رموز الأنظمة السابقة استغلوا نفوذهم لتهريب المليارات في البنوك الغربية- 300 مليار دولار أموال عربية مهربة في مهب الريح
استغلوا قانون سرية الحسابات والمصالح المتبادلة لإخفاء ثروات شعوبنا
افتقاد الإرادة السياسية وغياب اتفاقيات التعاون القضائي يعرقلان محاولات استعادة هذه الأموال
مصر تتصدر القائمة بـ 132 مليار دولار تليها ليبيا واليمن في مؤخرة القائمة
الحكومات السابقة وضعت الأموال في حسابات سرية ولكيانات وهمية إمعانًا في الإخفاء
الاستعانة ببيوت خبرة دولية وإقامة دعاوى قضائية واللعب بورقة المصالح الغربية وسائل جدية لاسترداد الثروات
حينما اندلعت الثورات العربية وآتت أكلها في كل من مصر وتونس واليمن وليبيا وأسقطت أنظمة كان كل همها إذلال شعوبها وإبقاءها تحت سيف الفقر وشظف العيش واستخدام ثرواتها لتضخيم أرصدة قادتها في البنوك الغربية وفي مقدمتها السويسرية، ساد نوع من الابتهاج في بلدان هذه الدول التي تتباين في مستوياتها الاقتصادية بين بلد يتمتع بثروات نفطية مثل ليبيا وآخر مثل تونس التي استطاعت تحقيق معدلات تنمية معقولة وأسهمت في رفع أعباء عدة عن شعبها، وبين دول تواجه ضائقة مالية مثل مصر واليمن من إمكانية وقف نزيف الخراب الاقتصادي الذي يحاصرها واستعادة مليارات الدولارات التي نهبها سدنة الحكم الديكتاتوري الدموي، بل إن الأمر وصل عند بعض الشعوب إلى ترديد أقوال من عينة أن كل مواطن في مصر يملك ما يقرب من مليون دولار حصة في الأموال التي نهبها نظام مبارك ورموزه التي تجري محاولات لاستعادتها.
ولكن وبعد مرور ما يقرب من عامين من الإطاحة بأنظمة مبارك وبن علي والقذافي وعلي عبد الله صالح لم نجد لهذه الآمال باسترداد الأموال المنهوبة أي ترجمة على أرض الواقع؛ حيث أخفقت هذه الدول في استرداد ما يقرب من 300 مليار دولار قدرها البنك الدولي من أموال خرجت من هذه البلدان بطريقة غير مشروعة؛ حيث أكد أن حصيلة تونس من هذه الثروات بلغت 32 مليار دولار في أرصدة بن علي وأقاربه، فيما وصلت حصة مصر أكثر من 132 مليار دولار موزعة على بلدان عربية وأوروبية عدة، فيما أثار تحديد البنك الدولي 68 مليار دولار من أموال مهربة تخص العقيد القذافي وأسرته، ولا سيما أن إحصائيات صادرة عن هيئات دولية قدرت نصيب ليبيا من هذه الأموال بأكثر من 300 مليار دولار.
احتقان سياسي
ولم تنجح أي حكومة عربية في تحقيق أي طفرة في استرداد هذه الأموال خصوصًا الحكومة المصرية التي أخفقت كل محاولاتها في استرداد هذه الأموال علها تنجح في إقالة الاقتصاد المصري من عثرته، بل إن الحكومة السويسرية رفضت التعاون مع محاولات الحكومة المصرية لاسترداد ثرواتها المنهوبة حتى التي قامت بتجميدها لدى سقوط مبارك؛ حيث ربط القضاء السويسري بين حالة الاحتقان السياسي السائدة وتدخل حكومة الرئيس مرسي في شؤون القضاء لإيجاد ذرائع لعدم المضي قدمًا في استعادة القاهرة لأموالها، مستندة إلى تبرئة القضاء المصري لعدد من رموز النظام من تهم تخص الفساد المالي ولا سيما أن المدعي العام المصري السابق كان قد قدم قضية حصول كل من علاء وجمال مبارك على فيلات وقصور من رجل الأعمال حسين سالم بعد مرور عشر سنوات على الواقعة؛ مما جعل القضاء يسقط القضية لتجاوزها المدى الزمني المحدد.
حكومات انتقالية
وتذرعت المحكمة العليا السويسرية بأن الإجراءات القضائية لم تكن كافية ولا أدلتها قاطعة لتبرز التعاطي الإيجابي مع مساعي المصريين لاسترداد جزء من هذه الأموال، وهي الحجة عينها التي قدمتها المحكمة نفسها للرد على مطالب تونسية لاسترداد أموال بن علي؛ حيث أكدت المحكمة أن عدم وجود دستور تونسي وحكومة انتقالية لا يعطي هذه الحكومة الأهلية الحق الحق للمطالبة بهذه الأموال، بل إن هذه المحكمة عقّدت المشهد بوضعها شروطًا قاسية جدًا فيما يتعلق برموز الأنظمة العربية المقبوض عليهم في سجون الأنظمة الحالية، منها عدم المساس بهم جسديًا أو نفسيًا وعدم محاكمتهم أمام محاكم استثنائية واقتصار النظر على هذه القضايا أمام المحاكم المدنية دون الثورية أو الاستثنائية.
وتواجه عملية استعادة هذه الأموال صعوبات شديدة، فحكومات الثورات العربية لم تستطع إدارة هذه العملية بشكل جدي؛ حيث لم تمتلك الإرادة السياسية ولم تتبنّ مشروعات قومية لاستعادة هذه الأموال فحكومتا عصام شرف مثلاً في مصر والباجي قائد السبسي في تونس، وهما شخصيتان محسوبتان على النظامين السابقين، لم تتبنيا إجراءات جدية لاسترداد هذه الأموال أو تلعبا على وتر التعاطف الغربي مع تطلعات الشعوب العربية ولم توظفا دورهما في حماية المصالح الغربية في دفع هذه البلدان للتعاون الجدي في هذا المجال.
مصالح سياسية
ومما يزيد من قتامة المشهد أن عددًا من رموز الأنظمة الساقطة قد استطاعوا عبر خطوات عديدة إخفاء هذه الأموال ضمن شركات وهمية مملوكة لأشخاص لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بقضايا الفساد المالي والسياسي، بل إنهم استطاعوا الاستفادة من طول أمد الثورات واستغلال قانون سرية الحسابات ليضمنوا عدم عودة هذه الأموال بأي شكل من الأشكال.
وقد نقل عن مصادر دبلوماسية غربية أن عملية الحفاظ على مليارات الدولارات الموجودة في البنوك الغربية قد تكون مرتبطة بشبكة مصالح لدول أو جماعات أو قد يكون وصولها للبنوك الغربية في إطار صفقات مشبوهة أو تواطؤ من الحكومات الغربية وفي مقدمتها الحكومة البريطانية التي سمحت لشخصيات عربية بالاحتفاظ بأصولهم في البنوك الغربية متغاضية عن مدى مشروعية وصول هذه الأموال إلى البنوك الأوروبية من عدمها.
ويرى الدكتور محمد محسوب رئيس اللجنة الوطنية المصرية لاسترداد الأموال أن النظام المصرفي الدولي لا يسمح للدول العربية أو حكوماتها بتعقب أموال شخصيات أو هيئات ما لم تكن هناك أحكام قضائية نهائية وباتة تقضي باسترداد هذه الأموال، فضلاً عن أن عدم ارتباط دول مثل مصر وتونس وليبيا باتفاقيات تعاون قضائي مع سويسرا مثلاً يجعل استرداد هذه الأموال أمرًا في غاية الصعوبة.
وكشف محسوب عن أن الاتحاد الأوروبي يراوغ في التعامل مع مطالب عربية في استرداد الأموال المنهوبة لدرجة أن دولاً عديدة منه رفضت التوقيع على وثائق تعترف فيها بوجود هذه الأموال في بنوكها أو الالتزام بالتعاون لاستردادها.
ولفت محسوب إلى أن وجود حكومة أحمد شفيق وعصام شرف في مصر سمح بتأمين هذه الأموال المنهوبة ولا سيما أن فترة وجود هذه الحكومات في مصر وتونس قد ساعدت في ضخ الدماء في عروق عملية إخفاء هذه الأموال، مشددًا على ضرورة أن تلتزم الحكومات العربية بالشفافية في التعامل مع الرأي العام الداخلي وتصارحه بأن استرداد هذه الأموال لا يبدو سهلاً، بل يحتاج لجهود قوية وإرادة شعبية حتى تفيق الشعوب العربية من آمالها باسترداد سريع لهذه الثروات.
أسماء وهمية
ولا يختلف المشهد كثيرًا في ليبيا، فأموال العقيد معمر القذافي وأسرته في البنوك الغربية لا يبدو أنها في طريقها للعودة إلى بلد عمر المختار ولاسيما أن هذه الأموال قد حفظت بأسماء وهمية وشركات كبرى ولشخصيات غير منخرطة في الصراع السياسي بأي شكل، فضلا عن استثمارات ضخمة في بلدان متعددة قد تجد مصلحة في إبقاء الطابع السري على هذه الأموال.
ورغم قيام عدة دول أوروبية بتجميد أرصدة متوقعة للقذافي وأسرته فإن عودة النصيب الكبير من هذه المليارات يسهم في تحقيق طفرة نوعية للشعب الليبي يستعيد معها استقراره ورخاءه ويوجهها لاستعادة مؤسساته الخدمية وبنيته الأساسية، وهو ما يتكرر في اليمن؛ حيث نجح رموز النظام السابق في استغلال الحصانة التي أمنتها المبادرة الخليجية لعلي عبد الله صالح ونظام حكمه ورموز قبيلته وساسته في إبقاء ما يقرب من 50 إلى 70 مليار دولار بعيدًا عن الخزانة اليمنية التي تواجه مشكلات جمة وعجزًا متفاقمًا في ميزان مدفوعاتها، وهو الأمر المرشح للاستمرار في ظل عدم وجود أي احتمالات استعادة قريبة لهذه الأموال.
وفي ظل هذه الأجواء ورغم الانتقادات الموجهة لسجل البلدان العربية في استرداد هذه الأموال، فإن تفاقم الأوضاع الاقتصادية قد جعل هذه البلدان تبحث عن تسوية لهذه الأزمة تلزم الدول الأوروبية بالتعاون معها في تأسيس المنتدى العربي لاسترداد الأموال المهربة، وقدمت الدول العربية مقترحًا بتأسيس آلية عربية للتعامل مع البلدان العربية لاسترداد هذه الأموال.
برنامج «ستار»
ودخل البنك الدولي على خطى الأزمة عبر طرحه برنامج «ستار» لتدريب عناصر عربية لتتبع الأموال العربية المهربة، وهو ما بدأ مع مصر وتونس وليبيا، حيث انخرطت مئات الكوادر في دورات تأهيلية لتتبع الأموال المهربة وكشف وسائل إخفائها ومساعدة بلاده على استرداد هذه المليارات.
فيما طرح الدكتور حمدي عبد العظيم الخبير الاقتصادي والمصرفي عدة خطوات لاسترداد هذه الأموال منها تحريك دعاوى قضائية ضد حكومات ومصارف عربية لإلزامها بالتعاون في استرداد هذه الأموال شريطة الاستعانة ببيوت خبرة دولية لمساعدة الحكومات العربية على المضي قدمًا في هذا الطريق الطويل.
ورأى أن افتقاد الحكومات العربية للإرادة السياسية ووجود صلات وثيقة ولغة مصالح بين الأنظمة الحالية والأنظمة السابقة وعدد من رجالاته، قد كرس نوعًا من الشكوك في وجود رغبة في استعادة هذه المليارات.
ونبه إلى إمكانية توظيف المصالح الغربية واللعب بورقة التعاون الاقتصادي مع بلدان الاتحاد الأوروبي لإلزامها بالتعاون معها في هذا المجال، رغم إقرارها بصعوبة الحصول على هذه المليارات والحاجة لسنوات عديدة للبدء في جني ثمار المساعي الحالية لاسترداد ما نهبته الأنظمة الاستبدادية والقمعية.
لاتوجد تعليقات