رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 7 أغسطس، 2018 0 تعليق

روائع الوقف على إطعام الطعام

 

قال -تعالى-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}(الإنسان: 8)، وقال رسول الله[: «أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلُّوا والنّاس نيام، تدخلوا الجنّة بسلام»، وقد كان هذا كافياً ليحرِّك الأمّة الإسلاميّة، وهي الأمّة المرحومة، وأمّة الرحمة، إلى أن يتسابق أبناؤها إلى إطعام الطّعام والتنافس فيه والوَقْف عليه، وهذا النّوع من الأوقاف لا يمكن أن يُحصى ولا يُستقصى؛ لأنّ جُلَّ المرافق الموقوفة لم تكن خاليةً من الإطعام على وجه الخير والاحتساب، باعتبار ذلك جزءاً لا يتجزأ من مظاهر التكريم والإعانة والصدقة.

 

أما إذا تحدّثنا عن الأوقاف خصِّيصًا على وجه الإطعام وحده فيمكننا أن نورد بعض النماذج، وقد اتخذ الوقْف على إطعام الطعام ثلاثة أشكال، وهي:

الإطعام الدّائم، أي: على مدار العام.

الإطعام في المناسبات الدينية، كشهر رمضان، والعيدَيْن.

شراء الطّعام وتوزيعه على بيوت الفقراء والمحتاجين من غلّات أوقافٍ وُقفت لهذا الغرض.

 ومن أمثلة هذا الباب:

وقف تميم الدّاري

     هو من أقدم هذه الأوقاف وأشهرها، وهو في مدينة الخليل بفلسطين، وقد شمل أربعة قرى، هي الخليل، والمرطوم، وبيت عينون، وبيت إبراهيم، وكان مدخول هذا الوقف يستعمل عادة في توفير الحساء والخبز للمحتاجين والفقراء وعابري السبيل، حتى صارت مدينة الخليل لها لقبٌ تُعرف به إلى اليوم، وهو: المدينة التي لا يجوع فيها أحد!.

     قال محمد بن أحمد المقدسي البشاري -وهو يصف المسجد الأقصى وما حوله-: «وحَبْرَى هي قرية إبراهيم الخليل -عليه السلام- فيها حصنٌ منيعٌ يزعمون أنّه من بناء الجنّ، من حجارة عظيمة منقوشة وسطه قبّة من الحجارة الإسلاميّة على قبر إبراهيم، وقبر إسحاق قدّام في المغطّى، وقبر يعقوب في المؤخّر، حذاء كلّ نبيّ امرأته، وهذه القرية إلى نحو نصف مرحلة من كلِّ جانب قُرى وكروم وأعناب وتفّاح يسمّى جبل نضرة، لا يُرى مثله ولا أحسن من فواكهه، عامّتها تُحمل إلى مصر وتُنشر، وفي هذه القرية ضيافة دائمة وطبّاخ، وخبّاز، وخُدّام مرتّبون يقدّمون العدس بالزيت لكلّ من حضر من الفقراء، ويُدفع إلى الأغنياء إذا أخذوا، ويظنّ أكثر النّاس أنّه من قُرى إبراهيم، وإنّما هو من وقْف تميم الداريّ وغيره، والأفضل عندي التورّع عنه».

تكيّة خاصكي سلطان

     خاصكي سلطان هو أحد الألقاب السلطانيّة التي كانت تحملها الزوجة الأكثر حظوة عند السلطان في دولة الخلافة العثمانيّة، وأوّل من حمله (روكسلانا) زوجة السلطان سليمان القانوني. وقد أوقفَت المذكورة -رحمها الله- تكيّةً في مدينة القدس التي نالت عنايةً كبيرةً من الخلفاء العثمانيين، فضلا عن الحرمين  الشريفين؛ فكانت هذه التكيّة من أهمّ المنشآت الخيريّة التي تقدّم الطعام حسبةً في المدينة، وهي بجوار المسجد الأقصى المبارك، وما زالت هذه التكيّة تقدّم خدماتها الخيريّة إلى يومنا هذا. وقد كانت في القرن العاشر الهجري تتألّف من مبانٍ عدّة ضخمة، لم يبق منها اليوم إلا القليل، ولكنها ما زالت تعمل.

تكيّة السلطان سليم بدمشق

     بناها السلطان العثماني سليم خان عام 922هـ، وأوقف عليها أوقافاً دارَّةً، وظلّت تؤدِّي عملها في إطعام الفقراء إلى الوقت الحاضر، حتى ضُمَّ ما بقي من أجزائها إلى معاهد جامعة دمشق، وقد وصفَهَا ووصف قيامَها بوظيفتها الدكتور إدوارد روبنسون، الذي رآها سنة 1838م، ولم تقتصر هذه التكيّة على الإطعام فقط، بل كانت تُعقد فيها بعض الدّروس وحِلَق العلم، ودُرِّس فيها كتاب (الشِّفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض.

التكيّة السليمانيّة

     هي من صنائع السلطان سليمان القانوني بدمشق، اشترط في حجّة وقفها أن يوفّر فيها الدقيق والطعام، ويُطعم منها ثمانمائة مسكين عائلٍ صباحاً، ومثلهم مساءً، وقد وصفها الكثيرون بحُسن البناء والعمران والإبداع الهندسي، وبأنّها كانت لها منارة عظيمة مرتفعة يأنس بها المسافر.

وقْف عشاء الصُّوَّام

     هو وقْف على إفطار الصائمين من أهل مسجد القويع، غربيّ مدينة بريدة في شمال المملكة العربية السعوديّة، وهو عبارة عن أرض قد حُدِّدت حدودها في وثيقة الوقْف، تبلغ مساحتها 889 متراً مربّعاً و30 سنتيمتراً مربّعاً، ولم يُذكر اسم الواقف، لكن الغرض من وقفها هو الإنفاق على إفطار أهل المسجد.

وقْف عيدة بنت سلمان بالكويت

امرأة فاضلة، أوقفت بيتها الكائن في فريج العوازم، وحظوراً، على طعام وأضحيات للفقراء والمحتاجين، ونحو ذلك من وجوه الخير؛ مما يعود نفعه عليها بعد موتها، وذلك في عام 1253هـ/ 1837م.

وقْف السّمك

     في تونس، وُجد وقْفٌ خاصٌّ بشراء نوعٍ نادرٍ من السّمك، لا يتوفّر إلا في فترة محدودة جدًّا من العام، بالتالي فلا يكون قادراً على شرائه والتمتُّع به إلا الأغنياء؛ فكان من روائع الواقفين في الغوص إلى نفوس الفقراء وتلمُّس احتياجاتهم، أن وَقَفَ بعضُهُم وقْفاً ليُشترى به هذا النوع من السمك للفقراء؛ فيستوي بذلك الفقراء والأغنياء، حتى في هذه!

وقف قفّة الخبز في بيروت

     من أجمل الأوقاف الخيريَّة التي وُجدت في بيروت في العصر العثماني، وقف (قُفَّة الخبز)، وهو وقف خيري أُقيم لغرض اجتماعي إنساني، وكان موقعه في باطن بيروت، وله دكّان خاصٌّ تُوضع فيه قُفَّة مليئة بالخبز في كل يوم جمعة؛ حيث يقصدها المُعْوِزُون والفقراء والمساكين القاطنون في بيروت من مختلَف الطوائف؛ فيوزِّع متولِّي قُفَّة الخبز عليهم؛ فيأخذ كل منهم حاجته وينصرف دون سؤال أو إذلال، وقد كان لهذه القُفَّة أوقافٌ عديدة وبعض العقارات والمخازن، التي يعود ريعها ووارداتها لصالح (قُفَّة الخبز) هذه.

الوقف على تجهيز الموتى ودفنهم

     خُصِّص ريع جملةٍ من الأوقاف في العالم الإسلامي، في أكثر من بقعة منه على تجهيز الموتى من فقراء المسلمين، الذين لم تكن لهم تركةٌ يُجهّزون منها، وليس حولهم من ينهض بجهازهم حسبةً لله أو وجوباً، ومن أشهرها: (وقف الطرحاء) الذي وَقَفَه الظاهر بيبرس -رحمه الله-، وقد كان لتغسيل فقراء المسلمين وتكفينهم ودفنهم، وممّن تولّى نظارته في بعض المراحل: القاضي بدر الدين العيني الحنفي، صاحب (عمدة القاري بشرح صحيح البخاري) وفي الجملة؛ فقد كان هذا النوع من الأوقاف مشهوراً بين سلاطين المماليك ووجهاء دولتهم.

«الموتى من فقراء المسلمين كانوا يُحملون إلى مغاسل ليغسلوا فيها حسب الشريعة، ويتم تجهيزهم بها للدفن من ريع الوقف الموقوف عليها، ثم يصلى عليهم صلاة الجنازة في مصلاة صغيرة ملحقة بها، خصصت غالباً للصلاة على الأموات  عند تشييع الجنائز.

     وتتكوّن المغاسل عادة من عمارة كبيرة تضمّ مغسلاً للموتى ينقسم قسمين، أحدهما خاص بالرجال، والآخر خاص بالنساء، فضلاً عن حواصل أو مخازن لحفظ محتويات المغسل والأدوات المستخدمة في تجهيز الموتى، أما المصلّاة الملحقة بالمغسل؛ فكان بها ميضأة بها فُسْقية للماء، فضلاً عن حوض لسقي دواب المشيعين!

     وقد وجد بالقاهرة في القرن التاسع الهجري -الخامس عشر للميلاد- ما يزيد على خمس عشرة من هذه المغاسل والمصليات، وجرت العادة أن تقوم هذه المغاسل والمصليات في أطراف المدينة أو خارج أبوابها، لتكون على مقربة من القَرَافَات التي تقوم خارج أسوار المدينة»، ولم يزل وقف الأراضي لتُتَّخذ مقابر ومدافن للمسلمين سارياً في حياة المسلمين إلى يوم الناس هذا، يفعلونه ويحتسبون أجره على الله -عز وجلّ-.

تأصيل فقهيٌّ

ممّا جوّز الحنفيّة وقْفَه لجريان العادة بذلك، واستقرار العُرف عليه، الوَقْف على ثياب الجنازة، وما يُحتاج إليه في غسل الميت من الفأس والقَدُوم والقدور والأواني.

الوقْف على المقابر

     والمقصود به وقْف الأرض لتكون مقبرةً لموتى المسلمين، وهذا كثيرٌ شائعٌ جدًّا لا يأتي عليه حصرٌ، وما زال النّاس يفعلونه إلى اليوم؛ لأنّ الحاجة إليه لا تنتهي، وسُنّة الله في عباده بالموت والبِلَى لا تتوقّف، وهذه صورةٌ مشروعةٌ من الوقْف على المقابر بالإجماع، أمّا غير ذلك من الوقْف على القبور للزراعة عليها، ورفعها والقراءة عندها أو إضاءتها؛ فكلُّ ذلك ليس من وجوه الطاعات، بل هو من البدع المنهيّ عنها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك