شرح كتاب النكاح من صحيح مسلم – باب: استحباب زواج ذات الدين
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنه -: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ هَلَكَ وَتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ- أَوْ قَال: سَبْعَ- فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً ثَيِّبًا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا جَابِرُ تَزَوَّجْتَ؟» قَال قُلْتُ: نَعَمْ، قَال: «فَبِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ؟» قَال قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَال: «فَهَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ- أَوْ قَال: تُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ» قَال قُلْتُ لَهُ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ هَلَكَ، وَتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ أَوْ سَبْعَ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ آتِيَهُنَّ أَوْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَجِيءَ بِامْرَأَةٍ تَقُومُ عَلَيْهِنَّ وتُصْلِحُهُنَّ، قَال: «فَبَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْ قال لِي خَيْرًا».
الحديث رواه مسلم في النكاح (2/1087) باب: اسْتحباب نِكاح ذات الدين.
ورواه البخاري في النكاح (5079، 5080) باب: تزويج الثيّبات.
قوله: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ هَلَكَ»
قوله: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ هَلَكَ» يعني والده عبدالله بن حرام، وهو صحابي مِنَ الأنصار، من بني حرام بن كعب من بني سلمة من الخزرج، شهد بيعة العقبة الثانية، وكان فيها أحد نُقباء الأنصار، مع البراء بن معرور عن بني سلمة، ثم شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة بدر، وقُتل يوم أحُد سنة (3 هـ)، وكان أول مَنْ قُتل يومها، قتله سفيان بن عبد شمس السُّلَمِي. وكُفّن هو وعمرو بن الجَموح في كفنٍ واحد، وكان عبد الله أحْمر أصلع ليس بالطويل.
وقد روى ابنه جابر: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «ألا أخبرُك أنَّ الله كلَّم أباكَ كِفاحًا؟ فقال: يا عبدي، سَلْني أُعْطك. قال: أسألك أنْ تردَّني إلى الدنيا، فأقتلُ فيك ثانيًا، فقال: إنَّه قد سَبق منّي: أنَّهمْ إليها لا يُرجَعون. قال: يا ربّ، فأبلغْ مَنْ ورائي، فنزلت آية: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} كما مرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخته فاطمة بنت عمرو وهي تبكيه، فقال: «تبكيه أو لا تُبَكِّيه. ما زالت الملائكة تُظِلُّهُ بأجنحتها، حتى رفعتموه».
قوله: «وتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ، أَوْ قَال: سَبْعَ»
قوله: «وتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ، أَوْ قَال: سَبْعَ» وهنَّ أخَواته. قال الحافظ: ولم أقف على تسميتهن.
- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لجابر - رضي الله عنه -: «أفلا جارية تُلاعبها وتُلاعبك؟»، وفي رواية لهما: «فهلا جَارية تُلاعبها وتُلاعبك، وتُضَاحكها وتُضَاحكك» فمقصُوده مِنْ ذلك الحثّ على التَّزوج بالبكر، لحُسْن العشرة معها، وجميل الملاطفة، مما يكون في العادة مع البِكر أكثر، وأحْسنُ حالاً منه مع الثيّب.
قال النووي -رحمه الله-: «فِيهِ: فَضِيلَة تَزَوُّج الْأَبْكَار وَثَوَابهنَّ أَفْضَل. وفِيهِ: مُلَاعَبَة الرَّجُل اِمْرَأَته، ومُلَاطَفَته لها ومُضَاحَكَتهَا، وحُسْن الْعِشْرَة» انتهى.
وفي رواية لمسلم قال: «قلت: إنَّ لي أخَوات، فأحببتُ أنْ أتزوج امرأةً تَجْمعهن وتَمْشطهن، وتقومُ عليهن» أي: في غير ذلك من مصالحهن، وهو من العام بعد الخاص.
وفي رواية لهما عن جابر: «هلكَ أبي وترَكَ سبع بنات، أو تسع بنات؛ فتزوّجت ثيباً، كرهتُ أنْ أجيئهن بمثلهن. فقال: «بارك الله لك، أو قال خيراً» وفي رواية: وترك تسع بنات كن لي تسع أخوات، فكرهت أنْ أجْمع إليهن جاريةً خرقاء مثلهن، ولكنْ امرأة تقومُ عليهنّ وتمشطهن». فقال له - صلى الله عليه وسلم -: «أصَبت».
وامرأة جابر المذكورة فاسمها: سهلة بنت مسعود بن أوس بن مالك الأنصارية الأوسية، ذكره ابن سعد.
ويستفاد من الحديث: الحث على زواج البكر
فضيلة جابر - رضي الله عنه
2- وفيه فضيلة لجابر - رضي الله عنه - لشفقته على أخواته، وإيثاره مصلحتهن على حظّ نفسه.
وفَضل أيضاً - رضي الله عنه -؛ حيثُ خرَجَ للجهادِ وهو حديثُ عهدٍ بعُرسٍ، كما في الرواية الأخرى في الصحيحين: كُنَّا مع رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في غزَاةٍ، فلَمَّا أَقْبَلْنَا تَعَجَّلْتُ علَى بعِيرٍ لي قَطُوفٍ، فلَحِقَنِي رَاكِبٌ خَلْفِي، فَنَخَسَ بَعِيرِي بعَنَزَةٍ كَانَتْ معهُ، فَانْطَلَقَ بَعِيرِي كَأَجْوَدِ ما أَنْتَ رَاءٍ مِنَ الإبِلِ، فالْتَفَتُّ، فَإِذا أَنَا برَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقال: «ما يُعْجِلُكَ يا جَابِرُ؟ قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي حديثُ عَهْدٍ بعُرْسٍ، فَقال: أَبِكْرًا تَزَوَّجْتَهَا، أَمْ ثَيِّبًا؟..».
3- ويُؤخذ منه أنَّه إذا تزاحمت مَصْلحتان؛ قدَّم أهمّهما؛ لأنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - صوَّب فعل جابر، ودَعا له لأجْل ذلك.
4- ويُؤخذُ منه الدعاء لمَن فعل خيراً، وإنْ لم يَتعلّق بالداعي.
تفقد الإمام لأحوال الرعية
5- وفيه سُؤال الإمام والأمير أصْحابه عنْ أمورهم، وتفقّده أحْوالهم، وإرْشاده إلى مَصالحهم، وتنبيههم على وجْه المَصْلحة، ولو كان في باب النكاح وفيما يُسْتحيا مِنْ ذَكره.
6- وفيه مشروعية خدمة المَرأة زوجها ومَنْ كان منه بسبيل، مِنْ ولدٍ وأخٍ وعائلة، وأنّه لا حرجَ على الرجل في قصده ذلك مِنْ امرأته، وإنْ كان ذلك لا يجب عليها، لكن يُؤخذ منه أنَّ العادة جارية بذلك، فلذلك لمْ يُنكره النبي - صلى الله عليه وسلم -. (فتح الباري).
لاتوجد تعليقات