سلطة الدولة في المال العام
سلطة الدولة في المال العام
كنت أنظر إلى تقرير الأمم المتحدة حول الفقر وعدم وفاء كثير من الدول بالتزماتها تجاه الفقراء أو هناك زيادة في البطالة في العالم وأغلبها من الدول الأفريقية الغنية بالمعادن والثروات والأراضي الزراعية والأنهار، ولكن المشكلة تكمن في فساد رأس الدولة والبطانة والدول الاستعمارية والحروب والجفاف، فلفت نظري كلام الأمين العام للأمم المتحدة واتهامه أمام العلن بأن رأس الدولة والحاشية في تلك الدول هم الذين يتحملون جانبا كبيرا من أزمة الفقر في دولهم.
ومن هنا أحبت أن استعرض موقف الشريعة الإسلامية من الفساد.
فقلت: لقد اتفق الفقهاء على أن مالك المال العام هم المسلمون وأنه لا يختص به أحد دور أحد وأن ولي الأمر ليس بمالك للمال العام، وأنه فيه بمنزلة أحد الرعية، سوى ما له من حق الأخذ منه قدر كفايته ومن يعول، وحق التصرف فيه بالمصلحة العامة.
قال ابن قدامة: «مال بيت المال مملوك للمسلمين»، وقال السرخسي: «ولا شيء لأهل الذمة في بيت المال لأنه مال المسلمين، فلا يصرف إلى غيرهم، وقال أبوعبيد: «ومال بيت المال ليس مال الخليفة بل فيء الله».
وقد عدّ النبي [ أخذ المال العام من غير وجه حق غلولا وسرقة، فعن المستورد بن شداد الفهري ] عن النبي [ قال: «من كان لنا عاملا فلم يكن له زوجة فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا»، وقال أبوبكر]: أخبرت أن النبي [ قال: «من اتخذ غير ذلك فهو غالّ، أو سارق» أخرجه أبوداود في الخراج.
والمال العام ليس لأحد التصرف فيه وفق مشيئته، بل أوجب العلماء على ولي الأمر فعل الأصلح فوظيفته في المال أنه نائب عن الجميع في جلب المنافع ودفع المضار، قال ابن تيمية: هم أمناء ونواب وليسوا ملاكا. فيتصرف بالنيابة أو الوكالة وليس بالأصالة، قال تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم}، قال عمر بن الخطاب ]: استوعبت هذه الآية المسلمين فلم يبق أحد إلا له فيها حق».
وعلى جلال قدر النبي [ إلا أنه قال: «ما أعطيكم ولا أمنعكم، أنا قاسم، أضع حيث أمرت». رواه البيهقي في السنن الكبرى. وعن خولة الأنصارية قالت: سمعت رسول الله [ يقول: «إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة». أخرجه البخاري.
ولقد دلت سيرة الخلفاء الراشدين على أنهم لم يكونوا يرون أن لهم حقا في المال العام دون المسلمين، وإليك ما قالوا:
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما استخلف أبوبكر] قال: قد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي، وشغلت بأمر المسملين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال وأحترف للمسلمين فيه.. «فاحترافه لهم فيه أمران: أنه ليس بماله إلا ما احتاج، وأنه مال للمسلمين وأخذ منه عوض عمله لهم.
- عن يرفأ قال: قال لي عمر بن الخطاب ]: «إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم إن احتجت أخذت منه، فإذا أيسرت رددته، وإن استغنيت استعففت.. وقال أيضا: والله لأزيدن الناس ما زاد المال.. هو لهم يأخذونه». فسماه مالهم، لا ماله.
فالواجب على ولي الأمر فعله في المال العام:
1- رعاية مصلحة المسلمين فيه بحفظه، واستثماره، وإنفاقه على مصالحهم وللأجيال القادمة.
2- فعل أصلح الوجوه، في حفظ المال العام واستثماره، وإنفاقه والاجتهاد في ذلك بإخلاص وتقوى.
3- تحقيق العدل فيه بين المسلمين، في الاستحقاق والعدل.
4- مشاورة أهل العلم والرأي من المسلمين في كل ما يتعلق بالمال العام موردا ومصرفا.
ضوابط تصرف ولي الأمر في المال العام:
أولاً: ضابط مراعاة المصلحة في الإنفاق، فقد تكون خالصة أو راجحة، فإن كانت المصلحة مساوية للمفسدة فلا يشرع الإنفاق حينئذ، وكذا لو كان لا يحقق أي مصلحة من باب أولى.
ثانياً: المصلحة العامة التي يعود نفعها على المسلمين مثل بناء المساجد والمدارس والطرق والمطارات والوزارات ورواتب الموظفين أو المستشفيات والعلاج ورعاية الأيتام والأرامل والفقراء والضعفاء، فيسد حاجاتهم من مال الزكاة. وتشمل مصالح المسلمين الدينية والدنيوية، فالإنفاق على الدعوة إلى الله ونشر العلم الشرعي ولإعلاء كلمة الله، والحسبة، والإنفاق على توفير العيش الكريم وعلى تعليم العلم الذي يفيد مثل الطب والهندسة والعلوم، والإنفاق على بناء المصانع والمرافق والمنافذ وصيانة المنشآت وتوفير الطعام والماء والكهرباء والضرورات وفداء الأسير المسلم والعاجز عن الكسب والمتضرر من الكوارث والنوازل.
ثالثاً: تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة الآنية أو بعد طول زمن وبعد دراسة تستوعب الفكر والنظر والمبررات التي إن وجدت مصلحة هي أرجح للمسلمين تحتم عليه تحصيلها ويأثم بتفويتها.
رابعاً: عدم نفاذ كل تصرف لا مصلحة فيه ويعاقب من قام بالتبديد وإرجاع الأموال عنوة، فالإمام وبطانته ممنوعون من التصرف في المال العام إذ كان في ذلك مفسدة راجحة أو غالبة أو مساوية أو لا مفسدة فيه ولا مصلحة؛ لأن ذلك يبطل التصرف ويعتبر غير نافذ؛ لحديث: «ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة». رواه مسلم في الإيمان.. وهذا مقتضى المسؤولية في رعاية الأصلح للرعية في شؤونهم كلها ومنها المال العام؛ لحديث: «ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت - يوم يموت - وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة». أخرجه البخاري.
وعدم فعل الأصلح مع القدرة عليه غش للأمة؛ لأنه يناقض أمر الله عز وجل ويناقض مقتضى الولاية والرعاية، والغش محرم لأن مثل هذا الوعيد الشديد لا يكون إلا على أمر محرم، بل كبيرة من الكبائر.
خامساً: ضابط العدل في الإنفاق من المال العام استحقاقا وقسمة، وقد أمر الله تبارك وتعالى بالعدل، وهو اسم جامع لكل ما قام في النفوس أنه مستقيم، وما تضمن العدل عطاء وتقديرا فيكون مأمورا به، ففي الحديث: «ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا، لا يفكه إلا العدل، أو يوبقه الجور». أخرجه أحمد في مسنده.. ولحديث معقل بن يسار مرفوعا: «ليس من والي أمة - قلت أو كثرت - لا يعدل فيها إلا كبَّه الله تبارك وتعالى على وجهه في النار» أخرجه أحمد في مسنده.
وقد دلت أحاديث كثيرة على فضيلة الإمام العادل في رعيته والأجر العظيم الذي ينتظره يوم القيامة: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن - وكلتا يديه يمين - الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا». أخرجه مسلم.
سادساً: ثبوت الاستحقاق في المال العام وفق الشرع.. الحاجة، والمصلحة، قال ابن تيمية: «لا يجوز للإمام أن يعطي أحدا ما لا يستحقه لهوى نفسه، من قرابة بينهما، أو مودة ونحو ذلك.
وعليه التسوية في العطاء بين المسلمين في دفع الحاجات لا في قدر العطاء؛ لأن المقصود الأعظم بالإنفاق دفع حاجات الناس فهناك زوجات وذريات»، وقال العز بن عبدالسلام: «تقدير النفقات بالحاجات مع تفاوتها عدل وتسوية».
فيعتبر في قدرها ثلاثة امور:
أ- عدد من يعولهم المستحق من المال العام.
ب- حال البلد من حيث الغلاء والرخص.
جـ- حال المستحق؛ لأن الناس يتفاوتون في أقدارهم ومسؤولياتهم.
سابعاً: ضابط التوسط في الإنفاق، وذلك أن يكون وسطا بين الإسراف والتقتير بما يحقق القوام (العدل بين الشيئين)، وعليه فلا يجوز الإسراف والتبذير؛ لأنهما إضاعة للمال بلا منفعة، وعدم الشح والتقتير لأنهما يعطلان وظيفة الإنفاق في سد الحاجة وتحقيق نمو المجتمع، ويدخل ذلك ضمن واجبات ولي الأمر، قال الماوردي: «ومن واجبات الإمام تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال، من غير سرف ولا تقتير».
وعدد العلماء بعض الأمثلة للإسراف فقالوا: كإمداد الكفار بالمال أو الوقود ليستعينوا به على المسلمين، وإنشاء بنوك ربوية، أو على ما فيه إفساد للعقول والأبدان كالمسكرات، أو ما فيه إفساد الأعراض والأخلاق كإنشاء مسارح الرقص والغناء أو ما فيه ظلم كاستئثار أفراد بشيء من المال العام بغير حق».
ثامناً: ضابط اعتبار الأولوية في الإنفاق العام، ففي حال توافر المال العام وكان يتسع للإنفاق على المصارف كلها، تكون الأولوية بتقديم المصرف الأهم منها؛ لأنه ربما عجزت الدولة عن توجيه النفقات كلها دفعة واحدة إلى مصارفها؛ فتضطر إلى تفويتها على بعضها فترة زمنية طويلة أو قصيرة فيراعى الأهم منها، وفي حال عدم توافر المال العام أي نقص بحيث لا يمكنه تغطية نفقات المصارف كلها، بل بعضها، فهنا تختلف المعالجة:
- فإن أمكن الإنفاق على جميع المصارف لكن مع تحقيق الحد الأدنى لما يحتاجه كل مصرف، فهذا هو الواجب الذي تتحقق به مراعاة الأولوية.
- وإن عجز المال العام عن تحقيق الحد الأدنى في النفقة على مصارف مجتمعة وقدر على تحقيقه في بعضها، فمراعاة الأولوية تقتضي هنا توجيه النفقة إلى الأهم منها، ويعهد بمسؤولية المفاضلة إلى مجموعة من المختصين وقيامهم بوضع خطة دقيقة تتضمن قواعد محدودة يعمل بمقتضاها عند إجراء المفاضلة؛ فعن أم الحكم بنت الزبير رضي الله عنها، قالت: أصاب النبي [ سبيا، فذهبت أنا وأختي فاطمة نسأله، فقال: «سبقكما يتامى بدر».
(المصدر/ بحث للدكتور عادل عامر- بتصرف)
لاتوجد تعليقات