رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: علاء إبراهيم عبدالحميد 4 نوفمبر، 2019 0 تعليق

سنة الصحابة حجة


ذكرنا في المقال السابق أن ما يشيعه أهلُ الأهواء من الطَّعن في الصحابةِ، وإسقاط عدالتهم، والتهوين من أقوالهم، وأننا لسنا في حاجة إلى اجتهاداتهم وآرائهم، كان هذا بمزاعمِ التجديد، ودعاوى العقلانيةِ ومواكبةِ التحدِّيات العصرية، وبدأنا بذكر بعض المقدمات في الرد على هؤلاء، وفي هذه الحلقة نستكمل تلك المقدمات.

المقدمة السادسة

      استحقاق التابعين المدحَ باتباعِهم الصحابةَ: يقول المولى -سبحانه-: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 100)، ووجه الدلالة في الآية من جهتين:

- الأوَّل: ثناء الله -تعالى- على من اتبع الصحابة؛ فإذا قال الصحابة قولًا فاتَّبَعهم متَّبِع عليه قبل أن يعرفَ صحَّته، فهو متَّبع لهم؛ فيجِب أن يكون محمودًا على ذلك، وأن يستحقَّ الرضوان، وفي هذا المعنى يقول علاء الدين السمرقندي: «وإنما استحقَّ التابعون لهم المدح لاتباعهم بالإحسان؛ من حيث الرجوع إلى رأيهم».

- الثاني: بيان استحقاق السابقين أن يكونوا أئمَّةً متبوعين، وبتقدير ألا يكون قولهم موجبًا للموافقة ولا مانعًا من المخالفة لا يكون لهم هذا المنصب، ولا يستحقُّون هذا المدح والثناء.

المقدمة السابعة

     أمره - رضي الله عنه - بالاقتداء بهم: أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - الاقتداءَ بالخليفتين من بعده أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، وذلك فيما يرويه حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر»، كما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الرشدَ معلَّقًا بطاعتهما؛ فقال: «فإن يطيعُوا أبا بكر وعمر يَرشدُوا»، وبه يتبين أنه من المحال أن يكون الرشد في مخالفتهم -رضي الله عنهم- أو الإعراض عن سبيلهم.

غيضٌ من فَيض

     وما تقدَّم جميعه غيضٌ من فَيض مما اختصَّ الله -تعالى- به الصحابةَ -رضي الله عنهم- من المزايا والخصائص التي لم تجتمع لغيرهم؛ فقد اصطفاهم الله -تعالى- لصحبةِ نبيِّه -صلى الله عليه وسلم -، وشهِد لهم بالعلم والصِّدق، مع ما منَحهم من جودةِ القريحة ودقَّة الفَهم، فضلا عما تحلَّوا به منَ الفضل والورَع والفقهِ في الدين؛ فقد شاهدوا التنزيلَ بلا واسِطة، ونزل الوحي بلُغَتهم، وراجعوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أشكَل عليهم من القرآن والسنة، وأنَّى لغيرِهم أن تجتمع له هذه الخصال والمزايا؟!.

نتيجة حتمية

- لهذا كله فإنَّ تلك المقدِّمات توصِل إلى نتيجة حتمية، وهي: أن سنة الصحابة -أقوالهم وأفعالهم- حجة شرعية يجب الالتزام بها، والتحاكم إليها عند الاختلاف؛ فإن إصابة السنة والنجاة والفلاح في لزوم طريقتهم، والبدعة في مخالفة آرائهم وأقوالهم، وبيان ذلك فيما يلي:

أقوال الصحابة وأفعالهم

- أولًا: أقوال الصحابة وأفعالهم سنة يلزم العمل بها: تُطلَق السنَّةُ على ما كان عليه عملُ الصحابة الكرام، سواء كان مرجِعُ ذلك موجودًا في الكتاب أم في السنة، أم غير موجود فيهما؛ وذلك لكونِ ما عمِلوه اتباعًا لسنّة ثبتَت عندهم وإن لم تنقَل إلينا، أو اجتهادًا مجتمَعًا عليه منهم أو من خلفائهم؛ فإنَّ إجماعهم إجماع، وعمل خلفائهم راجع أيضًا إلى حقيقة الإجماع؛ من جهة حمل الناس عليه حسبما اقتضاه النظر المصلحي عندهم، وقد دل على هذا الإطلاق ما ثبت في الحديث الصحيح عن العِرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ»، وفي الحديث: الأمر باتباع الصحابة، وأن سنتهم في طلب الاتباع كسنة النبي - صلى الله عليه وسلم .

المبالغة في التمسك

     وفيه أيضًا: «المبالغة في التمسك بهذه الوصية بما يمكن من الأسباب المعينة عليه، كالذي يتمسك بالشيء ثم يستعين عليه بأسنانه؛ استظهارًا للمحافظة… ويجوز أن يكون معناه المحافظة على هذه الوصية بالصبر على مقاساة الشدائد، كمن أصابه ألم فأراد أن يصبر عليه، ولا يستغيث منه بأحد، ولا يريد أن يظهر ذلك عن نفسه، فجعل يشتد بأسنانه بعضها على بعض».

إطلاق السنة على فعل الصحابة

     وبهذا المعنى جاءت جملة من الأحاديث الموقوفة الدالة على إطلاق السنة على فعل الصحابة، وأنها واجبة القبول، متعينة للعمل، ومنها: عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب في ركب فيهم عمرو بن العاص، وأن عمر بن الخطاب عرَّس ببعض الطريق -قريبًا من بعض المياه- فاحتلم عُمر، وقد كاد أن يصبح، فلم يجد مع الركب ماء، فركب حتى جاء الماء، فجعل يغسل ما رأى من ذلك الاحتلام حتى أسفر، فقال له عمرو بن العاص: أصبحت ومعنا ثياب، فدع ثوبك يغسل، فقال عمر بن الخطاب: واعجبًا لك يا عمرو بن العاص! لئن كنت تجد ثيابًا أفكل الناس يجد ثيابًا؟! والله لو فعلتها لكانت سنة، بل أغسل ما رأيت، وأنضح ما لم أر».

     قال الحافظ ابن عبد البر: «فإنما كان ذلك لعلمه بمكانه (يعني: عمر) من قلوب المؤمنين، ولاشتهار قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي»، وأنهم كانوا يمتثلون أفعالهم، فخشي التضييق على من ليس له إلا ثوب واحد، وكان -رحمه الله- يؤثر التقلُّل من الدنيا والزّهدَ فيها».

حد شارب الخمر

     وهذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول في حد شارب الخمر: «جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعُمرُ ثمانين، وكلٌّ سنة، وهذا أحبُّ إلي»، والمعنى: أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر سنة يعمل بها، وكذا فعل عمر، ولكن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر أحب إليَّ، يقول الإمام النووي: «وفيه: أن فعل الصحابي سنَّةٌ يُعمَل بها، وهو موافقٌ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجذ»».

طريقة أهل العلم

     لذا كانت طريقة أهل العلم وأئمة الدين هي الاهتمام بما جاء عن الصحابة -رضي الله عنهم- باعتباره علمًا مأمورًا باتباعه، يقول أبو حاتم الرازي: «العلم عندنا ما كان عن الله -تعالى- من كتاب ناطق ناسخ غير منسوخ، وما صحَّت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما لا معارضَ له، وما جاء عن الألبَّاء من الصحابةِ ما اتَّفقوا عَليه، فإذا اختَلَفوا لم يخرج من اختِلافهم»، ومن لوازم القول بحجية سنة الصحابة: وجوب قبولها ولزوم العمل به، يقول ابن القيم: «وإذا كان قول الصحابي حجة فقبول قوله واجب متعيِّنٌ».

ثانيًا: النجاة في لزوم سبيل الصحابة

     أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتمسك والاعتصام بالجماعة عند وقوع الافتراق والاختلاف؛ فعن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- قال: ألا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا فقال: «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة»، وفي بيان معنى الجماعة يقول أبو العباس القرطبي: «يعني: جماعة أصحابي، ومن تابعهم على هديهم وسلك طريقهم، كما قال في حديث الترمذي».

ما أنا عليه وأصحابي

يشير بهذا إلى ما رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة»، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي».

أي: أن لفظ (الجماعة) المذكور في الرواية الأولى يفسره قوله: «ما أنا عليه وأصحابي» المذكور في رواية الترمذي؛ ذلك لأن جماعة الصحابة -رضي الله عنهم- هم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلًا.

حجةٌ على الإطلاق

     وهذا راجع إلى أن ما قاله الصحابة وما سنُّوه وما اجتهدوا فيه حجةٌ على الإطلاق؛ لشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم بذلك خصوصًا، كما في قوله: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين»، وتزكيته - صلى الله عليه وسلم - لهم بقوله: «ما أنا عليه وأصحابي»؛ ولأنهم المتلقُّون لكلام النبوة، المهتدون بالشريعة، الذين فهموا مرادَ الله بالتلقي من نبيِّه مشافهةً، على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال، وهذا كلُّه بخلاف غيرهم، فإذَاً كلُّ ما سنوه فهو سنة من غير نظر فيه، بخلاف غيرهم.

مخالفة قول الصحابي

- ثالثًا: ما خالف قول الصحابي في الدين فهو بدعة، لما كانت أقوال الصحابة وآراؤهم وأفعالهم بهذه المنزلة المنيفة، فقد عدَّ العلماء مخالفة أقوالهم من البدع المنكرة، يقول الإمام الشافعي - صلى الله عليه وسلم -: «المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما: ما أحدث يخالف كتابًا أو سنة أو أثرًا أو إجماعًا»، وفي هذا دلالة واضحة على أن قول الصحابة حجة يلزم الرجوع إليها، وأن مخالفتها من البدع المحدثات.

رأيهم لنا خير

     يقول ابن القيم: «وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيرًا من رأينا لأنفسنا، وكيف لا؟ وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نورًا وإيمانًا، وحكمة وعلمًا، ومعرفة وفهمًا عن الله ورسوله ونصيحة للأمة، وقلوبهم على قلب نبيهم، ولا واسطة بينهم وبينه، وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضًّا طريًّا لم يشبه إشكال ولا خلاف، ولم تدنسه معارضة؛ فقياس رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس».

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك