
سبيل التأسي بدراسة حديث اللهم إني ظلمت نفسي
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله، وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد.. فهذه دراسة حديثية أعانني الله -تبارك وتعالى- على إتمامها، وهي تخص دعاء مهمّا، غاية؛ دعاء عَلَّمهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي هو أفضل الأمَّة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم ، وقد جاء الحديثُ بهذا الدعاء في الصحيحين وغيرهما..
عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه : أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي، قَالَ: «قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ».
هذه الدراسة التي بين يديك أيها القاريء الكريم، أشبهُ ما يكون بقراءة متأنيّة لهذا الدعاء، وكيف ذكره العلماء والمُصَنِّفُون، وكيف تعاملوا معه في كتبهم؟
ومنهجي فيه يتلخصُ في النقاط الآتية:
1 - أبحثُ في جميع دواوين الإسلام من لدن التابعين وحتى يومنا هذا عن كل مَن أخرج الحديثَ في كتابه، بحسب ما وقفتُ عليه.
2 - أجعلُ كل إمام أخرج الحديث في فقرة مستقلة برقم مسلسل، ليتميز تخريجُهُ عن تخريج غيره.
3 - أذكرُ كلامَ الإمام والعالم على الحديث إنْ كان له عليه كلام، وفوائد على الحديث.
4 - أذكرُ ما أراهُ مِن فوائد عقائدية، وفقهية، ودعوية، وحديثية عقب أغلب الفقرات، وانتقيتُ تلكُمُ الفوائد مِن كلام العلماء المتقدمين، والمتأخرين منهم أمثال العثيمين والفوزان وغيرهم.
5 - اجتهدتُ أن تكون الفقرات في دراسة هذا الحديث (حدائق ذات بهجة)، وأسميتُهُ (سبيلُ التَّأسِّي بدراسة حديث: اللهم إنِّي ظلمتُ نفسي).
والله -تعالى- من وراء القصد.
(1) هذا ما عَلَّمَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لصاحِبِهِ أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -:
قال البخاريُّ - عليه رحمة الله تعالى - في (صحيحه):
1 - كتاب الأذان باب الدعاء قبل السلام:
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه : أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي، قَالَ: «قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ».
2 - كتاب الدعوات باب الدعاء في الصلاة:
حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ يُوسُفَ: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه : أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي، قَالَ: «قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ». وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ، إِنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، قَالَ أَبُوبَكْرٍ رضي الله عنه لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .
3 - كتاب التوحيد باب قول الله تعالى {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (النساء/134).
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ، سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه ، قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي، قَالَ: «قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ».
قال الشيخ الدكتور عبدالرحيم بنُ صمايل العليانيُّ السُّلَمِيُّ في (شرح العقيدة الواسطية) (الدرس الخامس - دروس صوتية مفرغة):
قال البخاريُّ - رحمه الله -: باب قول الله - عزَّ وجلَّ -: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (النساء/134). ثم ساق في الباب أحاديث عدة هذا منها. هذا الحديثُ يبدو للناظر مِن أوَّلِ وَهْلَةٍ أنَّه لا علاقة له بباب إثبات صفة (السمع والبصر)، فما هو وجْهُ الدلالة؟ أو لماذا أتى البخاريُّ - رحمه الله - بهذا الحديث في إثبات صفة (السمع والبصر)؟
يمكن أن نقول: إنَّ هذا الدعاء يدلُّ على صفة (السمع) مِن جهة أنه لو لم يكن الله - عزَّ وجلَّ - يسمع هذا الدعاء لما كان للدعاء فائدة، ولما عَلَّمَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم – الدعاء، هكذا استدل البخاريُّ - رحمه الله - بهذا الحديث على أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يسمعُ. ولهذا يقول ابنُ عَقيل الحنبليُّ - رحمه الله -: إنَّ هذا الحديثَ يدلُّ على مجموعَةٍ مِن الصفات:
- أولاً: وجودُ الله - عزَّ وجلَّ -؛ لأنَّهُ لو كان غيرَ موجودٍ لما صحَّ دعاؤُهُ.
- ثانِيًا: السمع؛ لأنَّه لو لم يكن سَمِيعًا، ويسمعُ بسمْعٍ لما كان هناك دعاء.
- ثالِثًا: الغنى؛ لأنَّ الفقيرَ لا يُدعى.
- رابِعًا: الرحيم؛ لأنَّ القاسيَ والظَّلُومَ الذي ليس عنده رحمة لا يُدعى.
- خامِسَا: يدلُّ على أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - عليمٌ سبحانَهُ، ويدلُّ على مجموعَةٍ مِن الصفات ذكرها رحمه الله تعالى، وكلُّ ذلك استُنْبِطَ مِن الدعاء. انتهى.
(2) هذا ما عَلَّمَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لصاحِبِهِ أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: قال مسلمٌ - عليه رحمة الله تعالى - في «صحيحه»: (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب استحباب خفض الصوت بالذكر )
1 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: ثَنَا لَيْثٌ. (ح)
2 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ: نَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ: «قُلِ اللهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَبِيرًا - وَقَالَ قُتَيْبَةُ: كَثِيرًا - وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».
3 - وحَدَّثَنِيهِ أَبُوالطَّاهِرِ: نَا عَبْدُاللهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ - سَمَّاهُ -، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَاللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، يَقَولُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللهِ دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، وَفِي بَيْتِي، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْثِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: «ظُلْمًا كَثِيرًا».
قال أبوعَمرو - غفر الله له -:
- معلومٌ أنَّ مسلمًا لم يترجم في صحيحه لكتبه وأبوابه، فكان يسرد الحديث سردًا، لا يفصل بينه بكلام، كما صنع الإمامُ أحمد في مسنده، خلافًا للبخاريِّ في الصحيح، ومالك في الموطأ.
- وشيخ (عبدالله بن وهب) المبهمُ في الإسناد هو: (عبدالله بنُ لهيعة)، وقد سمَّاه ابنُ وهب، لكن مسلمًا لم يُسمّه، لضعف ابن لهيعة عنده، وهذه عادةُ البخاريِّ ومسلم والنسائيِّ، كانوا لا يُسمّونه في كتبهم، فيجيء في الرواية مقرونًا بغيره، ويكون اعتمادُهُم على مَن قرنوه معه، لا عليه هو.
- فاللهم اغفر لهم وارحمهم، وسامحنا على تفريطنا في حق أنفسنا وفي حقهم علينا. قلت: فيا أيها الشباب هلا اقتدينا بالنبيِّصلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه !
قال السنديُّ في «حاشيته على سنن النسائي» (3/53):
«اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا»: قال في (فتح البارِي): فِيهِ أَنَّ الإِنْسَانَ لَا يعرى عَن تَقْصِير وَلَو كَانَ صِدِّيقًا. قلتُ: بل فِيهِ أَن الإِنْسَان كثيرُ التَّقْصِير وان كَانَ صَدِّيقًا، لأنَّ النِّعمَ عَلَيْهِ غيرُ متناهية، وقوتُهُ لا تُطِيق بأَدَاء أقل قَلِيل مِن شكرها، بل شُكرُهُ مِن جُملَة النِّعم أَيْضا، فَيحْتَاج إِلَى شُكرٍ هُوَ أَيْضا، كَذَلِك فَمَا بَقِي لَهُ إلا الْعَجز وَالِاعْتِرَاف بالتقصير الْكثير. كَيفَ وَقد جَاءَ فِي جُملَة أدعيتِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم: (ظلمتُ نَفسِي). قوله: «مغفرةً مِن عنْدك» أَي: مِن مَحْض فضلك، من غير سَابِقَة اسْتِحْقَاق مِنِّي؛ أَو مغْفرَة لائقة بعظيمِ كَرَمِكَ؛ وَبِهَذَا ظهر الْفَائِدَة لهَذَا الْوَصْف، وإلا فَطلبُ الْمَغْفِرَة يُغني عَن هَذَا الْوَصْف ظَاهرُا فَلْيتَأَمَّل.
لاتوجد تعليقات