شبهات وردود (5) أسبـاب الإلحـاد
إن وسائل المعرفة في عصرنا الحالي تعددت، وأصبحت تلك الوسائل وقنواتها المختلفة من الكثرة ما يصعب معه إحصاؤها، وبعض هذه الوسائل والقنوات ولاسيما الإنترنت والفضائيات اتخذت من الإساءة للدين الإسلامي والطعن في ثوابته، ومقدساته، هدفاً لها؛ مما جعل بعض الشباب تحت وطأة الهجوم الضاغط عرضة للشك، أو العجز عن الرد في أحسن الأحوال، فتزلزلت عقائد بعضهم، التي هي من الأساس هشة، وهوى دينهم الذي لم يكن راسخاً ولا مبنياً على أسس ثابتة من صحيح الدين، واليوم نستكمل الحديث عن هذا الموضوع بذكر أسباب الإلحاد فنقول:
ليس العناد فقط سببا رئيسا للإلحاد؛ وإنما هناك وراء ذلك الرفض للدين والتفلت من قيوده وضوابطه
علينا حين نحقق في قضية الدعاء بوصفها معيارا لثبوت الإله أن نكون موضوعيين وأن ننظر إلى مكانة الله -تعالى- من منطلق أنه إله العالمين وليس إلهنا الخاص
عدم إجابة الدعاء ليست مسوغا
إن أسباب الإلحاد على تعددها، ليست بمسوغ له، لكنها تؤدي إليه، من الناحية الواقعية، وهذه الأسباب منها ما هو نفسي، ومنها ما هو راجع إلى سبب خارجي، وقد رأينا في المقالة السابقة كيف أن من أهم الأسباب النفسية للإلحاد، أن يمر أحدهم بضائقة أو يصاب بألم شديد جراء فقد حبيب أو منفعة أو نحو ذلك، فحين لا تسير الأمور وفق مراده، يقول دعوت فلم يُستجب لي، وعندها يقرر أن الكون خال من إله!! فلكأنه لا يريد إلهاً، بل خادماً -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
إن الإله الحق ليس هو الذي يستجيب كل دعاء، ويحقق لعباده كل رغبة، إنما الإله الحق الجدير بأن يعبد وأن يحب، هو الذي يحقق لعباده ما فيه مصلحتهم؛ وحيث إنهم لا يعلمون شيئاً عن الغيب وما يجري عليهم في المستقبل من أحداث، والله -سبحانه- هو العالم بذلك، قال عن نفسه في كتابه -سبحانه- {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}(البقرة: 255)؛ لذا كان من اللائق به -سبحانه- أن يمنع حصول بعض ما يطلبه عباده، وما يرغبون حصوله، حتى لا يضرهم من جانب، وحتى لا يَفسد تدبيره للكون من جانب آخر، فقد يطلب العبد شيئًا يظنه خيرًا له، لكنه مضر به على المدى البعيد، أو مضر بناس آخرين، وفي إلحاق الضرر بهم شر عام، ربما للعبد الداعي نفسه كما للآخرين، فكم من مرة يدعو أحدنا الله بشيء فتتخلف الإجابة، ثم بعد وقت قصير نحمد الله -تعالى- أنه لم يستجب لنا؛ لأنه قد حصل ما لم نتوقعه؛ مما لو وافق حصوله تحقق مرادنا وما دعونا الله به لنتجت كارثة!
ولا شك أن هذا يحدث على المستوى الشخصي لأناس كثيرين مؤمنين، فلذلك تتأخر الاستجابة، أحياناً، أو تتخلف، لمصلحة الداعي، أو لمصلحة الآخرين الذين هم أيضًا شركاء للداعي في عبوديتهم لله -تعالى.
قضية الدعاء بوصفها معياراً
فإذاً علينا حين نحقق في قضية الدعاء بوصفها معياراً لثبوت الإله، أن نكون موضوعيين، وأن ننظر إلى مكانة الله -تعالى- من منطلق أنه إله العالمين، وليس إلهنا الخاص، ومن ثم فإنه لا يحقق مصلحتنا فحسب، إنما هو -سبحانه- يتحقيق كل المصالح لكل العالمين، كما أن المصلحة لا ينبغي النظر إليها بعين قاصرة على وقت دون وقت؛ فالمصلحة الدائمة هي ما ترعاه أقدار الله لنا، وهذه المصلحة في جزئها الأكبر إنما تتعلق بالحياة الأخروية؛ لأنها الحياة الأبدية، بينما حياتنا الآن على الأرض حياة مؤقتة فانية، فإذا دعونا بشيء وحصل خلافه، وصبرنا على قضاء الله، كافأنا الله بجزاء لا حدود له، قال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(الزمر: 10)، لكن الملحد لا يؤمن بشيء من ذلك؛ لأنه لا يرى إلا تحت قدميه، ولا يؤمن إلا بما في يديه، ومثل هذا لا يمكن أن يكون بالمعيار المادي من الرابحين، لدنيا ولا لآخرة، بل هو ممن قال الله فيهم: {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(الحج: 11).
العناد وذهنية الرفض وليس الابتلاء
إذا كان الابتلاء هو أحد ما يتذرع به بعض الملحدين، كسبب لإلحادهم، فإن النظر الفاحص يدل على أن وراء الإلحاد سبب رئيس خفي وهو العناد وذهنية الرفض، التي عبر عنها جورج ولد George Wald في مجلة العلوم حين قال: عندما نأتي لمسألة أصل الحياة فإن أمامنا احتمالين لكيفية نشأتها: الأول هو النشوء العفوي عن طريق التطور، والآخر هو خلق إبداعي خارق من الله، لا يوجد أمامنا خيار ثالث، فالنشوء العفوي تم دحضه علمياً منذ مائة سنة على يد (لويس باستور) Louis Pasteur وسبيلنزاني Spellanzani و(ريدي) Reddy وآخرين، وهذا يقودنا إلى استنتاج علمي ممكن واحد فقط - أن الحياة نشأت بوصفها عملاً إبداعياً خارقاً من الله- لن أقبل هذا فلسفياً؛ لأني لا أريد أن أومن بالله، وبالتالي اخترت أن أومن بشيء مستحيل علمياً وهو النشوء العفوي عن طريق التطور.
إذاً الإلحاد، قرار يتخذه الملحد، قد يبدو في الظاهر أنه غير مسوغ، أو أنه عناد لمجرد العناد، بدافع التعصب للمعتقد الذي تشكل عليه فكره، واشتهر على أساسه، كما يبدو ذلك في قول: (سير جيمس جينز) James Hopwood Jeans عالم الفلك البريطاني الشهير الذي يقول بحسب وحيد الدين خان في كتابه القيم الإسلام يتحدى: إن في عقولنا الجديدة تعصباً يرجح التفسير المادي للحقائق.
من هنا فإن العناد أصل رئيس من أصول الكفر والجحود: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا}(لقمان: 7)، ويقول: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}(نوح: 7)، إنه العناد السلبي الذي يُقاوم الحق ويجحَد الحقائق، فيُصر صاحبه على التمادي في الكفر والجحود والخروج على مقتضيات العقل والحكمة والمنطق والموضوعية، مهما بذل معه مِن محاولات الإقناع أو الحوار.
أسباب عناد الملحد وإصراره
هناك أسباب كثيرة يمكن أن تكون سبباً للعناد، عند الملحد، منها، قصور العلم، ومحدودية الرؤية، كأن يكون عالماً متمكنًا من علمه، في مجال الفيزياء مثلاً، فهو يحكم قوانين الفيزياء على كل شيء في الحياة، متجاهلاً أو غافلاً لسائر العلوم التي تفسر الكون، وتشرح أصل الحياة، وقد يكون بعض هذه العلوم دينيا ثابتا بأدلة يقينية وفق معايير مادية، ولكنه لا يعرفها؛ لأنه ظن أن الفيزياء هي كل شيء!!
الرغبة في الانفلات
ليس العناد فقط سببا رئيسا للإلحاد، وإنما هناك وراء ذلك الرفض للدين والتفلت من قيوده وضوابطه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات». رواه البخاري ومسلم، لذلك يرى الملحد مع غلبة الشهوة، وعدم الرغبة في التفكير في عواقب الوقوع في براثنها، والانغماس في الملذات المحرمة، يرى أن الإلحاد هو الخيار الأفضل؛ لأنه لا يفرض عليه أي التزام بالمنح أو المنع، لا بالفعل ولا بالترك.
يقول عالم النفس الشهير البروفيسور بول فيتز (Paul C. Vitxz) في ورقة نشرت في مجلة (Truth Journal) بعنوان: علم نفس الإلحاد: (The Psychology of Atheism): إنه كان ملحدًا في الفترة العمرية من (18 ـ 38) ولمدة عشرين عامًا لم يكن لديه أسباب عقلانية للإلحاد، إنما أسباب نفسية، ذكر منها: أنه إذا أصبح مؤمنًا صادقًا، فإنه سيفوته الكثير من المتع الجنسية، ولكن عليه أن يدفع جزءًا من ماله مساعدة للكنيسة وجماعتها، ثم إنه مشغول جدًا، فليس لديه وقت للصلاة وقراءة الكتاب المقدس، وليس لديه وقت لمساعدة الآخرين، فَمِنْ غير المريح أن يصبح متديناً.
وصدق الله -تعالى- حين قال في هؤلاء الذين نالوا حظاً وافراً من علوم الدنيا، وحجبتهم شهواتهم عن الله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}(الجاثية: 23- 24).
لاتوجد تعليقات