رمضان مدرسة إيمانية وتربوية وأخلاقية عظيمة
نعم شهر رمضان مدرسة إيمانية وتربوية وأخلاقية عظيمة، يستغرق التكوين والتربية في هذه المدرسة المباركة الجليلة شهراً، وهو مما أوجبه الله على العباد، وليس مما يختارونه برضاهم؛ فيقول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} {البقرة:183-184}، وقد بيَّن الله -تعالى- أنَّ هذه الأيام المعدودات هي شهر رمضان، وهو من الأشهر القمرية؛ فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} {البقرة: 185}.
وفي هذه المدرسة الرمضانية يتربَّى المسلم على جملة من المواد العلمية، والتمرينات التربوية الأخلاقية الإيمانية، ونكتفي بذكر أهمّها فيما يأتي:
مادة القُرْآن الكريم
فرمضان شهر القرآن، فيه أُنْزلَ هداية للناس وبينات من الهدى والفرقان، وفي هذا الشهر خصوصاً كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من الصحابة والسلف من بعدهم يتلون القرآن الكريم، ويهتمون به، ويَختمونه ختمات متعددة، ويتدارسونه فيما بينهم، وكذلك يتلونه في صلاة التراويح أوالقيام؛ حيث يجتمعون في بيوت الله -تعالى- لسماع كتاب الله -عز وجل-، وفي هذه المدرسة الإيمانية اليومية لابدّ للمسلم من تلّمس الهُدى في كتاب الله -تعالى- بالتلاوة والفهم والتدبر لمعانيه، والتَّدارس والتعلم والتعليم لآياته، وحفظ ألفاظه وحدوده.
مدرسة الإخلاص
في مدرسة رمضان يتربَّى المسلم على الإخْلاص لله -تعالى- في العبادة؛ ومراقبته -سبحانه- في السّر والعلن؛ فهو يمتنع عن شهواته من طُلوع الفجر إلى غُروب الشمس؛ طاعة لله -تعالى- وخوفاً منه -سبحانه-؛ فلو شاء لأكل وشرب؛ حيث لا يراه أحدٌ من البشر، ثم يخرج إليهم مظهراً أنه صائم، لكنَّ تقوى الله -عز وجل- واسْتشعار مراقبته منعاه من ذلك؛ ولهذا ورد في الحديث القدسي: «والذي نفسُ محمدٍ بيده، لخُلُوف فمِ الصائم أطيبُ عند الله مِنْ رِيح المِسْك، يترك طعامَه وشرابه وشَهْوته من أجْلي، الصِّيامُ لي، وأنا أجزي به، والحَسَنةُ بعَشْر أمْثالها». متفق عليه.
مدْرَسة الصَّبْر والمُصَابرة
في مدرسة رمضان يتربّى المسلمُ فيها على الصبر والمصابرة؛ فهو يتدرَّب في رمضان على تقْوية الإرادة، وقوة العزيمة، وشَحْذ الهِمّة، بالصبر والتصبّر على الجوع والعطش، وعلى ترك المألوف والمعتاد من الشهوات، وعلى القيام والسَّهر للصَّلاة، وتلاوة القرآن، وتواصل الذكر والدعاء، بل وعلى الصَّبْر على أذَى الناس، وغض النظر والحلم، وأنْ يدفع إساءتهم بالإحْسَان؛ ففي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم : «.. وإذا كان يومُ صَومِ أحَدِكم فلا يَرفُثْ، ولا يصخَبْ، فإنْ سابَّهَ أحدٌ، أو قاتَلَه؛ فلْيقُلْ: إنِّي امرؤٌ صائِمٌ». متفق عليه، ولا يزال المُسْلم الصائم يترقَّى في منازل الصبر، حتى يبلغ مقام المحبة والمعية، قال الله -تعالى-: {والله يحبُّ الصَّابرين} (آل عمران: 146)، وقال -جل جلاله-: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46).
مدْرسة الجُود والكرَم
في مدرسة رمضان يتربَّى المُسلم على الجُود والكرم، والبذل والإنفاق في سبيل الله -تعالى-، والجُود والسّخاء خُلُقٌ يُحبّه الله، وحثّ عليه عباده، وهو مما يزيّن العبد، ويُمهّد له الطريق إلى محبة الخالق والمخلوق؛ فيكون الكريم قريباً من الله -تعالى-، قريبا من الناس؛ فقال -تعالى- في صفات المؤمنين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (البقرة: 3)، وهذه النعمة والخصلة هي مما يَغيظ الشَّيطان اللعين؛ فلا غرو أنْ يقفَ للعبد في هذا الطريق (طريق الإنفاق والجُود والكرم)، صَادَّا له عنه، ويخوّفه من الفَقر والحاجة، قال -تعالى-: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 268). والفحشاء في هذه الآية - في قول عامة أهل التفسير-: هي البخل والشُّح.
تطهير النَّفس
فعلى المُسْلم أنْ يتدرَّب ويتربّى في مدرسة رمضان على تطهير النَّفس من الشح والبخل والحرص على المال وذلك: بالإنْفاق في سبيل الله، وإطْعام الطعام، وإفْطار الصّائمين، والإحْسَان إلى الفُقَراء والمَساكين، بإخْراج الزكاة الواجبة، والصَّدقة حسب وسْعه، قال -تعالى-: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} (الطلاق: 7)، وقال -سبحانه-: {هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} (محمد: 38).
أسْوةٌ حسنة
وفي رمَضَان خصوصا: لنا في رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أسْوةٌ حسنة، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: «كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناس بالخير، وكان أجودَ ما يكون في شهرِ رمضان، وإنّ جبريل -عليه السلام- كان يلقاه في كلَّ سنةٍ في رمضان حتى ينْسلخ؛ فيَعْرض عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن؛ فإذا لقيه جبريل، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجْودَ بالخَيْر مِنَ الرِّيح المُرْسلة». رواه مسلم.
مدرسة الجِدّ والاجتهاد
ففي مدرسة رمضان يتربّى المُسلم عموماً على الجدّ والاجتهاد، وجهاد النَّفس والهَوى والشيطان، والرقي بنفسه إلى مَعالي الأمور؛ ومنعها مِنْ سفسافها؛ فيُصلي ويصوم ويقوم، ويقبل على الذِّكر وقراءة القُرآن، ويهْجر مَجالس اللَّغو واللهو والرَّفث، ويشتغل بالتوبة والاستغفار، وتجديد العهد مع الرحيم الرحمن.
مدرسة الصّحة والعافية
في رمضان مدرسة عظيمة للتربية البدنية والصحية؛ فضلا عن التربية الروحية التي يتلقاها المسلم في تلك المدرسة؛ فإنه يتربى تربية بدنية عظيمة، ووقاية لبدنه مِنَ العِلل والأسْقام والأمراض، وعلاجاً وتقوية لجسمه؛ فإنَّ الصيام أعظم دواءٍ لمختلف الأدواء، وأعظم مُقوٍّ للمناعة، ومنشط لأجهزة الجسم كلها، كما يفيد ذلك أهل الذكر، وأهل الاختصاص في الطب والصحة، وصح عن أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه - أنه قال: «صُومُوا تَصحّوا».
ختام الصيام
وقد جعل الله تعالى جوائز ربانية للمجتهدين الناجحين في ختام هذه الدورات التربوية التكوينية، في مدرسة رمضان العظيمة، وبعد موسمٍ إيماني حافل بالجدِّ والاجتهاد في العبادة والتقرب إلى الله -تعالى- بأنواع القُرُبات، وبعد مسيرةٍ تربوية إصلاحية مكتملة الجوانب والأركان، يكافَأ الصَّائمون بجوائز عدة عظيمة، وهي جوائز: الرحمة، والمغفرة، والعفو، والقُرب من الله، وتكفير الذنوب، والفوز بالجنة، والنَّجاة والعتق من النار؛ كما أعلن عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «مَنْ صامَ رمضان إيماناً واحْتساباً، غفر له ما تقدم مِنْ ذنبه، ومَنْ قام ليلة القَدْر إيماناً واحتساباً، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»، وقوله: «منْ قام رمضان إيماناً واحتسابا، غُفر له ما تقدّم من ذنبه». متفق عليهما، وقوله -[-: «إذا دَخَل شَهْرُ رمضان: فُتَحتْ أبوابُ الجنة، وغُلَقت أبوابُ النار، وصُفَدت الشّياطين». متفق عليه.
ويحق للمسلم أنْ يفرح بهذا الفضل العظيم، وتلك الجوائز النفيسة؛ فقال -سبحانه-: {قلْ بفَضْلِ اللهِ وبرحمتِه فبِذلك فليَفْرحُوا هو خيرٌ مما يَجْمعون} (يونس: 58)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «للصَّائم فَرْحتان يفْرحُهما: إذا أفْطر، فرحَ بفطره، وإذا لقي ربّه، فرح بصومه». متفق عليه.
يوم الفرحة
وللتعبير عن هذا الفرح العظيم بهذه الجوائز، شَرَع لنا الربُّ الكريم -سبحانه- يوماً خاصاً يلي شهر الصيام مباشرة، جَعَله لنا عيداً؛ يلبس فيه الناس أحسن الثياب، ويغدون من أول النهار، ويَخْرج فيه الرجالُ والنساء والأطفالُ إلى المصلى؛ تلهجُ ألسنتُهم بالتكبير والتَّهليل والدعاء، ويتزاور فيه الأهل والأرحام، والأحباب والأصحاب، ويتصالح فيه الخُصُوم، وتُنسى الأحْقاد، وتذوبُ الفروق بين الناس- إنه يومُ عيد الفطر المبارك، الذي خصَّنا الله به (نحنُ المسلمين) مع عيد الأضحى، دون غيرنا من الأمم؛ فبُشْرى وطوبى للناجحين في مدرسة رمضان المبارك.
لاتوجد تعليقات