رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 2 مايو، 2018 0 تعليق

روائع الأوقاف في إنشاء المؤسسات التعليمية وإعمارها ورعايتها

كان للأوقاف دور مهم في مقوّم أساس من مقوّمات الحضارة ألا وهو التعليم، سواء في الكتاتيب أم المدارس؛ فالأوقاف هي التي ثبّتت أركان المدرسة، ودعمت نظامها، ومكّنتها من القيام برسالتها، «وكان الريع الذي تغلّه الأعيان الموقوفة على المدرسة شهرياً أو سنوياً، نقداً أو عيناً، هو الضمان لاستمرار العمل بالمدرسة؛ حيث تدفع منه مرتبات أرباب الوظائف بالمدرسة والطلبة حسب شرط الواقف».

والمدقق في تاريخ الحضارة الإسلامية يجد أنها من حيث بناؤها النظامي قد نهضت على ركيزتين، وبُنِيَت على قيمتَيْن، وهما: العلم والعدل، وقد مثّلتهما في حقبة ممتدة من التاريخ الإسلامي، المدارس ومؤسسة القضاء، وقد انتفعت هاتان المؤسستان أيّما انتفاع بالأوقاف التي خُصّصت لهما، تحقيقاً للاستقلال والنزاهة والكرامة.

أوّلاً: المدارس والكتاتيب

إنّ المتتبّع لتاريخ أمصار الإسلام منذ القرون الإسلاميّة المبكّرة، يجد -وبلا مبالغة ولا تهويلٍ- أنّ المؤسّسات التعليميّة التقليديّة وهي المدارس الشرعيّة والكتاتيب، كانت تقومُ حقًّا مقام الكليّات والجامعات والمعاهد في وقتنا الحاضر، بما في الكلمة من معنى، ولا تنقصُ عنها شيئًا، بل قد تزيدُ!

إنّ النّظام الذي كان متّبعاً في المدارس الإسلاميّة، في إدارتها وتمويلها وتنظيمها، وأُسس تقييم الطلّاب والمدرّسين، والروح التي كانت سائدةً فيها، من الانتماء إلى العلم وتسخير كلّ الطّاقات من أجل تحصيله، يُنبئ عن مستوى الرقيّ الحضاريّ الذي سبقَت فيه الأمّة الإسلاميّة غيرها بقرونٍ طويلة جدًّا.

المدارس الشرعية

     ونحن عندما نقول: المدارس الشرعيّة؛ فإنّه يُخطئ من يظنّ أنّ هذا الوصف ينصرف فقط إلى أماكن كانت تُدرس فيها العلوم الشرعيّة فقط، بل قد كان فيها إلى جانب ذلك علوم الطِّبِّ، والتاريخ، والجغرافيا، والفلك، والمنطق والفلسفة وغير ذلك، حتى كانت توفّر لروّادها إشباعاً علميًّا ومعرفيًّا لا مزيدَ عليه، ولا غاية بعدَه؛ ولذا لم يكن عجباً أن كانت هذه المدارس منتجاً للعلماء، وحاضناتٍ لهم، ومصدِّراً للدُّعاة والمُفتين والقُضاة والمحتسبين، ورافداً بالأكفاءِ لكلِّ مجالات الحياة الإسلاميّة.

     اعتنى المجتمع الإسلاميّ بأطيافه ومستوياته الاجتماعيّة كلها بهذه المدارس الشرعيّة والكتاتيب عناية ممكنة، وتفنّن المسلمون في ابتكار أفكارٍ لخدمتها ووسائل لديمومتها؛ فتفتّقت الأذهان عن أنماطٍ وقفيّة على إعمارها وتوفير أدواتها وخدمة روّادها، تُعدُّ بحقّ، روائع حضاريّة، بل منعطفات حقيقيّة في التاريخ الإنسانيّ كلّه، في مجال خدمة العلم والعلماء، في جانب سدّ احتياجاتهم العلميّة والإنسانيّة، والحفاظ على تفرّغهم للقيام بما لا يُحسنه سِواهم.

وقد شارك في هذه الابتكارات على مستوى العمل الإنسانيّ، أطياف المجتمع المسلم كله من علماء وأمراء ووزراء ومقاتلين، وكذلك من عامّة النّاس، حتى من الفقراء.

التفرغ التام

ولعلّ من أهمّ آثار الأوقاف في هذا الجانب بحقّ، التفرّغ التامّ الذي توفّر للعلماء، نتيجةً لضمان أرزاقهم من غلّات الأوقاف، وما يلحق ذلك من صفاء الذهن، والاستقلاليّة الماليّة التي تستتبعُ الاستقلاليّة الفكريّة بلا أدنى شكّ؛ بحيثُ كان المخدومُ بكلّ هذا العطاء هو دينُ الله حقًّا وصدقاً، بعيداً عن أيّ أغراضٍ أو مآرب أو شوائب.

وما تفرُّغ النّوويّ وعزّ الدِّين بن عبدالسلام من العلماء، وابن النّفيس وأبي بكر الرّازي من الأطبّاء، إلّا مجرّد أمثلةٍ يسيرةٍ على ما نقول، وهل نبحث عن دليلٍ أكثر من أن يعيش أحمد بن ثبات الهماميُّ الواسطيُّ في المدرسة النّظاميّة ببغداد أربعين عاماً؟! وهو جمالُ الدّين أبو العبّاس أحد قُضاة الشافعيّة، عالمٌ بالحساب والفرائض.

رعاية طالب العلم

     ورعَت الأموالُ الوقفيّة بسياستها الماليّة الرائعة الواضحة، وتوجُّهات الواقفين السامية وتطلُّعاتهم التي أكّدوا عليها في شروطهم، الفردَ المسلمَ الذي يطلب العلمَ من طفولته المبكّرة وهو يخطو أولى خطواته إلى الكتّاب، يتعلّم حروف الهجاءَ وكيفيّة النُّطق بها، إلى أن يُوارى في لحده، بل امتدّت في كثيرٍ من الأحيان بركاتُهَا إلى رعاية أهله وزوجاته وأولاده من بعده، ترغيباً في التوجُّه إلى العلم، وشرحاً لصدور الذين بذلوا أنفسهم من أجله، وهجروا اللّذات والصّنائع والمكاسب حرصاً عليه وتقديراً لأهميّته.

وقد سجّل الرحالة الكبير ابن جبير في رحلته المشهورة انفعالاته ومدى انبهاره بكثرة المدارس والكتاتيب في القاهرة والشام، ومثله فعل ابن بطوطة كذلك، وهو انطباع ظاهر لا يفارق سطور الرّحلتَيْن، وسيأتي نقل بعضه.

ونحن نقول هنا -ونحن نحاول نقل صورة كليّة عن الحياة الإسلاميّة في العصور السابقة عن طريق نقل هذه النُّبَذ-: إنّ مجّانيّة التعليم التي يتشدّق بها الغربُ اليوم، الذي تتحدّث عنها الدّول المشرقيّة كأنها من الأمانيّ التي لا تُنال، قد كانت محقّقة في العالم الإسلاميّ في طوله وعرضه بأموال الأوقاف، ومحمولةً على أكتاف أهل الخير.

     وكلُّ الباحثين والمؤرخين قد اتفقوا على أنّ المدارس والرُّبط والخوانق والكتاتيب، لم تكن يُنفَق عليها إلّا من أموال الأوقاف، التي على الرغم من ضخامة المشروع العلميّ منها أحياناً فقد كانت غِلال أوقافه تزيد عن حاجته أضعافاً، في أمّةٍ استولت على أذهانها هدايات كتابها العزيز، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(الحج: 77).

ولعلّ العرضَ المختصر الآتي لبعض الأمثلة يوضّح المزيد ممّا أردنا قولَه، وقصدنا إلى إحيائِه والتّذكير به.

المدرسة الحلّاويّة (الحَلَويّة) بحلب

أنشأها الملك العادل نور الدين زنكي -برّد الله مضجعه- عام 543هـ في حلب، ولا يبدو أنّ ثمّة مدرسة اشتُقَّ اسمُها من بعض لطائفِ عطائِها كما هو الحال مع هذه المدرسة.

«وقد شَرَطَ الواقف أن يُحمل للمدرسة في كلِّ رمضان من وَقْفِها ثلاثة آلاف درهمٍ، يُصنع بها للفقهاء طعامٌ، وفي ليلة النصف من شعبان يُصنع حلواء معلومة، وفي الشتاء ثمن بياض، لكلِّ فقيه شيء معلوم، وفي أيّام شرب الدّواء من فصلي الربيع والخريف ثمن ما يُحتاج إليه من الدّواء والفاكهة، وفي المواليد أيضاً الحُلْو، وفي الأعياد ما ينفقونه دراهم معلومة، وفي أيام الفاكهة ما يشترون به بطيخاً ومشمشاً وتوتاً».

     نعلمُ بطبيعة الحال أنّ كثيراً من أهل الأموالِ يقدرون على فعل أضعاف ذلك مرةً أو مرّتين، لكن مكمن اختصاص هذه الأمّة الذي لا يدركها فيه أحد، هو أن يقوم الواقفُ باشتراطِ ذلك، ويجعله في وثيقة الوقف، الأمر الذي يدلُّ على أنّه يتعبَّد ربَّه -تبارك وتعالى- بالترفيه عن أهل العلم والتوسعة عليهم إلى هذا الحدّ الذي يضاهي ما يكون في قصور الملوك، ويتقرّب إلى الله بهذا التكريم لحُماة الشريعة، وأنصار علم الكتاب والسنة، وحملة الفقه، ويرجو ثوابَ ذلك في الآخرة، ولا يرتابُ أحدٌ في أنّ هذا الحبّ للعلم لا يعدلُه شيءٌ وقع في غير أمّتنا من الأمم.

     وقد أراد البابيُّ أن يتكلّم على الأوقاف التي وُقفت على هذه المدرسة؛ فقال: «إنّ الكلام على أوقافها مفصّلًا ممّا يطول شرحُه؛ بحيث لو ذكرنا كلَّ مسقَّف أو أرضٍ وأتبعناهما بحدودهما لاستغرق ذلك مجلَّدًا على حِدَتِه؛ ولذا اكتفينا بإيراد إجمالٍ في هذا المعنى، استخلصناه من دفترَيْن وقَعَا إلينا، مفتتحٌ أحدُهما بما نصُّه: بيان أحْكَارِ بيوتِ ودكاكينَ وبساتينَ أوقافِ المدرسة الحلّاويّة الكائنة بمدينة حلب»! ثمّ سَرَدَ ما تيسَّرَ، يسَّرَ الله لهذه الأمّة أمثال تلك الهمم.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك