شبهات وردود الإسـلام وطـوفان الإلحـاد (11) سفسطة الإلحاد ويقين الإسلام
إن وسائل المعرفة في عصرنا الحالي تعددت، وأصبحت تلك الوسائل وقنواتها المختلفة من الكثرة ما يصعب معه إحصاؤها، وبعض هذه الوسائل والقنوات لا سيما الانترنت والفضائيات اتخذت من الإساءة للدين الإسلامي والطعن على ثوابته، ومقدساته، هدفاً لها؛ مما جعل بعض الشباب تحت وطأة الهجوم الضاغط عرضة للشك، أو العجز عن الرد في أحسن الأحوال، فتزلزلت عقائد بعضهم، التي هي من الأساس هشة، وهوى دينهم الذي لم يكن راسخاً ولا مبنياً على أسس ثابتة من صحيح الدين، واستكمالا لما بدأناه في الحديث عن الإلحاد نقول:
عرفنا في المقال السابق أن فلسفة النسبية هي جزء لا يتجزأ من التيارات الإلحادية، التي تنكر الإله الواحد، تنكر الشرائع، و تعادي الحق الذي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد تأسست على فرية النسبية في مواجهة الإسلام شبهتان، الأولى تقول: إن كل الأديان متساوية، وهنا يفترق العلماني عن الملحد المعطل والملحد اللاأدري، فيقول العلماني الأديان كلها صحيحة متساوية، ويقول الملحد كلها باطلة، ويقول اللاأدري كلها مشكوك فيها، محتملة للصواب بدرجة متساوية. والشبهة الثانية: تقول: إن كل الأوضاع الأخلاقية صحيحة؛ لأنها نسبية تختلف باختلاف الأشخاص والبيئات والعصور. والشبهة الثالثة: تقول إن النسبية هي سبيل العيش المشترك بين مختلف الجنسيات والقوميات والديانات، وبدونها ينشأ الإرهاب، والتطرف.
شبهة النسبية في مواجهة التطرف
الملحدون المنكرون لوجود الله، يحاولون دائماً الظهور بمظهر الدعاة إلى الحرية، والديمقراطية؛ ولذلك فهم يتحدثون عن النسبية في مواجهة التطرف ليس من منطلق الإيمان بها، ولكن من مطلق الخداع والتمويه، فجميع الديانات عندهم باطلة، أما المؤمنون بالنسبية، فهم صنف آخر، وهم المنكرون للشرائع، الذين يعتقدون أن «التسامح يمتنع معه الاعتقاد في حقيقة مطلقة»، (ملاك الحقيقة المطلقة) مراد وهبة، ص 193، و«إن اعتماد الشك في التفكير الفلسفي، والأخذ بنسبية الحقيقة: هو التسامح بعينه»، محمد عابد الجابري (قضايا الفكر المعاصر) ص20.
ولذلك فهم يؤسسون على ذلك القول بأن «فكرة الحقيقة المطلقة تؤسس لدى حاملها شرعية امتشاق السلاح دفاعًا عنها، ليس هذا السلاح قطعا هو الفكر؛ فمالك الحقيقة لا يجادل» عبد الإله بلقزيز، (نهاية الداعية ) ص 70.
هداية الإسلام وتيه النسبية
إن المتحمسين للنسبية على هذا النحو من منطلق أنها وسيلة لتعايش الآراء المتباينة والتيارات المختلفة، على قاعدة أنها جميعاً محتملة للصواب، وأن من يعتقد أنه يملك الحق المطلق لا يجادل!!، هم من دون شك لم يقرؤوا القرآن الكريم، ولم يعرفوا أن المسلمين يؤمنون بأن دينهم هو الحق المطلق، في مقابلة سائر الديانات، والتيارات والفلسفات، ومع ذلك فقد أمرهم الله في القرآن الكريم بأن يجادلوا المخالفين لهم، وحدد لهم أسلوب الجدال، وعين لهم كيفية التعامل مع المخالفين، في حال عدم الوصول إلى قاعدة مشتركة يتفق عليها الفريقان المتجادلان فقال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} سورة آل عمران، آية64، وقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} سورة العنكبوت، آية46.
فالقائلون بأن النسبية هي بديل التطرف، ليسوا فقط تائهين عن الحق، ولا جاهلين بالإسلام، ولكنهم أيضاً يعانون من مشكلة منطقية وهي عدم القدرة على تحديد آليات الوصول إلى الحق المطلق، فبدلاً من العكوف على طلبه، وتعيين محدداته، يقررون أن كل الأضداد حق، وليس من سلطة أحد أن يقول للباطل إنه باطل!!؛ لأن هذا سيعد تطرفاً وإرهاباً، وهذا أيضاً من سوء فهمهم للإسلام؛ لأن الإسلام حدد آلية المواجهة، وبين أنها مواجهة (فكرية) في الآيتين السابقتين، بل إنها (مواجهة فكرية هادئة)، قال الله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، نعم هناك مواجهة أخرى، لكنها لمن شغب بالباطل، وتعدى حده، وتطاول بالظلم على ثوابتنا، قال تعالى: { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، جاء في معالم التنزيل للإمام البغوي قوله: «{ولا تجادلوا أهل الكتاب}، لا تخاصموهم، إلا بالتي هي أحسن، أي بالقرآن والدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه، إلا الذين ظلموا منهم، أي أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب، فجادِلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية» ج3، ص562.
ليس في الإسلام إرهاب فكري
فليس في الإسلام إرهاب فكري، ولكن فيه مقارعة للحجة بالحجة، وحين يصل الجدال إلى طريق مسدود، فإن الإسلام لا يحتم المواجهة المسلحة، وإنما يحتم إفساح المجال لوصول الحق إلى كل أحد بكل حرية، ودون قهر أو إرهاب، ومسألة الجزية ليست سوى بدل مالي يدفعه (الشباب)، القادرون على حمل السلاح في الدول المغلوبة مقابل إعفائهم من الخدمة في سلك الجندية في جيش لا يؤمنون بعقيدته وهو جيش الإسلام، إن الجزية إذاً رمز إسلامي من رموز حرية الاعتقاد، سوف نفسح له مقالا مستقلاً فيما بعد إن شاء الله. والشاهد أن النسبية تسوية بين الخير والشر، بين الهداية والضلال، والقائلون بها إما فشلة في الوصول إلى الحق، أو كسلة، أو أصحاب هوى، أو عجزة، وهم في كل الأحوال لا يعرفون شيئاً عن هداية الإسلام، الذي ما قرر الحرب ولا شرع القتال إلا لحماية الحرية الدينية فقال الله -تعالى- في أول آية نزلت بإباحة القتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} سورة الحج آية40. ومما لا يحتاج إلى تنبيه هنا، أن المَعْنِيَ بتوفير الحماية لدور عبادة غير المسلمين، الصوامع، البيع، الصلوات، هم المسلمون، لكن هذا مشروط بشرط، وهو أن يكون المسلمون في موقع القدرة على توفير هذه الحماية، ودون ذلك لا يمكننا أن نحاكم ديناً بتصرفات طائشة لبعض أفراد ينتمون إليه، ثم نقول: إن النسبية هي سبيل مواجهة التطرف، إنما التمكين للإسلام في صورته النقية الأصيلة الخالية من دواخل الآراء الغريبة، والمفاهيم المغلوطة، هو السبيل.
شبهة كل الأوضاع الأخلاقية صحيحة
هذا أحد المشتركات الكبرى بين طوائف الإلحاد، على تباينها، (نسبية الأخلاق)، أي إنها تختلف من مجتمع إلى مجتمع، ومن زمن إلى آخر، فبعض الأمور تعد منافية لمكارم الأخلاق عند شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، في حين أنها غير منافية لمكارم الأخلاق عند شعب آخر أو أمة أخرى، وبعض الأمور كانت في زمان مضى أمورًا منافية لمكارم الأخلاق، ثم صارت بعد ذلك أمورًا غير منافية لها؛ ولذلك فبحسب النسبية الأخلاق نفعية؛ لأنها مرتبطة بالسعادة، والسعادة في مكان ليست بالضرورة هي في مكان آخر، أو زمان آخر؛ ولذلك أيضاً هي متطورة، تتأثر بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والدينية والثقافية.
أخلاق الإسلام وانفلات النسبية
إن عديداً من المغالطات تنطلق منها المقولة بنسبية الأخلاق، فالمرجع في تحديد ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي بالنسبة للملحد هو نفسه، أو المجتمع، وفي المحصلة النهائية الأخلاق عندهم تابعة للرغبات والشهوات والعادات والتقاليد؛ لذلك هم لا يؤمنون بقيمة ثابتة، لأن كل الحقائق عندهم قابلة للنقض، يثبتها قوم وينفيها آخرون. وهذا بطبيعة الحال منهج من لا يقين لديه، فمسألة الأخلاق ليست مسألة منفصلة عن القضية الرئيسة وهي إنكار الإله، بل هي فرع لها، وحتى أولئك الذين يصرحون بنسبية الأخلاق، دون تصريح بأصل معتقدهم في نسبيتها، لا يمكن فهم قولهم إلا في ضوء إنكارهم لوجود المشرع الأعلى، الذي يقرر أن هذا حلال وهذا حرام، وهذا يجوز وهذا لا يجوز. فالإيمان بوجود الله المدبر لخلقه، العارف بما يصلحهم وما ينفعهم وما يضرهم، هو الضابط الوحيد في مقابلة القول بنسبية الأخلاق، أي إن مرجعية الأخلاق هي ما يؤسس عليها القول بثباتها من عدمه، فحين نقول: إن مرجعية الأحكام الأخلاقية مرجعية ثابتة (الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم -)، فهذا يعني أن الأخلاق ثابتة؛ لأنها تستمد ثباتها من الشرع، والشرع قد ثبت ببعثة محمد -صلى الله عليه وسلم - فلا مجال لتبديل ولا تغيير، فما كان متغيراً بتغير المجمعات من الأحكام الضابطة للأخلاق والسلوك، صار ببعثة محمد -صلى الله عليه وسلم - ثابتاً، فإذاً القول بثبات الأخلاق هو فرع عن الإيمان بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم -، والقول بنسبيتها فرع عن الكفر بهما.
نسبية الأخلاق، بريد الانفلات
حين يؤمن إنسان ما بأن الأخلاق نسبية، فإن هذا يعني أنه لا شيء يرده عن اعتقاد أن الشذوذ شيئاً حسناً، أو أن القتل ليس جريمة نكراء، بل الأخطر أنه في ظل نسبية الأخلاق يصبح إطعام المساكين، وقتلهم سواء، واغتصاب النساء، والدفاع عنهن سواء، فهي كلها مفاهيم نسبية!!، ولا مرجع ثابت لها؛ ولذلك فإن الملحد وأضرابه ممن يؤمنون بهذه النسبية هم أشد خطرا على مجتمعاتهم من المجرمين والإرهابيين، لأنهم يمثلون وقود الإجرام والإرهاب؛ ومادته البكر، التي تظهر من خلال أقوالهم المنمقة، وأعمالهم الإعلامية الأخَّاذة، التي تنطلق من عقيدة النسبية و يتأثر بها الشباب، والعامة.
لاتوجد تعليقات