رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى مال الله فرج 7 يونيو، 2018 0 تعليق

روائع الأوقاف الإسلامية في الرعاية الصحية

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أصبح منكم مُعَافًى في جسده، آمناً في سِرْبِه، عنده قُوت يومه فكأنّما حِيْزَت له الدنيا»؛ ففضلُ العافية لا يعدلُه شيء، وربّما لا يبصرُه حقًّا إلّا من فقدها، وقد جاء في الشّرع المبارك أنّ من الأذكار الراتبة في صباح كلِّ يومٍ ومسائه قولُ المسلم: اللهمّ عافني في بدني، اللهمّ عافني في سمعي، اللهمّ عافني في بصري، لا إله إلا أنت، وكلُّ ما جاء من التشريعات الإسلاميّة، من إباحة التداوي، والنهي عن الإفراط في الطّعام، والمنع من كلِّ ما قد يفضي إلى إلحاق الضَّرر بالبَدَن، إنّما يصبّ في صالح حفظ صحّة الإنسان، وهو الأمر المعبَّر عنه في علم المقاصد الشرعيّة بحفظ النّفس.

 

رعاية منزليّة

     نصّ السّلطان المنصور قلاوون في وثيقة وَقْفه لهذا المستشفى، على أن تمتدّ الرّعاية الصحيّة إلى المرضى الفقراء في بيوتهم! ويُصرف لهم ما يحتاجون إليه من الدّواء، بشرط عدم التضييق على المرضى الذين في البيمارستان؛ فبلغ عدد الذين يُعالَجون في بيوتهم، حتى رصَدَ ناظرُ البيمارستان في سجلّاته في فترة من الفترات، أكثر من مائتي مريض يُعالَجون في بيوتهم.

كِسوةٌ للمريض

جاء في وثيقة وقْف البيمارستان: «ومن حصل له الشّفاء والعافية ممّن هو مقيم بهذا المارستان المبارك، صرف الناظر إليه من ريع هذا الوقف المذكور كسوةَ مثلِه على العادةِ بحسب الحال، من غير زيادة تقتضي التضييق على المرضى والقيام بمصالحهم».

كبير الأطبّاء

     كبير الأطبّاء في البيمارستان المنصوري، ابن النّفيس (ت 687هـ): حسبُكَ بمستشفىً يكون كبيرُ أطبّائه كبيرُ أطبّاء الدُّنيا في وقته أصلاً، علي بن أبي الحزم الشهير بـ (ابن النّفيس)، الذي كان يصنِّف الكتابَ من حفظِه ويغترفُه من صدره دون الرجوع إلى شيء، وهو فوق ذلك فقيهٌ شافعيٌّ، له تصنيفٌ في الفقه وأصوله، وفي الحديث والنّحو والمنطق، سوى مصنّفاته في الطِّبِّ، الذي بلغ كتاب (الشامل) منها ثلاثمائة مجلّد، لم يستطع تبييض سوى ثمانين منها.

وقد ختمَ ابن النّفيس حياتَه مظهراً غاية الرّغبة في الثواب الجزيل، وغايةَ التّقدير للبيمارستان المنصوري أيضاً.

بقي أن نقول: إنّ فكرة تشييد هذا الصّرح الطبيّ العظيم، استوحاها الملك المنصور من رؤيته للمستشفى النوريّ بدمشق لمّا عُولج فيه ذات مرّة! قبل أن يكون ملكاً، فما المستشفى النّوري؟

المستشفى النّوري

وقْف المستشفى النّوري الكبير بدمشق: هذا كان بناه الملك العادل نور الدّين زنكي الشهيد سنة 549هـ، وقد كان عظيم الأثر، دالًّا على علوّ الهمّة وشَرف المقصد، وحُسن تدبير الملوك للشأن العامّ، وأَمَارَةَ سَبْقٍ حضاريٍّ لا يمكن إهمالها.

قال أبو شامة: «وبنى البيمارستانات في البلاد، ومن أعظمها البيمارستان الذي بناه بدمشق؛ فإنّه عظيم كثير الخَرْج جدًّا، بلغني أنه لم يجعله وقْفًا على الفقراء حسب، بل على المسلمين كافة من غنيٍّ وفقير.

     قلت: وقد وقَفْت على كتاب وقْفِه؛ فلم أره مشعراً بذلك، وإنّما هذا كلامٌ شاع على ألسنة العامّة ليَقَع ما قدَّرَه الله -تعالى- من مزاحمة الأغنياء للفقراء فيه، والله المستعان! وإنّما صرّح بأنّ ما يعزّ وجوده من الأدوية الكبار وغيرها، لا يُمنع منه من احتاج إليه من الأغنياء والفقراء»، وهذا يدلّ على أنّ الملك العادل نور الدّين زنكي -رحمه الله- كان أكبر همّه الفقراء، مع عموم العطاء والبذل للجميع عند الحاجة.

أصل بنائه

     ثمّ قال: «وبلغني في أصل بنائه نادرة وهي أن نور الدين -رحمه الله- وقع في أسره بعض أكابر الملوك من الفرنج -خذلهم الله تعالى-؛ فقطع على نفسه في فدائِه مالاً عظيماً؛ فشاور نور الدّين أمراءه؛ فكلٌّ أشار بعدم إطلاقه لما كان فيه من الضّرر على المسلمين، ومالَ نور الدّين إلى الفداء بعدما استخار الله -تعالى-؛ فأطلقَه ليلاً لئلّا يعلم أصحابه، وتسلّم المال؛ فلمّا بلغ الفرنجيُّ مَأْمَنَه مات! وبلغ نورَ الدّين خبرُه؛ فأعلمَ أصحابه؛ فتعجّبوا من لطف الله -تعالى- بالمسلمين؛ حيث جمع لهم الحسنيين؛ وهما الفِدَاء وموت ذلك اللّعين؛ فبنى نور الدين -رحمه الله- بذلك المال هذا البيمارستان، ومنع المالَ الأُمراءَ؛ لأنّه لم يكن عن إرادتهم».

كان هذا المستشفى من أوائل الجامعات الطبيّة في المشرق الإسلامي، وذكر ابن أبي أُصيبعة عدداً من كبار الأطبّاء الذين عملوا فيه، وتصدّروا للإفادة والتعليم في أروقته أيضاً.

المستشفى الصلاحي بالقاهرة

بناه صلاح الدّين الأيّوبي -رحمه الله- عام 577هـ، وفرضَ له من الدِّيوان مائتي دينار في الشهر، وأوقافاً أخرى بنواحي الفيّوم، وكان نافعاً للنّاس جدًّا، ووجدوا به رفقاً وراحةً.

     وصفه الرحّالة ابن جبير، فقال: «ومما شاهدناه أيضاً من مفاخر هذا السلطان: المارستان الذي بمدينة القاهرة، وهو قصرٌ من القصور الرائقة حُسنًا واتّساعاً، أبرزَه لهذه الفضيلة تَأَجُّرًا واحتساباً، وعيّن قيّما من أهل المعرفة، وضع لديه خزائن العقاقير، ومكّنه من استعمال الأشربةِ وإقامتها على اختلاف أنواعها،

     ووُضعت في مقاصير ذلك القصر أسِرَّةٌ يتخذها المرضى مضاجعَ، كاملة الكُسَى، وبين يدي ذلك القيّم خَدَمَةٌ يتكفّلون بتفقّد أحوال المرضى بكرة وعشية؛ فيُقَابَلُون من الأغذية والأشربة بما يليق بهم، وبإزاء هذا الموضع موضعٌ مقتطع للنساء المرضى، ولهنّ أيضاً من يكفَلُهُن، ويتّصل بالموضعين المذكورين موضعٌ آخر متسع الفناء، فيه مقاصير عليها شبابيك الحديد اتُّخذت محابس للمجانين، ولهم أيضا من يتفقّد في كل يوم أحوالهم ويقابلها بما يصلح لها، والسّلطان يتطلّع هذه الأحوالَ كلَّها بالبحث والسؤال، ويؤكّد في الاعتناء بها والمثابرة عليها غاية التأكيد».

سَبْق في العلاج النّفسي

     كان يُرتَّب في البيمارستانات عادةً مؤذِّنٌ وقارئ؛ فيقرأ القارئ بصوتِه العذْب الحَسَن الرّخيم، وكانت تُشترطُ فيه هذه الأوصاف من الواقف! لا من أجل أن يكون معلِّماً للقرآن؛ فهذه فائدةٌ بدَهِيَّةٌ للمسلم عند سماع القرآن لكريم، لكنّ لغرضٍ زائدٍ على ذلك، وهو إيناسُ المرضى الذين لا يستطيعون النّوم من الألم، والمُصابين منهم بالأرق؛ فيواسيهم ويُؤْنسهم بقراءته. بل قال أمير البيان شكيب أرسلان: «وسمعتُ روايةً من أفواه بعض الأدباء لم أجد عليها نصًّا، ولكنها قريبة إلى التصديق وهي؛ أنهم وجدوا في الوثائق المتروكة عن المستشفى النّوري الشهير، وظيفةً من جملة وظائف المعالجة لم يخطر ببال الأوروبيّين مع تناهيهم في الترف والعناية بالصحّة أن يجعلوها وظيفة، ولا أن يُرتِّبوا لها جُعلاً معلوماً!

     وهي تكليفُ اثنين بأن يقفا بمسمعٍ من المريض، ودون أن يلْحظ أن ذلك جارٍ منهما عمداً، يسأل أحدُهُما الآخر عن حقيقة علّة ذلك المريض؛ فيجاوبه رفيقُه بأنّه لا يُوجد في علّته ما يشغل البال، وأنّ الطبيب رتّب له كذا وكذا من الدّواء، ولا يُظنّ أنّه يحتاج إلى أكثر من كذا من الوقت حتى يَنْقَهَ، وغير ذلك من الحديث الذي إذا تهامس به اثنان على مسمع عليلٍ ثقيلِ الحال وظنَّه صحيحاً، زاد في نشاطه، ونهض من قوّته المعنويّة بما يفعل فعل أنجع الأدوية ولاسيما عند ذوي الأمزجة العصبيّة؛ فهذه نكتة لم يتنبّه الأوروبيّون إلى أن يُدخلوها في جملة وظائف المستشفيات إلى هذه الساعة، مع أنّها في منتهى درجات الرِّقَّة والفائدة».

مستشفى لطب العيون

     وُجد في السجلّات الصادرة عن محكمة بندر مغاغة، وثيقة وقف محرّرة باسم محمد بك توفيق الحكيم بن محمد بن أحمد السميعي، تنصّ على وَقْف ما قَدْره ثمانية أسهم، وثمانية قراريط، وألف وأربعة من الأفدنة، على مصارف كثيرة من وجوه الخير المعتادة، وكان من ضمنها: إنشاء مستشفى للعيون ببندر مغاغة.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك