رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ أحمد بن عطية الوكيل 16 فبراير، 2015 0 تعليق

سبيل التأسي بدراسة حديث – اللهم إني ظلمت نفسي -3

استكمالا لما بدأناه في الأسبوع الماضي من قراءتنا المتأنيّة لدعاء النبي  صلى الله عليه وسلم الذي علمه صاحبه أبا بكر -رضي الله عنه-؛ حيث قال له صلى الله عليه وسلم : «قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ».

نلخص أهم الفوائد المستقاة من الحديث من كلام أهل العلم، فنقول:

- قال الدكتور سعيد بنُ عليّ بن وهف القحطانيُّ في كتاب: (عقيدة المسلم في ضوء الكتاب والسُّنَّة – المفهوم، والفضائل، والمعنى، والمقتضى، والأركان، والشروط، والنواقض) (1/229 - مطبعة سفير-الرياض) وهو مقتبس من التفسير القيِّم لابن القيم:-

الدعاء ثلاثة أقسام:

1 - أن تسأل الله بأسمائه وصفاته.

2 - أن تسأله بحاجتك وفقرك وذُلِّك فتقول: أنا العبد الفقير المسكين الذليل المستجير، ونحو ذلك.

3 - أن تسأل حاجَتَكَ ولا تذكر واحدًا مِن الأمرين، فالأول أكمل مِن الثاني، والثاني أكمل من الثالث، فإذا جمع الدعاءُ الأمورَ الثلاثةَ كان أكمل. وهذه عامَّةُ أدعية النبيِّ صلى الله عليه وسلم .

فالدعاء الذي علّمه صدِّيق الأُمَّة - رضي الله عنه - ذَكَرَ الأقسامَ الثلاثة:

1 - فإنه قال في أوله: «اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا»، وهذا حال السائل.

2 - ثم قال: «ولا يغفر الذنوب إلا أنت»، وهذا حال المسؤول.

3 - ثم قال: «فاغفر لي»؛ فذكر حاجَتَهُ، وختم الدعاء باسمين مِن الأسماء الحُسنى تناسب المطلوب وتقتضيه، ثم قال ابنُ القيم - رحمه الله -: وهذا القول الذي اخترناه قد جاء عن غير واحدٍ مِن السلف.

قال الحسنُ البصريُّ: «اللهم» مجمع الدعاء.

وقال أبورجاء العطارديُّ: إنَّ المِيمَ في قوله: «اللهم» فيها تسعة وتسعون اسمًا مِن أسماء الله تعالى.

وقال النضر بن شميل: من قال: «اللهم» فقد دعا الله بجميع أسمائه.

- قال ابنُ جبرين (1430هـ) - رحمه الله - في تعليقه على شرح العقيدة الطحاوية:

     هذا الحديث أنكرته المعتزلة، واحتجت به الجبرية، ولكنه حجة لأهلِ الحقِّ وهم أهلُ السنةِ، صحيحٌ أنَّ الله -تعالى- لو عذَّب أهلَ سماواته وأهلَ أرضِهِ لعذَّبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم؛ وذلك لأنَّ ما عملوه مِن الأعمالِ فهو بفضلِهِ، فهو الذي هداهم، وهو الذي أعطاهم، وهو الذي خوَّلهم، وهو الذي سخَّر لهم، إذًا: فإذا عذَّبهم فإنه لابد أنْ يعذِّبَهم على شيءٍ مِن التقصير، حتى ولو كانوا مُؤمنين ومُتقين؛ لأنَّ هذا الإيمان وهذا التقى مَحضُ عطاءِ الله ومَحضُ فضلِهِ. انتهى.

- قال أبوبكر ابنُ المنذر محمد بنُ إبراهيم النيسابوريُّ - ت 319 هـ - في كتابه (الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف) ذِكْرُ الدُّعَاءِ في الصَّلَاةِ.

     قال اللهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر/60) الْآيَةَ، وَثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم  أنه قال: «أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ قَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُم».

فقد نَدَبَ اللهُ -جَلَّ ذِكْرُهُ- عِبَادَهُ إِلَى دُعَائِهِ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السَّاجِدَ بالاجتِهَادِ في الدُّعَاءِ، ولم يَخُصَّ دُعَاءً دُونَ دُعَاءٍ؛ فَلِلْمَرْءِ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ في صَلَاتِهِ بِمَا أَحَبَّ، مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً.

وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم دَالَّةً عَلَى صِحَّةِ هذا القولِ.

وفي قوله: «ثم ليدع ما بدا له»، إباحةُ الدُّعاءِ مِمَّا في القرآن ومِمَّا ليس في القرآن مِمَّا يخاطِبُ بِهِ العبدُ رَبَّهُ مِن أمر دينِهِ ودُنياهُ.

غيرُ جائزٍ حظرُ شيءٍ مِن الدعاء بغير حُجَّةٍ.

وقد رَوينا عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: «إني لأدعو السَّبْعِينَ أخًا مِن إخواني وأنا في الصلاة، أُسَمِّيهُم بأسمائِهم، وأسماءِ آبائهم».

وكان عُروة بنُ الزبير - رحمه الله - يقولُ في سجودِهِ: اللهم اغفر للزبير، اللهم اغفر لأسماء.

وقال الشعبيُّ - رحمه الله -: ادعُ في الصلاةِ بكلِّ حاجَةٍ لكَ.

 ودعا عليّ بنُ أبي طالب - رضي الله عنه - في قُنُوتِهِ، في الصلاةِ، على قومٍ سَمَّاهم.

ودعا أبوعبدالرحمن السُّلَمِيُّ - رحمه الله - على قَطَرِيٍّ (يعني أبا نعامة قطري بن الفجاءة، أحد قادة الأزارقة الخوارج). انتهى.

- قال الحافظُ في «فتح الباري» (11/131-132):

     قال الطبريُّ: في حديث أبي بكر دلالةٌ على رَدِّ قولِ مَن زعمَ أنَّهُ لا يستَحِق اسمَ الإيمانِ إلا مَن لا خَطِيئة له ولا ذنب؛ لأنَّ الصِّدِّيقَ مِن أكبر أهل الإيمان، وقد عَلَّمَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ «إنِّي ظلمتُ نفسي ظُلمًا كثيرًا ولا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت».

    وقال الكرمانِيُّ: هذا الدعاء مِن الجوامِعِ؛ لأنَّ فيه الاعترافُ بغايَةِ التقصيرِ، وطلبَ غاية الإنعام، فالمغفرةُسترُ الذنوبِ ومحوُهَا، والرحمةُ إيصالُ الخيراتِ؛ ففي الأول طلبُ الزحزحة عن النار، وفي الثاني طلبُ دخول الجنة، وهذا هو الفوزُ العظيمُ.

     وقال ابنُ أبي جَمْرةَ ما مُلخصه: في الحديثِ مشروعِيَّةُ الدعاء في الصلاة، وفضل الدعاء المذكور على غيرِهِ، وطلبُ التعليمِ مِن الأعلى، وإنْ كان الطالِبُ يعرفُ ذلك النوع، وخص الدعاء بالصلاة لقولِهِ  صلى الله عليه وسلم : «أقرَبُ ما يكون العبدُ مِن ربه وهو ساجد». وفيه أنَّ المَرْءَ ينظرُ في عبادَتِهِ إلى الأرفع، فيتسبب في تحصيله، وفي تعليم النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر هذا الدعاء إشارةٌ إلى إيثارِ أمر الآخرة على أمر الدنيا، ولعله فُهِم ذلك مِن حال أبي بكر وإيثاره أمر الآخرة، قال: وفي قوله: «ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت» أي: ليس لي حيلة في دفعه، فهي حالةُ افتقارٍ، فأشبه حال المضطر الموعود بالإجابة. وفيه هضمُ النفس، والاعترافُ بالتقصيرِ. انتهى.

- قال ابنُ منده محمد بنُ إسحق بنِ محمد بنِ يحيى أبوعبدالله العبديُّ الأصبهانيُّ، المُتوفى سنة 395 هـ، في كتابه: (التوحيد ومعرفة أسماءِ الله عزَّ وجلَّ وصفاتِهِ على الاتفاقِ والتفرُّد):

ومِن أسماءِ اللهِ عزَّ وجلَّ: الْغَفُورُ، وَالْغَافِرُ، وَالْغَفَّارُ، قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {غَافِرُ الذَّنْبِ} (غافر: 3)، وقالَ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ} (طه: 82).

قالَ أهلُ التَّأْوِيلِ: مَعْنَاهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ: السِتير، والعَفْوُ، والتَّغْطِيَةُ علَى الشَّيْءِ، ومِنهُ المِغْفَرُة.

- قال الشيخ ابنُ عثيمين -رحمه الله- في شرح هذا الحديث في (شرح رياض الصالحين) (6/33-34):

أفهم مَن السائلُ ومَن المسؤولُ؟

السائِلُ أبو بكر، والمسؤولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحبُّ الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أبوبكر.

والرسولُ صلى الله عليه وسلم أحبُّ الناس إلى أبي بكر لاشك، فالسؤالُ مِن حبيبٍ إلى حبيبِهِ، فلابد أنْ يكونَ الجوابُ مِن أفضل الأجوبة.

وقولُهُ: «في صلاته»: يُحتملُ في السجود أو بعد التشهد الأخير.

قال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة مِن عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم»: هذا دعاءٌ جامعٌ نافعٌ.

«اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا»: وهذا اعترافٌ مِن العبد بالظلمِ، وهو

 مِن وسائل الدعاء، يعني: أنَّ ذكرَ

الإنسانِ حالَهُ إلى ربِّهِ -عزَّ وجلَّ- تتضمن الدعاء، فهو وسيلةٌ، كما قال موسى -عليه السلام-: {ربّ إنِّي لِمَا أنزلتَ إليَّ مِن خيرٍ فقير}، فتوسل إلى الله بحاله.

     «ولا يغفر الذنوب إلا أنت»: هذا ثناء على الله - عزَّ وجلَّ -، واعتراف بالعجز وأنه لا يغفر الذنوب إلا الله، كما قال تعالى: {ومَن يغفرُ الذنوبَ إلا الله}، لو اجتمع الناسُ كلُّهم على أنْ يغفروا لك ذنبًا واحدًا ما استطاعوا، وإنما الذي يغفر لك هو الله - عزَّ وجلَّ -.

وقوله: «اغفر لي مغفرة مِن عندك»: أضافها إلى الله؛ لأنَّها تكون أبلغ وأعظم، فإن عِظم العطاء مِن عِظم المُعطي.

(وارحمني): في المستقبل، وفقني إلى كلِّ خير.

     (إنك أنت الغفور الرحيم): هذا توسل إلى الله - عزَّ وجلَّ -، باسمين مناسبين للدعاء ؛ لأنه قال: «اغفر لي وارحمني»؛ فالمناسب «إنك أنت الغفور الرحيم»، فينبغي للإنسانِ أنْ يقولَ هذا الدعاء في صلاته، إمَّا في سجوده، أو بعد التشهد الأخير، والله الموفق. انتهى.

- وقال الشيخُ صالح بنُ عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ - حفظه الله - في شرح هذا الحديث في دروس له أُلقِيتْ، ثم طبعت باسم «التمهيد لشرح كتاب التوحيد» (الطبعة الأولى بدار التوحيد سنة 1424 هـ، ص/490-491):

فالواجِبُ إذًا على العبدِ أنْ ينسِبَ النِّعَمَ جميعًا لله، وأنْ يَشْعُرَ بأنَّهُ لا يستَحِقُّ شيئًا على الله؛ وإنما اللهُ هو المستَحِقُّ للعبودِيَةِ، وهو المستحِقُّ للشكر، وهو المستحِقُّ للإجلالِ، والعبد فقير مذنب مهما بلغ. وانظر إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه كيف علمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول في آخر صلاته: «اللهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ، فاغفر لي مغفرةً مِن عندكَ، وارحمني إنَّكَ أنتَ الغفورُ الرحيمُ».

إذا كان أبوبكر علَّمَهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم أنْ يدعُوَ بهذا الدعاء، فكيف بحال المساكين أمثالنا، وأمثال أكثر هذه الأمة؟ وكيف يظنون في أنفسهم أنهم يستحقون على الله شيئًا؟!

     فتمامُ التوحيد إذًا أنْ يُجِلَّ العبدُ ربَّهُ -تبارك وتعالى- ويعظمَهُ، وألا يعتقد أنَّهُ مُسْتَحِقٌّ للنِّعَمِ، أو أنه أُوتِيها بجهدِهِ، وجهادِهِ، وعملِهِ، وذهابِهِ ومجيئِهِ، بل هو فضلُ الله يؤتيه مَنْ يشاء والله ذو الفضل العظيم؛ لأنَّ فعلَ العبدِ سببٌ، وهذا السببُ قد يتخلفُ، وقد يكون مُؤثِّرًا، ثمَّ إنَّهُ إذا أثَّرَ فلا يكون مُؤَثِّرًا إلا بإذنِ الله - جلَّ وعلا - فرجعَ الأمرْ إلى أنَّهُ فضلُ الله يؤتيه من يشاء. انتهى.

قلت: هذا بفضل الله وبمِنَّته آخر ما كتبتُ بعُنوان: «سَبِيلُ التَّأَسِّي بدراسَةِ حديثِ اللهُمَّ إنِّي ظلمتُ نَفْسِي»، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك