شرح كتاب الطَّلاق من مختصر مسلم – باب: تَحْريمُ الرَّضاعة مِنَ ماءِ الفَحْل
قوله: باب: تَحْريمُ الرَّضاعة مِنَ ماءِ الفَحْل، أي: اللَّبَنِ المُتكوّن في ثدي المُرضعة، إنّما هُوَ بسبب مَاءُ الرَّجُلِ، أي: جماعه ثمّ حَمل المرأة وولادتها وحُصُول اللبن فيها، الذي هو سبب التّحريم، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّضَاعُ مُحرماً. وفي هذا الحديثِ تَحكي عائشةُ -رضي الله عنها- أنَّه جاءَها عَمُّها مِنَ الرَّضَاعةِ، واسمُه: أفلحُ، فاسْتأذَنَ لِيَدخُلَ عليها، فرفَضَتْ، حتَّى تَسْألَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَن جَوازِ ذلك.
قَوْلُها: «جَاءَ عَمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ»
قَوْلُها: «جَاءَ عَمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ» وفِي رِوايَةِ البُخَارِيِّ: «إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي القُعَيْسِ، جاءَ يَسْتَأْذِنُ عليها، وهُو عَمُّها مِنْ الرَّضَاعَةِ» «فَلْيَلِجْ عَلَيْك» أَيْ: لِيَدْخُلْ، من الولُوج وهو الدخول، كما قال -تعالى-: {يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ} (فاطر: 13). أي: يُدخل مِنْ ساعات الليل في النهار، والعكس.
قَوْلُها: «إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ ولَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ» وفِي رِوايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ: «فَإِن أَخَاهُ أَبُو الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، ولَكِنْ أَرْضَعَتْنِي اِمْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ».
«فَإِنَّهُ عَمُّك فَلْيَلِجْ عَلَيْك»
قَال - صلى الله عليه وسلم -: «فَإِنَّهُ عَمُّك فَلْيَلِجْ عَلَيْك» فِيهِ دَلِيلٌ: على أَنَّ لَبَنَ الفَحْلِ يُحَرِّمُ، وتثْبُت الحُرْمَةُ به مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ اللَّبَنِ- أي الزوج- فيكون أباً للرّضيع، ويصير أولاده كلهم من المرضعة أو من غيرها من نسب أو رضاع إخوة للمرتضع، ويصير إخوته أعماما للطفل المرتضع، كَمَا تَثْبت مِنْ جَانِبِ المُرْضِعَةِ، فتكون أخْتها خالته، وبنتها أخته، وأمها جدّته، فَالنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَثْبَتَ العُمُومَةَ بالرَّضَاعِ، وأَلْحَقَها بِالنَّسَبِ.
لَبَنَ الْفَحْلِ يُحَرِّمُ
قَال الحافِظُ في الفَتْحِ: ذَهَبَ الجُمْهُورُ مِنْ الصَّحَابَة والتَّابِعِينَ، وفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، كالْأَوْزَاعِيِّ في أَهْلِ الشَّامِ، والثَّوْرِيِّ وأَبِي حَنِيفَةَ وصَاحِبَيْهِ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ، وابنِ جُرَيْجٍ في أَهْلِ مَكَّةَ، ومالِكٍ في أَهْلِ المَدِينَة، والشَّافِعِيِّ وأَحْمَدَ وإِسْحَاقَ وأَبِي ثَوْرٍ وأَتْبَاعِهِمْ، إِلَى أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يُحَرِّمُ، وحُجَّتُهُمْ هَذَا الحَدِيثُ الصَّحِيحُ. يَعْنِي: حَدِيثَ عَائِشَةَ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ.
وقد سئل ابن عباس -رضي الله عنهما-: عن رجل له جاريتان، أرْضعتْ إحدَاهما جارية، والأُخْرى غُلاماً، أيحلُّ للغلام أنْ يتزوج الجارية؟ فقال: لا، اللّقاح واحد.
ولو كان اللبن الذي ارْتضع به الطفل قد ثَاب (حَصَل) للمَرأة من غير وَطْء فحل، بأنْ تكونَ امرأة لا زوجَ لها، قد ثابَ لها لبن أو هي بكرٌ أو آيسة، فأكثرُ العلماء على أنَّه يحرم الرضاع به، وتصير المرضعة أمَّاً للطفل، وقد حكاه ابن المنذر إجْماعًا عمّن يحفظ عنه من أهل العلم، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحاق وغيرهم، ولو انقطع نَسَبه مِنْ جهةِ صاحب اللبن، كولد الزِّنا، فهل تنتشر الحُرْمة إلى الزَّاني صاحب اللبن؟ هذا ينبني على أنَّ البنت منَ الزِّنا هل تَحْرُم على الزاني؟
مذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك في رواية عنه: تحريمُها عليه، خلافاً للشافعي، وبالغ الإمام أحمدُ في الإنْكار على مَنْ خالف في ذلك.
وقَدْ رُوي عن بَعْض أَهْلِ العِلْمِ عدم التحريم بلَبَنِ الفَحْلِ؛ فرُوِيَ ذَلِك عَنْ اِبنِ عُمَرَ وأَبِي الزُّبَيْرِ ورَافِعِ بنِ خُدَيْجٍ وَغَيْرِهِمْ، ومِنْ التَّابِعِينَ عَنْ سَعِيدِ بنِ الْمُسَيِّبِ وأَبِي سَلَمَةَ والقَاسِمِ وسالِمٍ وسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وعَطَاءِ بنِ يَسَارٍ والشَّعْبِيِّ وإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وغَيْرِهِمْ.
واحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ -تعالى-: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (النساء: 23). ولَمْ يَذْكُر العَمَّةَ والبِنْتَ كَما ذَكَرَهُما في النَّسَبِ.
واحْتَجَّ بَعْضُهُمْ مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ: بِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يَنْفَصِلُ مِنْ الرَّجُلِ، وإِنَّمَا يَنْفَصِلُ مِنْ المَرْأَةِ، فَكَيْفَ تَنْتَشِرُ الْحُرْمَةُ إِلَى الرَّجُلِ؟
والجَوَابُ: أَنَّ كل ذلك رأيٌ وقِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
وأَيْضاً: فَإِنَّ سَبَبَ اللَّبَنِ هُوَ مَاءُ الرَّجُلِ والمَرْأَةِ مَعاً، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّضَاعُ مِنْهُمَا، وإِلَى هذَا أَشَارَ اِبْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ في هَذِهِ المَسْأَلَةِ: اللِّقَاحُ وَاحِدٌ.
وأَيْضا: فَإِنَّ الْوَطْءَ يُدِرُّ اللَّبَنَ، فَلِلْفَحْلِ فِيهِ نَصِيبٌ.
فالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هو الأَصَحُّ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، ولَمْ يَثْبُتْ الْقَوْلُ الثَّانِي بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ، وهو قول جمهور الفقهاء.
فوائد الحديث
- للرَّضاعِ أحكامٌ كَثيرةٌ في الإسلامِ، وقدْ جاءَتْ بَعضُ أحكامِه في كتابِ اللهِ -عزَّوجلَّ-، وبيَّن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعْضَها الآخَرَ في أحاديثَ كثيرةٍ، فلابدّ مِنْ جمع الأدلة كلّها، ومنها قاعدةٌ عامَّةٌ: أنَّ الرَّضَاعَةَ تُحرِّم ما يُحرِّمُه النَّسَبُ، أو يَحْرُمُ مِنَ الرَّضاعَةِ ما يَحْرُمُ مِنَ الوِلادَةِ.
- إنَّ إرْضاعَ المرأةِ طِفلًا غيرَ وَلَدِها، تَترتَّبُ عليه أحكامٌ شَرعيَّةٌ؛ فكلُّ ما ورَدَ تَحريمُه مِن النَّسَبِ فإنَّه يَحرُمُ مِن الرَّضاعِ أيضًا، فإذا كان العَمُّ من النَّسَبِ يحرُمُ على المرأةِ، فإنَّ العَمَّ مِنَ الرَّضاعِ يَحرُمُ أيضا.
- وفيه: تحَرِّي المُؤمنِ فيما لم يظهَرْ له حُكمُه الشَّرعيُّ حتى يَعرِفَه، وسؤال أهل العلم والرُّجوع إليهم.
لاتوجد تعليقات