رَمَضانُنا… وَوباء كورونا؟
بينما الصحابة يصلون الفجر فوجئوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكشف ستار حجرته، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، وما هي إلا لحظات حتى ذُهلت المدينة بأكملها وكأن صاعقة نزلت بهم حين سمعوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مات، فصار منهم من ينكر موت النبي - صلى الله عليه وسلم-، ومنهم من يتساءل: كيف مات النبي - صلى الله عليه وسلم ؟! ومن سيصلِّي بنا ويشوِّقنا للعبادة؟ ومنهم من اضطرب حاله واختلط عليه، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام.
حتى وقف الصديق -رضي الله عنه- موقفه، فبيَّن الحقيقة بقوله: «ألا من كان يعبد محمدًا - صلى الله عليه وسلم- فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت»، إذًا دوام الحال من المحال، وللمؤمن بالله أحكامه وسلوكه مع كل حال.
ما أشبه الليلة بالبارحة!
وما أشبه الليلة بالبارحة! فقد كان المسلمون في كل رمضان يغدون ويروحون إلى المساجد ويعمرونها بالصلاة وقراءة القرآن ووجوه الخير، ولكن تغير الحال في هذه السنة مع إغلاق المساجد وإلزام الناس بالمكوث في البيت، ودخل علينا شهر رمضان، وفي هذا الشهر سينكشف من كان يعبد الله الحي القيوم ممن كان يعبد الله -سبحانه وتعالى- لحظوظه النفسية، فأما الحظوظ النفسية فهي زائلة، والله -تعالى- هو الحي والأول والآخر والظاهر والباطن، لا يحول ولا يزول، فماذا سيكون حالك في هذا الامتحان الذي نعيشه في هذا الشهر؟
وهل سيتبسَّم النبي - صلى الله عليه وسلم- ويفرح إن رأى حالنا كما تبسَّم حين رأى الصحابة قبل وفاته؟
وكيف نفعل في هذا الشهر مع وباء كورونا؟
وكيف يمكن للمرء المسلم استثمار شهر رمضان مع ظروف الوباء؟
في هذه الورقة سنتناول هذه القضايا، ونجيب عن هذه الأسئلة.
لمن هذا الخطاب؟
من بدائع ديننا الحنيف أنه يجعل لكل زمان عباداته وشعائره، ولكل مكان وحال أحكامه وفروضه، فما يجب في السفر ليس بالضرورة أن يكون واجبًا على المرء في الحضر، وما يجوز في حال الصحة والعافية قد يحرم في حال المرض والوباء، وهذا من شمول ديننا الحنيف وصلاحه لكل ظرف وكل زمان ومكان.
وانطلاقًا من هذا المبدأ فإننا نحدد المقصود بالكلام في هذه الورقة، وهم الأصحاء المتعافون الماكثون في البيوت؛ بسبب الحجر المنزلي الذي فرضته السلطات في أغلب الدول في الوقت الحالي.
استثناء المرضى
ولسنا بحاجة إلى استثناء المرضى وغيرهم من أصحاب الظروف والأعذار، وقد استثناهم الله -سبحانه وتعالى- في آية الصيام فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 183، 184)، بل كرر المولى -سبحانه وتعالى- إعذار المرضى في الآية التالية لهذه الآية؛ فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185).
ظروف الإنسان وأحواله
وكما تدلنا هذه الآيات على عناية الدين الإسلامي بظروف الإنسان وأحواله، وتفصيل الأحكام والشعائر بحسب ما تقتضيه مصلحة الإنسان, ويتناسب مع ظروفه، فهو كذلك يدلنا على جانب مهم يكون تحقيقه أهم وأولى ونحن نعيش ظروف وباء كورونا، وهو ما سنبدأ به العبادات في الفقرة اللاحقة.
كيف نستقبل رمضان مع وباء كورونا؟
سيدُ الشُّهور
رمضان سيدُ الشُّهور؛ فأيامه شامة في جبين الدهور، ولياليه غُرَّة في العصور، تتوق إليه القلوب، ويحل فيها بقدومه السرور، وفيه تؤوب النفوس إلى ربها وتحور، وتشدو فيه أصوات القائمين بالقرآن، وبالصوم يزدان وأُعْطيات الخير تدور، ويُدحض الشيطان وأهل الباطل والزور، والناس في رمضاننا بين خضوع وخشوع ودموع في الخدور، بعد أن غدت عبادتهم خلف الستور.
النفس لا تستقر على حال
وفي رمضاننا حزنت بعض القلوب على فراقها كثيرًا مما اعتادته في سابق عهدها, من: حضور الصلوات في الجماعة، وترداد أصوات القراءات، واجتماع المسلمين على موائد الخير والذكر وتلاوة القرآن، وإفطار الصائمين وإطعام الجائعين وغير ذلك، وهنا لابد من معرفة أن النفس البشرية لا تستقر على حال واحدة، بل لها أحوال وصفات متعددة، كما ورد ذلك في كتاب الله -سبحانه وتعالى-؛ فالله -سبحانه وتعالى- ذكر النفس المطمئنة فقال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (الفجر: 27)، وأقسم -سبحانه وتعالى- بالنفس السوية فقال: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} (الشمس: 7)، كذلك أقسم بالنفس اللوامة فقال: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (القيامة: 2)، والمقصود هنا أن الإنسان الذي يأتي بالطاعة والعبادات في رمضان وهو يكابد نفسه عليها ويجاهد نفسه عليها، مع حرمانه من المساجد وأماكن العبادة والاجتماع مع الناس وحرمانه من كثير من حظوظ النفس، هو خير من الذي يأتي بالعبادات لحظوظ نفسه، ومن هنا ينبغي أن يكون رمضان هذا العام أفضل من غيره من السنوات الأخرى، فهو يظهر العبودية الحقيقية لله وليس للرغبات النفسية، ويتضح ذلك إذا عرفنا أن نفس الإنسان مع العبادة على مراتب:
- من يأتي بها لحظوظ نفسه وما يجده في العبادة من الراحة والطمأنينة والسكينة التي تُواتي نفسَه، وهذا أدنى المراتب، وغالبًا ما يحصل للمرء باجتماعه مع الناس في المساجد وحضوره إليها.
- من يأتي بها وهو يكابد نفسه على فعلها والإتيان بها على أكمل وجه، وهذه مرتبة أعلى من التي قبلها، وهذا هو الحال الذي تحدَّثنا عنه سابقًا.
- وهناك مرتبة أفضل وأعلى، وهي من كابد نفسه على الإتيان بالعبادة وطاعة الله -سبحانه وتعالى- حتى صارت العبادة سجية له، فيتلذَّذ بالعبادة، وهذا أعلى المراتب الماضية كلها.
المقصد الشرعي من الصوم
يقول الطاهر ابن عاشور: «إذا كان المقصد الشرعي من الصوم ارتياض النفس على ترك الشهوات وإثارة الشعور بما يلاقيه أهل الخصاصة من ألم الجوع، واستشعار المساواة بين أهل الجدة والرفاهية وأهل الشظف في أصول الملذات بين الفريقين من الطعام والشراب واللهو، فلماذا اختلفت الأديان الإلهية في كيفية الصيام؟ ولماذا التزمت الديانة الإسلامية في كيفيته صورة واحدة، ولم تكل ذلك إلى المسلم يتخذ لإراضة نفسه ما يراه لائقا به في تحصيل المقاصد المرادة؟!
شأن التعليم الصالح
قلت: شأن التعليم الصالح أن يضبط للمتعلم قواعد وأساليب تبلغ به إلى الثمرة المطلوبة من المعارف التي يزاولها، فإن معلم الرياضة البدنية يضبط للتعلم كيفيات من الحركات بأعضائه وتطور قامته انتصابا وركوعا وقرفصاء، بعض ذلك يثمر قوة عضلاته، وبعضها يثمر اعتدال الدورة الدموية، وبعضها يثمر وظائف شرايينه، وهي كيفيات حددها أهل تلك المعرفة، وأدنوا بها حصول الثمرة المطلوبة، ولو وكل ذلك للطالبين لذهبت أوقات طويلة في التجارب، وتعددت الكيفيات بتعدد أفهام الطالبين واختيارهم، وهذا يدخل تحت قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185)... فمشروعية الصيام وإن كانت تلوح في صورة المشقة والعسر، فإن في طيها من المصالح ما يدل على أن الله أراد بها اليسر، أي: تيسير تحصيل رياضة النفس بطريقة سليمة من إرهاق أصحاب بعض الأديان الأخرى أنفسهم».
إغلاق المساجد
وحزن المسلمين وتأثرهم بإغلاق المساجد وإن كان يبدي لنا قوة محبتهم لهذه الشعائر الظاهرية، إلا أن شيوعه قد يؤثر على المسلمين من الناحية السلبية، فينتج عنه التكاسل والتخاذل عن عمل الخير والتسابق إلى الخيرات في شهر الخير والتقوى والإيمان، ولذا سنذكر بعض الأمور التي يمكن للمسلم التنافس فيها في هذا الشهر الفضيل، ومن أهم هذه الأمور:
تحقيق التقوى
تحقيق التقوى؛ فالتقوى أساس الدين، ولا حياة سعيدة إلا بها، بل إن الحياة بغيرها لا تُطاق، فهي أدنى من حياة البهائم، فليس صلاحٌ للإنسان إلا بالتقوى، والمتأمل في القرآن يجد أن كثيرًا من الخير عُلِّق بها، وجملة من الثواب الجزيل منوط بها، وكمٌّ كبير من السعادة مضاف إليها، قال القرطبي عن التقوى في قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (النساء: 131): «الأمر بالتقوى كان عاما لجميع الأمم»، وقال بعض أهل العلم: هذه الآية هي رحى آي القرآن كله؛ لأن جميعه يدور عليها، فما من خير عاجل ولا آجل ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله سبيل موصل إليه, ووسيلة مبلّغة له، وما من شر عاجل ولا آجل ولا ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله -عز وجل- حرز متين, وحصن حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره، وفي آية الصوم المذكورة آنفا إشارة مهمة إلى عبادة عظيمة يستطيع المرء البلوغ إلى كمالاتها مع ظروف الوباء وضرورة المكوث في البيوت، وهو في قوله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183)، وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع، وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه، فهذه غاية الصيام، وهي غاية كثير من العبادات والأعمال العظيمة، فالصوم وخلوة الإنسان وانصرافه عن الشواغل والصوارف من أهم ما يعين الإنسان على تحقيق هذه العبادة الجليلة.
لاتوجد تعليقات