا دقيقا للغاية في تحليل تركيب المياه، وجاءت إلى السعودية لتسويقه، وقام ممثل الشركة بعرض إمكانات الجهاز الحديث أمام مندوبي وكلاء المياه المحلاة والمعدنية المستوردة إلى السوق المحلي، تبين فيه أن ماء زمزم كان أنقى المياه التي تم اختبارها في هذا الجهاز،  ومنذ القدم كان المكيون يستقبلون ضيوفهم بماء زمزم إظهاراً لتكريمهم والاحتفاء بهم، وهم يتفنون بتقديمه باردا من دوارق طينية نظيفة مبخرة باللبان (المستكى)، لإكسابه نكهة خاصة محببة للشارب منه، ولا تزال هذه العادة باقية حتى الوقت الحاضر، كما لا يقدمون في شهر رمضان على موائد الإفطار غير ماء زمزم إلى جانب حبات من رطب التمر، ويحرصون على «تحنيك» مواليدهم حال ولادتهم بماء زمزم وبشق تمرة، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم مع السبطين الحسن والحسين رضي الله عنهما، كما يحرص المكيون على جعل ماء زمزم آخر ما يغسل به موتاهم قبل دفنهم رجاء بركته وحسن عائده، ومن الطريف أن الأمهات في مكة يحرصن على شرب أبنائهن الطلاب ماء زمزم قبيل توجههم إلى الاختبارات الدراسية رجاء ألا ينسوا ما حفظوه من دروس للإجابة عنها في ورقة الاختبار.

فوائده عدة

       ويندر أن يقفل حاج أو معتمر في رحلة العودة إلى بلده دون أن يتزود بكميات منه، يتحف بها أهله ومقربيه على سبيل الإهداء، ويألف كل من قدم إلى المسجد الحرام رؤية معظم الحجاج والمعتمرين القادمين من الخارج وهم يحرصون على التضلع من ماء زمزم، وروى المؤرخ الفاكهي في كتابه: «أخبار مكة» قصصا تشير إلى حب علماء أهل الكتاب لماء زمزم، ونقل عن أبي حصين عن مجاهد بن جبر التابعي المكي، شيخ القراء والمفسرين قوله: «كنا نسير في أرض الروم، فآوانا الليل إلى راهب، فقل هل فيكم من أهل مكة أحد؟ قلت: نعم، قال: كم بين زمزم والحجر الأسود؟ قلت: لا أدري، إلا أن أحزره، قال: لكني أدري، إنها تجري من تحت الحجر، ولأن يكون عندي منها ملء طست، أحب إلي من أن يكون عندي ملؤه ذهبا».

نبع باق

       وروى الشيخ سائد بكداش مصنف كتاب (فضل ماء زمزم) عن محمد بن حرب أنه قال: «إنه أسر في بلاد الروم، وأنه صار إلى الملك، فقال له: من أي بلد أنت؟ قال: من أهل مكة، فقال: هل تعرف بمكة هزمة جبريل؟ قال: نعم، قال: فهل تعرف برة؟ قال: نعم، قال: فهل لها اسم غير هذا؟ قال: نعم، هي اليوم تعرف بزمزم، قال: فذكر من بركتها، ثم قال: أما إنك إن قلت هذا، إنا نجد في كتبنا: أنه لا يحثو رجل على رأسه منها ثلاث حثيات فأصابته ذلة أبدا».

وتروي كتب التاريخ الإسلامي أن زمزم نبع باق لا ينقطع إلى يوم القيامة، وأن كل المياه تغور قبل يوم القيامة إلا زمزم، وروي عن الضحاك بن مزاحم أنه قال: «إن الله عز وجل يرفع المياه العذبة قبل يوم القيامة، وتغور المياه غير ماء زمزم»، وروي عن ابن عباس أنه قال: «صلوا في مصلى الأخيار واشربوا من شراب الأبرار»، قيل لابن عباس: ما مصلى الأخيار؟ قال: تحت الميزاب (ميزاب الكعبة)، قيل: وما شراب الأبرار؟ قال: ماء زمزم».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك