
سلسلة محاضرات مؤتمر: (سكن) الأسباب والآثار والعلاج (٢-٢) ظاهرة «الزواج المتأخر»!
- من العوامل التي تعيق الزواج وتؤخره الإعلام الفاسد المتأثر بنظريات الغرب ومبادئه الذي يبث لأبناء المسلمين أنماطًا اجتماعية بعيدة عن روح الإسلام وآدابه
- قد يؤدي التحصيل العلمي والشهادات العالية لدى النساء إلى تأخير الزواج بحيث يكون هناك تفاوت وعدم توافق في المستويات التعليمية بين الزوجين المحتملين
- الزواج في أي مرحلة من مراحل العمر يؤدي إلى الاستقرار والواقعية في التفكير والشعور التام بالمسؤولية
- الزواج المبكر له العديد من الفوائد والثمرات التي ترتبط بالجوانب الدينية والاجتماعية والنفسية والمادية ومنها الحصانة المبكرة وحماية العفة والابتعاد عن الحرام
- العوامل النفسية والشخصية لها دور كبير في تأخير الزواج عند كثير من الشباب وهذه العوامل قد تكون مرتبطة بشخصية الشاب أو الفتاة وقد تكون لها أسباب أخرى
ما زال حديثنا مستمرا عن ظاهرة تأخر الزواج، وآثارها على المجتمع بمختلف تكويناته، للوقوف على أسباب هذه الظاهرة ومعطياتها، وعلى الانعكاسات الاجتماعية والنفسية والدينية لها؛ من أجل الوصول إلى أفضل الحلول من خلال التدابير الشرعية المناسبة التي تحقق معالجتها.
وتحدثنا عن أهمية الزواج ومفهوم الزواج المتأخر، وذكرنا مقاصد ديننا الإسلامي في الزواج، وأن الزواج من أعظم النعم، ثم عرجنا على أسباب الزواج المتأخر، وذكرنا أن منها عوامل اجتماعية، وعوامل اقتصادية، واليوم نكمل الحديث عن هذه الأسباب.
ثالثًا: العوامل الثقافية
هناك العديد من العوامل الثقافية التي تسببت في عزوف الشباب عن الزواج، ومن تلك العوامل ما يلي:(أ) الإعلام الفاسد ووسائل التواصل الاجتماعي
من أعظم العوامل التي تعيق الزواج وتؤخره عند كثير من الشباب والفتيات الإعلام الفاسد المتأثر بنظريات الغرب ومبادئه، الذي يبث لأبناء المسلمين أنماطًا اجتماعية بعيدة عن روح الإسلام وآدابه، من: أفلام ومسلسلات، ولقاءات تلفزيونية، أو عبر (السوشيال ميديا)، كالمقاطع أو (البودكاستات) التي يصنعها بعض من يحملون الفكر النسوي الفاسد؛ مما يجعل الشاب والفتاة يتأخرون كثيرًا في قرار الزواج المبكر في الوقت الذي ينساقون فيه وراء العلاقات غير الشرعية والأماني الكاذبة؛ حتى أدى ذلك إلى اعتقاد بعض الشباب والفتيات مفهومًا خطأً لا يمت للإسلام بصلة، وهو أن الزواج لا يكون ناجحًا إلا إذا سبقه حب بين الطرفين؛ مما يستدعى إقامة علاقة عاطفية لفترة طويلة، يتعرف خلالها كل واحد منهما على الآخر ويفهم شخصيته ويقع في شراك حبه، ولا شك أن هذه العادة محرمة في الشرع، بل إن غالب هذه العلاقات قد باءت بالفشل، ولا سيما بعد أن اطلع كل واحد منهما على عيوب الآخر، وقد يستغل ذلك ضعاف القلوب فيعبثون في أعراض بنات المسلمين ومشاعرهم تحت غطاء الخطوبة المزعومة، ثم ينسحب أحدهم بوقاحة وقد أثر على سمعة البنت ونفسيتها.(ب) التحصيل العلمي
كثير من الشباب -ولا سيما في مجتمعاتنا التي تعطي أهمية كبيرة للتعليم- يفضلون تأجيل الزواج حتى الانتهاء من تحصيلهم العلمي، ويعدون إكمال التعليم أولوية لتحقيق النجاح، فيختارون الاستقرار المادي، ولاسيما في «الدراسات العليا مثل الماجستير والدكتوراه»، فيختارون مواصلة تعليمهم بعد الجامعة، فيؤدي ذلك إلى انشغالهم بالدراسة والبحث العلمي لسنوات؛ مما يؤدي إلى تأخير الزواج حتى إكمال هذه المراحل الأكاديمية، وفي بعض الحالات، قد يؤدي التحصيل العلمي والشهادات العالية لدى النساء إلى تأخير الزواج؛ بحيث يكون هناك تفاوت وعدم توافق في المستويات التعليمية بين الزوجين المحتملين؛ فتشعر المرأة بأنها لا تجد شريكًا يناسب مستواها التعليمي؛ مما يدفعها إلى تأخير الزواج.رابعًا: العوامل النفسية والشخصية
العوامل النفسية والشخصية تؤدي دورًا كبيرًا في تأخير الزواج لدى كثير من الشباب، هذه العوامل قد تكون مرتبطة بشخصية الشاب أو الفتاة، وقد تكون لها أسباب أخرى، ومن هذه العوامل:(أ) الخوف من المسؤولية
فيشعر الشاب بالخوف من عدم القدرة على التعامل مع هذه المسؤوليات أو الحفاظ على التزامات الأسرة على المدى الطويل، وأحيانًا الخوف من الفشل في العلاقة الزوجية أو الخوف من الطلاق، ولا سيما إذا كانت لديهم تجارب سلبية سابقة أو شهدوا فشل زواج أشخاص مقربين منهم، مثل الوالدين أو الأصدقاء.(ب) ضعف تقدير الذات
فيقلق الشاب الراغب في الزواج من التعرض للرفض من قبل الفتاة أو أسرتها أو من عموم الأسر لضعف شخصيته وعدم ثقته بنفسه، هذا القلق يمكن أن يجعله يتردد كثيرًا في التفكير في الزواج فضلًا عن بناء أسرة متكاملة، ولاسيما الأشخاص الذين يعانون من الخجل المفرط أو الانطوائية، فهؤلاء قد يجدون صعوبة في بناء علاقات اجتماعية؛ مما يجعل العثور على شريك مناسب في سن مبكرة من الصعوبة بمكان.الآثار المترتبة على تأخر الشباب وعزوفه عن الزواج وعلاجها
الانعكاسات والآثار التي تعود على الفرد والمجتمع من تأخير الزواج فضلًا عن العزوف عنه كثيرة متنوعة، وقد تسبب فسادًا اجتماعيًّا كبيرًا لعلنا نلخص أهم معالمه في هذه النقاط: (1) تأخير الزواج أو الإعراض عنه قد ينتج فوضى خلقية مدمرة؛ ذلك لأن الزواج تصريفٌ للغريزة في حدود ما شرع الله، والإعراض عنه قد ينتهي بصاحبه إلى الزنا والعياذ بالله، ولا شك أن الزنا من الموبقات التي تهلك الأمة وتقضي على مقوماتها الكريمة، وتضيع الأنساب وتزلزل القيم، وتهدد كيان الأسر، ولا يكفي في ذلك تجاهل الغريزة الفطرية وإهمالها؛ فإن لذلك آثارًا وخيمة، ولا سيما إن لم يكن في القلب وازع ديني وخوف من الله. (2) وإذا كان كذلك، فإن انتشار الفواحش والعلاقات غير الشرعية في المجتمع، تهدد بانتشار الأمراض الخطيرة في المجتمع، مثل: مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز والكلاميديا) والزهري والسيلان والتهاب الكبد الفيروسي والتهاب المهبل، وغير ذلك من الأمراض المتنوعة التي ستحمِّل المجتمع تبعات اقتصادية وصحية واجتماعية، وفي الوقت نفسه فإن انتشار العلاقات المحرمة سيدمر الأسرة، ذلك الحصن الأخير في هذه الأمة فيوجد أبناء من غير آباء، وآباء وأمهات غير متوازنين نفسيا وعاطفيا، فينشأ جيل كارهٌ لمجتمعه ولكل من حوله. (3) تأخير الزواج فضلًا عن الإعراض عنه مع مقاومة الشهوة والامتناع عن الانحراف قد يؤدي بصاحبه إلى استحكام عقد نفسية كثيرة متنوعة في الرجال والنساء، سواء انجرف في تيار الانحراف والرذيلة أم كان مقاومًا للشهوة الجامحة ممتنعًا عن الانغماس في الرذيلة، فإن هذا الرجل أو المرأة -في الغالب- يكون مشغول البال دائمًا، فاقد القدرة على التركيز في العمل والإنتاج فضلًا عن الإبداع والإتقان. وكثيرًا ما تتفاقم هذه العقد فتقود أصحابها إلى وساوس قهرية جنونية، أو تصنع منهم ناسًا مجرمين يعودون بالضرر على المجتمعات. (4) تأخير الزواج يضعف الأمة ويهددها بالتناقص، ويمكِّن لأعدائها؛ ذلك لأنه يقطع النسل، أو يقلله، ولا ريب أن النسل مقصد من مقاصد الزواج، الذي فيه حفظ العنصر الإنساني وتكاثره، وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإكثار من النسل، وذلك بالتزوج من الولود الودود؛ حيث قال: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فاستمرارية النسل له آثاره الإيجابية على الأمة الإسلامية، ولا سيما إذا كانت الذرية طيبة. (5) تأخر سن الزواج والعزوف عنه يخلق أنواعًا أخرى من الزواج غير المعترف بها رسميا، مثل زواج المتعة أو الزواج من غير ولي، أو ما يسمى بزواج (فرند) أو المساكنة وغير ذلك من أنواع الزواج الذي لا يخلو من شبهة مكروهة أو محرمة، وهذه الأنواع تقوض الأسرة، وتؤدي إلى تفشي الفساد والإباحية في المجتمع، ولكن بغطاء شرعي كما يحاول بعضهم الترويج له باعتباره بديلًا عن الزواج الشرعي مكتمل الأركان والشروط. (6) تأخر سن الزواج والعزوف عنه يفقد المجتمع فيه الإحساس بالمشاعر والعواطف، حتى يصبح الفرد فيه كالآلة يعمل دون تفكير، فالرجل يفقد مشاعر الأبوة والأم تفقد مشاعر الأمومة، ويرون المستقبل بعيون سوداء قاتمة بعيدة عن الحب والعطف والحنان. (7) تأخير الزواج يجعل هناك فجوة بين الأجيال فيصبح المجتمع مكونًا من أطفال وكهول أو شباب دون أطفال أو شباب وشيوخ، مما يساعد على ضعف التواصل وقلة الخبرات. (8) تأخير الزواج يؤدي إلى عدم إشباع غريزة الأبوة لدى الشاب أو الأمومة لدى الفتيات، ولا شك أن لذلك من الانعكاسات النفسية التي تعود على الفرد والمجتمع بآثار سلبية كثيرة مثل الوقوع في الحالات من الكآبة، واليأس، والإحباط، وخيبة الأمل، وضعف العاطفة، والعدوانية وكراهية المجتمع. (9) العزلة والانطوائية التي تصيب الشاب أو الفتاة المتأخرة عن سن الزواج، وذلك بسبب الهروب من مواجهة الناس؛ خوفا من نظرات الشفقة، أو سماع عبارات تمني زواجه أو زواجها وغيرها من الضغوط النفسية الأخرى كالشعور بالوحدة، والاتسام بصفة التمرد والرفض، وعدم قبول آراء الآخرين.فوائد الزواج المبكر وثمراته
الزواج المبكر له العديد من الفوائد والثمرات التي ترتبط بالجوانب الدينية والاجتماعية والنفسية والمادية. إليك بعض هذه الفوائد والثمرات: (1) الحصانة المبكرة وحماية العفة والابتعاد عن الحرام: الزواج يساعد على حفظ الفرج وغض البصر، كما ورد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَعليه بالصَّوْمِ؛ فإنَّه له وِجَاءٌ»؛ فالزواج المبكر يساعد في الابتعاد عن الفتن والشهوات المحرمة ولاسيما مع كثرة الفتن والشهوات وقوة الشاب وفراغه، كما قال أبو العتاهية:إنّ الشبابَ والفراغَ والجِدَهْ
مَفسدَةٌ للمرءِ أيُّ مَفسَدَهْ
(2) الاستقرار النفسي والعاطفي: الشباب والفتيات اليوم يعانون من المغريات الكثيرة التي تبدو أمامهم في كل موطن، فهو حين يتأخر في الزواج يكون بين أمرين لا ثالث لهما، إما أن يقع في الحرام فيشعر بالألم والندم، وإما أن يحميه الله -تعالى- فينتصر على شهوته ونفسه الأمارة بالسوء، فيعيش في حيرة ومعاناة وخوف على نفسه؛ لذلك سلوك الطريق الثالث وهو الزواج يوفر للشاب أو الشابة الاستقرار النفسي والعاطفي، فهو علاقة تقوم على المودة والرحمة؛ مما يخفف من مشاعر الوحدة أو التشتت. (3) زيادة فرص الإنجاب: الزواج المبكر يمكن أن يزيد من فرص الإنجاب في سن الشباب؛ حيث تكون الصحة البدنية للزوجين في أوجها، ومن ثم يمكن أن يكون لديهم أطفال كثيرون وبصحة جيدة. (4) تحمل المسؤولية وبناء الأسرة: الزواج المبكر يشجع الشباب على تحمل المسؤولية، وتعلم كيفية إدارة شؤون الحياة الأسرية مبكرا؛ مما يسهم في بناء أسرة قوية ومتماسكة على أسس دينية وأخلاقية. (5) الامتثال للسنة النبوية: الإسلام يشجع الزواج، ويرى فيه وسيلة لتحقيق الاستقرار والطمأنينة في المجتمع؛ فقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: «النِّكَاحُ من سُنَّتِي فمَنْ لمْ يَعْمَلْ بِسُنَّتِي فَليسَ مِنِّي، وتَزَوَّجُوا؛ فإني مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ، ومَنْ كان ذَا طَوْلٍ فَلْيَنْكِحْ، ومَنْ لمْ يَجِدْ فَعليهِ بِالصِّيامِ، فإنَّ الصَّوْمَ لهُ وِجَاءٌ». (6) التربية السليمة للأبناء والبنات: فهو حين يتزوج في وقت مبكر ستكون الفجوة بينه وبين أولاده -ولا سيما الكبار منهم- غير واسعة، وقتئذ سيبلغ ولده الأكبر سن التكليف والأب دون الأربعين، وهذا له أثره في سهولة تعامله معه، واستيعابه لمشكلاته، وقدرته على تربيته. (7) وجود من يقوم بأعباء المنزل للوالدين: فحين يتزوج الشاب والفتاة في سن مبكرة، فما إن يبلغا الأربعين إلا وقد وُجد من يقوم بأعباء المنزل من البنين والبنات، وهذا له أثره في تحقيق قدر من الفراغ يمكن أن يثمر فيه الأب وينتج نتاجًا يتناسب مع فترة الرشد والنضج التي يعيشها. (8) الزواج المبكر مدعاة لحصول الأبوين على الولد الصالح: فهو أدعى لحسن تربيته، وهو أدعى لكثرة الولد، والولد الصالح امتداد للمرء بعد موته، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أنه «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ»، فإذا تزوج مبكرًا كان هذا أدعى إلى كثرة تحقيق الولد الصالح، ولا سيما أنه سيتيسر له أن يربيه ويرعاه؛ مما يحقق له بعد ذلك امتدادًا لعمله بعد وفاته، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. (9) نجابة الولد: الزواج المبكر سبب في الأغلب للإنجاب المبكر، وهذا له أثره على نجابة الولد، وقد قيل: «إن أنجب الأولاد خَلقًا وخُلقًا من كان سن أمه بين العشرين والثلاثين»، وتوصلت بعض الدراسات الحديثة إلى أن الأمهات دون العشرين وفوق الخامسة والثلاثين يزيد احتمال إنجابهن للأطفال المتأخرين ذهنيا وحركيا عن الأمهات اللاتي تقع أعمارهن فيما بين العشرين والخامسة والثلاثين، كما أن نسبة الأطفال المشوهين والمعتوهين تزداد تبعًا لعمر الأب، ولا سيما بعد الخامسة والأربعين. (10) الزواج في أي مرحلة من مراحل العمر يؤدي إلى الاستقرار والواقعية في التفكير، والشعور التام بالمسؤولية، وأنتم تلاحظون في آبائنا -إلى أمد قريب قبل ثلاثين أو أربعين سنة- كان أغلب الناس يتزوجون في السابعة عشرة والثامنة عشرة، فتجده قبل أن يتزوج غير مستقر، فإذا تزوج صار يراقب تصرفاته ويبتعد عن الطيش والتهور؛ لأنه صار رجلًا، يعيش عيشة الرجال، ويشعر أنه قد اكتملت رجولته، وأنه لا يجوز له أن يمارس ما كان يمارسه حينما كان عازبًا، وهذا أمر معروف.
لاتوجد تعليقات