سلامة الصدر من أعظم نعم الله على العبد
قال الله -تعالى- في وصف جانب من نعيم أهل الجنة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (الحِجر 47)، وإنَّ من أهل الدنيا من يعيش في شيء من هذا النعيمِ في دنياهُ قبلَ أخراه، ألا وإنه هو صاحبُ القلبِ المخموم. سُئلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ»، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ» (رواه ابْنُ مَاجَهْ).
فتفقدوا قلوبكم، ونظفوها من كل الأدناس والأدواء، وطهروها من الحسد وَالْحِقْدِ ومن سوء الظن والغِل والْبَغْضَاءِ، فإن في ذلك راحة لكم في الدنيا، وفوزا في الآخرة، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء 88-89). وعنايتُك بقلبك لا تفوقها في الأهمية عناية، فصلاح أمرك مرجعه إلى صلاح قلبك، فإذا صلَحَ قلبُك صلَحَت إرادتُك، وصلَحَت جَميعُ جوارحِك. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» (متفق عليه).
أعظم نعم الله
ومن أعظم نعم الله عليك أن يكون صدرُك سليما تُجاه إخوانك المؤمنين، فانظر إلى من جاء بعد الأنصار والمهاجرين، كيف وصفهم الله -سبحانه- بقوله الكريم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر 10)، أفلا تحب أن تكون من هؤلاء النبلاء الأتقياء؟ وهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى سلامة الصدر من الآفات والمنغصات، فقال لعقبةَ بنِ عامرٍ -رضي لله عنه-: «يَا عُقْبَةُ بْنَ عَامِرٍ، صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ» (رواه الإمامُ أحمد).
هكذا الفضلاءُ النبلاء
وهكذا كان الفضلاءُ النبلاء، يعملون ويؤجرون كثيرا بإذن الله، وذلك لسلامة صدورهم. قال الصحابي عبدُاللهِ بنُ عباسٍ -رضي الله عنهما-: «إِنِّي لَآتِي عَلَى الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَلَوَدِدْتُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ مِنْهَا مَا أَعْلَمُ مِنْهَا، وَإِنِّي لَأَسْمَعُ بِالْحَاكِمِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ يَعْدِلُ فِي حُكْمِهِ فَأَفْرَحُ بِهِ، وَلَعَلِّي لَا أُقاضِي إِلَيْهِ أَبَدًا، وَإِنِّي لَأَسْمَعُ بِالْغَيْثِ قَدْ أَصَابَ الْبَلَدَ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَأَفْرَحُ، وَمَا لِي بِهِ مِنْ سَائِمَةٍ» (رواه الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيمٍ).
وهذا الإمامُ محمدُ بنُ إدريسَ الشافعيُّ -رحمه الله-، يقول عنه يُونُسُ الصَّدَفِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنَ الشَّافِعِيِّ، نَاظَرْتُهُ يَوْمًا فِي مَسْأَلَةٍ، ثُمَّ افْتَرَقْنَا، وَلَقِيَنِي فَأَخَذَ بِيَدِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُوسَى، أَلَا يَسْتَقيمُ أَنْ نَكُونَ إِخْوَانًا وَإِنْ لَمْ نَتَّفِقْ فِي مَسْأَلَةٍ؟»، وقال الإمامُ ابنُ القيمِ -رحمه الله- في وصف شأنِ شيخِه شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ مع أعدائه: «مَا رَأَيْتُهُ يَدْعُو عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَطُّ، وَكَانَ يَدْعُو لَهُمْ»، رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.
هَكَذَا يُثْمِرُ الْإيمَانُ
وَهَكَذَا يُثْمِرُ الْإيمَانُ إِذَا خَالَطَتْ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَانْشَرَحَتْ بِهِ الصُّدُورُ: قُلُوبًا رَحِيمَةً، وَصُدُورًا سَلِيمَةً، وَمَوَاقِفَ حَكِيمَةً، وَنُفُوسًا أَبِيَّةً كَرِيمَةً، {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت 34-35).
غَرْسِ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ
ولَقَدْ حَرَصَ الْإِسْلَامُ عَلَى غَرْسِ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ فِي النُّفُوسِ حِرْصًا شَدِيدًا، وَدَعَا إِلَيْهَا وَشَجَّعَ عَلَيْهَا وَأَكَّدَها تَأْكِيدًا، فَمَا مِنْ خُلُقٍ كَرِيمٍ إِلَّا حَثَّ عَلَيْهِ، وَلَا مِنْ خُلُقٍ ذَمِيمٍ إِلَّا حَذَّرَ مِنْهُ، ومن قرأ القرآن وجد أنه يدعو إلى معالي الأخلاقِ وينهى عن سفسافها. وكان أعظمَ من امتثل لذلك هو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد سُئلت أم المؤمنينَ عائشةُ -رضي الله عنها-: «يا أمَّ المؤمنين، ما كان خُلُقُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت: كان خُلُقُه القرآنُ» (رواه البخاري في الأدب المفرد).
فعلينا أن نطهر القلوبَ والأجنان، حتى تَصلُحَ الجوارحُ والأركان، ونفوز برضا الرحمن، وأعالي الجِنان. ولنحسن الظن بالمسلمين، ولنعذر المخطئين، ولنحمل أقوال الناسِ على أحسن المحامل، ولنلتمس لهم الأعذار، ولنجتنب كثرةَ الجدالِ والمراء، الذي يورث الشحناء، ولنفشِ السلام.
لاتوجد تعليقات