سبيل التأسي بدراسة حديث – اللهم إني ظلمت نفسي
استكمالا لما بدأناه في الأسبوع الماضي من قرائتنا المتأنيّة لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه صاحبه أبو بكر رضي الله عنه ؛ حيث قال له صلى الله عليه وسلم : «قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ» نقول:
قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - في «مسنده» (مسند أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -): حدثنا هاشم بنُ القاسم، قال: ثنا الليثُ، قال: حدثني يزيد بنُ أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبدالله بن عَمرو، عن أبي بكر الصديق، أنَّه قال لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: عَلِّمْني دعاءً أدعو به في صلاتي. قال: «قل: اللهم إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفرُ الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً مِن عندك، وارحمني؛ إنك أنت الغفورُ الرحيمُ». وقال يُونُسُ: «كبيرًا».
قلت: قول الإمام أحمد: وقال يونس: «كبيرًا» يعني به أنَّ شيخَ أحمد (يونس بن محمد المُؤدِّب) حدَّثه بهذا الحديث عن الليث، وقال في حديثه «كبيرًا «وحجاج هو ابن محمد المصيصي، وأبوالخير هو مرثد بنُ عبدالله اليَزَنِيُّ، والاتباع يقتضي منا أن تقول مرة (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا (، ومرة أخرى تقول (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كبيرا )، ومن يقل (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا كبيرا..) فقد أبعد والله أعلم.
- قال عبدُ بنُ حُمَيد - رحمه الله تعالى - في «المنتخب من مسنده» (مسند أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -):أخبرنا الحسن بنُ موسى، قال: ثنا ليثُ بنُ سعد، قال: ثنا يزيد بنُ أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبدالله بنِ عَمرو، عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق، أنَّه قال: يا رسولَ الله عَلِّمْني دعاءً أدعو به في صلاتي، فقال: قل: اللهم إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنَّهُ لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ، فاغفر لي مغفرةً مِن عندك، وارحمني؛ إنك أنت الغفورُ الرحيمُ».
قلت: الواجبُ على العبدِ أنْ ينسبَ النِّعَمَ جميعًا لله، وأنْ يَشعُرَ بأنه لا يستحق شيئًا على الله، وإنما الله هو المستحق للعبودية، وهو المستحق للشكر، والعبد فقيرٌ مُذنبٌ مهما بلغ. وانظر إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - كيف علمه النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - أنْ يقولَ في آخر صلاته: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي».
إذا كان أبوبكر علمه الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يدعُوَ بهذا الدعاء، فكيف بحال المساكين أمثالنا، وأمثال أكثر هذه الأمة؟
وكيف يظنون في أنفسهم أنهم يستحقون على الله شيئا؟!
فتمام التوحيد إذًا أن يُجِلَّ العبدُ ربَّه - تبارك وتعالى - ويعظمه، وألا يعتقد أنه مُستَحِقٌّ للنعم، أو أنه أوتيها بجهده وجهاده وعمله بل هو فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم؛ لأن فعل العبد سبب وهذا السبب قد يتخلف وقد يكون مؤثرا، ثم إنه إذا أثر فلا يكون مؤثرا إلا بإذن الله - جل وعلا - فرجع الأمر إلى أنه فضلُ الله يؤتيه مَن يشاء.
انتهى مِن كلام سماحة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - في «التمهيد لشرح كتاب التوحيد» (ص490-491 بتصرف يسير).
- قال أبوبكر بنُ أبي شيبة - رحمه الله تعالى - في «مُصَنَّفه» (كتاب الدعاء/ باب: مَا ذُكِرَ فِيمَنْ سَأَلَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعَلِّمَهُ مَا يَدْعُو بِهِ فَعَلَّمَهُ): حدثنا يُونُس بنُ محمد: ثنا ليثُ بنُ سعد، عن يزيد بنِ أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبدالله بنِ عَمرو، عن أبي بكرٍ، أنَّه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عَلِّمْني دعاءً أدعو به، قال:»قل: اللهم إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ، فاغفر لي مغفرةً مِن عندك، وارحمني؛ إنك أنت الغفورُ الرحيمُ».
قال ابنُ أبي العزِّ الحنفيُّ - رحمه الله - في «شرح العقيدة الطحاوية» (2/663 - ت شعيب): وَسَأَلَ الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه - النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دُعَاءً يَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِهِ، فَقَالَ: قُلْ: «اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».
فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ الصِّدِّيقِ، الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ - فَمَا الظَّنُّ بِسِوَاهُ ؟ بَلْ إِنَّمَا صَارَ صِدِّيقًا بِتَوْفِيَتِهِ هَذَا الْمَقَامَ حَقَّهُ، الَّذِي يَتَضَمَّنُ مَعْرِفَةَ رَبِّهِ، وَحَقَّهُ وَعَظَمَتَهُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَمَعْرِفَةَ تَقْصِيرِهِ.
فَسُحْقًا وَبُعْدًا، لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَسْتَغْنِي عَنْ مَغْفِرَةِ رَبِّهِ وَلَا يَكُونُ بِهِ حَاجَةٌ إِلَيْهَا ! وَلَيْسَ وَرَاءَ هَذَا الْجَهْلِ بِاللَّهِ وَحَقِّهِ غَايَةٌ ! فَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ فَهْمُكَ لِهَذَا، فَانْزِلْ إِلَى وَطْأَةِ النِّعَمِ، وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُقُوقِ، وَوَازِنْ مِنْ شُكْرِهَا وَكُفْرِهَا، فَحِينَئِذٍ تَعْلَمُ أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ. انتهى.
- قال أبوبكر البزار -رحمه الله تعالى- في «البحر الزَّخَّار» (مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه 1/85-86): حدثنا محمد بنُ المُثنَّى، قال: نا أبوالوليد، قال: نا الليثُ بنُ سعد، عن يزيد بنِ أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبدالله بنِ عَمرو، عن أبي بكرٍ رضي الله عنه ، قال: قلتُ: يا رسول الله عَلِّمْني دعاءً أدعو به، قال: «قل: اللهم إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنَّهُ لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ، فاغفر لي مغفرةً مِن عندك، وارحمني؛ إنك أنت الغفورُ الرحيمُ».
وقال: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن أبي بكر، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلا بهذا الإسناد، وقد رواه بعضُ أصحاب الليث عن الليث بهذا الإسناد، عن عبدالله بن عَمرو: أنَّ أبا بكر قال: يا رسول الله...، وبعضُهُم قال: عن أبي بكر؛ فذكرناه عن أبي الوليد واجتزينا به؛ إذ كان ثقةً وقد أسندَهُ.
ثم أعاده البزار مرة أخرى بعد ذلك (1/195) بالإسناد ذاته، ثم قال:
وهذا لا نعلمه يروى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلا عن أبي بكر مِن هذا الوجه، وإسناده حسنٌ، وقد رواه غيرُ واحدٍ عن الليث بنِ سعد؛ فاقتصرنا على رواية أبي الوليد دون غيره. انتهى.
قلتُ: أبوالوليد هو الطيالسيُّ هشام بنُ عبدالملك توفي سنة 227هـ.
قال فيه الإمامُ أحمد: هو اليوم شيخ الإسلام. وقال أبوحاتم الرازي: إمامٌ فقيهٌ حافظٌ، ما رأيتُ في يده كتابًا قطُّ.
قال الحافظ ابنُ كثير في «تفسيره» (6/433 ): فجمع في هذا الدعاء الشريفِ العظيمِ القدرِ بين الاعترافِ بحَالِهِ، والتوسل إلى ربِّهِ بفضلِهِ وجُودِهِ، وأنَّهُ المُتَفَرِّدُ بغُفرانِ الذنوب، ثمَّ سألَ حاجَتَهُ بعد التوسل بالأمرين معًا؛ فهكذا آدابُ الدعاء والعُبُودِيَّةِ. انتهى.
- قال أبويعلى الموصليُّ - رحمه الله تعالى - في «مسنده» (مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه-:
- حدثنا غسان بنُ الربيع، عن ليث بنِ سعد، عن يزيد بنِ أبي حبيب، عن أبي الخيرِ، عن عبدالله بنِ عَمرو بن العاص، عن أبي بكر.
- وحدثنا زهير بنُ حرب: ثنا هاشم بنُ القاسم: ثنا الليث بنُ سعد، قال: حدثني يزيد بنُ أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبدالله بنِ عَمرو، عن أبي بكر.
- وحدثنا عُبَيدالله بنُ عُمر القواريريُّ: ثنا هشام بنُ عبدالملك، وعاصم بنُ عليّ، قالا: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبدالله بن عَمرو، عن أبي بكر، واللفظ لحديث غسان، أنَّه قال لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: عَلِّمْني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: «قُل: اللهم إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا - وفي حديث القواريري وحده عن عاصم: كبيرًا -، ولا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ، فاغفر لي مغفرةً مِن عندك، وارحمني؛ إنك أنتَ الغفورُ الرحيمُ».
قال أبويعلى: قال الليثُ: عن أبي بكر الصديق. وقال عَمرو بنُ الحارث: عن عبدالله بن عَمرو، ولم يجاوز به.
قلت: رواية عَمرو بن الحارث في غير ما حديث تدل على أنَّ هذا الدعاء لا يُقال فقط في الصلاة ولكن في البيت أيضًا؛ فمعناه أنَّهُ يُقال في كلِّ وقتٍ وحين وهذا مِن فضل الله على عباده، والحمدُ لله رب العالمين.
(13) هذا ما عَلَّمَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لصاحِبِهِ أبي بكر الصديق -رضي الله عنه - أنْ يدعو به أخبر ابنُ خُزيمة - رحمه الله تعالى - في «صحيحه» (في جماعُ أبوابِ الكلامِ المباحِ في الصلاةِ والدعاءِ والذكرِ ومسألةِ الربِّ -عزَّ وجلَّ- وما يُضاهي هذا ويُقاربه / بابُ إباحةِ الدعاءِ في الصلاةِ)، قال:
- أخبرنا محمد بنُ عبدالله بنِ عبدالحكم: ثنا أبي، وشُعَيبٌ، قالا: ثنا الليث، عن يزيد بنِ أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبدالله بنِ عَمرو، عن أبي بكر الصديق - رضوانُ الله عليه -، أنَّه قال لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «عَلِّمنِي دعاءً أدعو به في صلاتي».
2 - وناه يُونُس بنُ عبدالأعلى الصدفيُّ: نا ابنُ وهبٍ: أخبرني عَمرو بنُ الحارث، وابنُ لهيعةَ، عن يزيد بنِ أبي حبيب، عن أبي الخير، أنَّه سَمِعَ عبدَالله بنَ عَمرو بنِ العاص، يقولُ: إنَّ أبا بكرٍ الصديق -رضي الله عنه -، قال لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: عَلِّمْنِي يا رسولَ الله دعاءً أدعو به في صلاتي، وفي بيتي قال: «قل: اللهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ، فاغفر لي مغفرةً مِن عندكَ، وارحمني، إنَّكَ أنتَ الغفورُ الرحيمُ».
قلتُ: كان الإمامُ أحمد - رحمه الله - يقول: نحن كتبنا الحديث مِن ستة أوجهٍ، وسبعةِ وجوهٍ، ولم نضبطْهُ؛ كيف يضبطه مَن كتبَهُ مِن وجهٍ واحدٍ؟! انتهى. وكان العلماء يكتبون الحديث الواحد من ثلاثين ومن أربعين وجها من حفظهم؛ ونحن عجزة هذا الزمان - وأنا منهم - يصعب علينا مجرد قراءة الحديث الواحد، فرحماك ربنا.
لاتوجد تعليقات