رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: محمد إسماعيل المقدم 18 فبراير، 2020 0 تعليق

رفقا أيها المربي (3)

 

ترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ما ترك خيرًا إلا دلنا عليه، ولا شرًا إلا وحذرنا منه[، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في كل شيء من الأمور، ولاسيما هذه القضية التي نتناولها، وهي قضية الرفق بمن يربيه الإنسان، وليس هذا فحسب، بل هذا طريق سلكه من قبل النبي[ إخوانه الأنبياء والمرسلون.

     فهذا نوح -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- يقول لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّه}(الأعراف:59)، انظر بماذا بدأ؟ (يَا قَوْمِ)، أصلها: يا قومي؛ فهو ينتمي إليهم، ويبين لهم أنه منهم، وأنه حريص عليهم ومشفق بهم، {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}(الأعراف:59)، انظر الشفقة! إني أخاف عليكم، وأنت لا تخاف إلا على من تحبه وترجو له الخير، وهذا من رفق نوح -عليه السلام- في الدعوة؛ حيث خاف عليهم من العذاب الأليم، والشقاء السرمدي.

موسى وهارون

     وكذلك أيضاً نلاحظ موسى وهارون -عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام- كيف واجها أعتى جبابرة الأرض وأشدها، وهو فرعون الذي طغى وتجبر حتى وصل به الأمر إلى ادعاء الألوهية، يقول -تعالى-: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (القصص:38)، وهذه الآية يُستدل بها على مسألة من مسائل العقيدة، وهي أن الله فوق خلقه، عالٍ عليهم؛ لأن موسى -عليه السلام- لابد أنه أخبر فرعون أن الله في السماء، فرد على ذلك بقوله لوزيره: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا} ابن لي بناء عالياً جداً {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} وأنظر، هل موسى صادق أن هناك إلهاً في السماء {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}، ومع عظم الجرم الذي ارتكبه فرعون، وما واجه به موسى وهارون -عليهما السلام-؛ ومع ذلك فإن الله -سبحانه وتعالى- أمر موسى وهارون إذا أتيا فرعون أن يخاطباه باللين، وأن يترفقا به.

سلوك مناف

      إذاً الشدة والغلظة سلوك منافٍ للسلوك الإسلامي القويم، وبعض الناس يظن أن هذا من الحماس للدين، ومن النصرة لله ورسوله، لا، أنت لا تتنازل عن الحق، لكن عامل هذا الإنسان بشفقة وبرحمة كي ينجو من عذاب الله -تبارك وتعالى-، كالطبيب الذي يعالج الناس بالدواء، والدواء قد يكون في غاية المرارة، لكن يخلط بأشياء حلوة المذاق حتى يستسيغ المريض الدواء وينفعه، والشيء نفسه التلطف في العبارة، مع عدم التنازل عن الحق، يقول الله -سبحانه وتعالى-: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}(طه:43-44)، هل هناك دليل أعظم من هذا في أهمية الرفق؟

يوسف عليه السلام

      وهذا يوسف -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- حصل له الكيد والأذى من أعز الناس وأقربهم إليه، من إخوته، إلى أن وضعوه في البئر، ثم بيع بعد ذلك، وهذا البيع اقترن به نفي إلى مصر، وابتعد عن أبيه، ولحق أباه الحزن الشديد حتى كف بصره -عليه السلام-، وسجن يوسف -عليه السلام- بضع سنين، وحصل له الأذى، وكان المتسبب في ذلك إخوته، مع ذلك ضرب أسمى الأمثلة في الإحسان وحسن الخلق، وكمال العفو والصفح؛ حيث قال لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْم}(يوسف: 92)، لا لوم ولا عتاب، ولا توبيخ، {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين}(يوسف: 92)، أي: قال لهم يوسف كرماً وجودا لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْم، أي: لا أثرب عليكم ولا ألومكم؛ يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين؛ فسمح لهم سماحًا تامًا من غير تعيير لهم على ذكر الذنب السابق، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة، وهذا في نهاية الإحسان الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق وخيار المصطفين، والأنبياء جميعهم إذا استعرضنا سيرهم، سوف نجد أن جانب الرفق واللين والرحمة استعملوه بكثرة مع قومهم.

تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه

     وهذا سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم يضرب أروع الأمثلة في تربية أصحابه -رضي الله تعالى عنهم-، يقول الله -سبحانه تعالى- في وصف رسوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين}(الأنبياء: 107)، وقال -تعالى-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران:159) (فَبِمَا رَحْمَةٍ) أي: رحمة عظيمة لهم كائنة من الله، (لِنْتَ لَهُمْ) أي: كنت معهم لين الجانب، وعاملتهم بالرفق والتلطف؛ حيث لنت لهم بعدما حصل من مخالفة أمرك، وإسلامك للعدو، وكان هذا في غزوة أحد {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.

صفات النبي صلى الله عليه وسلم

      وقال -تعالى- في بيان صفات النبي صلى الله عليه وسلم : {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}(التوبة: 128)، وقال -تعالى-: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}(الأحزاب:43)، وقال[ لعائشة -رضي الله تعالى عنها-: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه»، وقال صلى الله عليه وسلم : «من أعطي الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم الرفق فقد حرم حظه من الخير»؛ فانظر كيف ربط الحصول على الخير بمبدأ الرفق؛ لأن من أراد الخير فلن يحصل عليه إلا بالرفق؛ فهذا من مكارم الأخلاق ومن معالي الأمور.

تعظيم أمر الرفق

     ولذلك بلغ تعظيم أمر الرفق إلى أن قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم؛ فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم؛ فارفق به»، أي شخص يلي أمر أحد من الأمة سواء كان مدير مدرسة، مدرساً، أباً مع أبنائه، حاكماً مع رعيته، وهكذا أي إنسان استرعاه الله -سبحانه وتعالى- على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يرفق بالمسلمين، حتى يدخل تحت دعوته صلى الله عليه وسلم ، وينجو من الدعوة عليه على لسان خير البشر صلى الله عليه وسلم : «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم؛ فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم؛ فارفق به».

مواقف من رفق النبي بأمته

     نذكر قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي الذي بال في المسجد أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأمام أصحابه، ظناً منه أن أرض المسجد مثل أرض الصحراء والفلاة التي عاش فيها، ويعمل فيها ما يشاء؛ فبال في المسجد؛ فقام إليه الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- ليزجروه ويمنعوه، ولكنه صلى الله عليه وسلم نهاهم ومنعهم، وقال: «لا تُزرموه» أي: لا تقطعوا عليه هذا الذي يفعله، وحال بينهم وبين أذية هذا الأعرابي، وتركه حتى فرغ من قضاء حاجته في المسجد، وعالج الموقف الطارئ بأحسن علاج، وأكمل منهج كما سنبينه -إن شاء الله تعالى.

حادثة الطائف

     كذلك ضاقت عليه صلى الله عليه وسلم مكة بأوديتها وسهولها وجبالها؛ بسبب سفهاء قريش الذين أسرفوا في إيذائه والصد عن دعوته، ولم يجد بدًا إلا أن يخرج إلى الطائف لعله يجد من ينصره، لكي يبلغ رسالة ربه، ويجد المؤازرة والدفاع، فلم يظفر بشيء من هذا، بل وجد الأذى والتهكم والطرد بالحصى والحجارة، حتى دميت عقباه[، وتلطخت نعلاه بالدم، وسال دمه الزكي على أرض الطائف صلى الله عليه وسلم ، لقي كل هذا من سفهاء الطائف وعبيدهم وغلمانهم وأطفالهم، ثم غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف وهو مهموم النفس مكلوم الفؤاد؛ فلم يستفق إلا وهو في قرن الثعالب، وهو ميقات أهل نجد تلقاء مكة على يوم وليلة، فرفع رأسه فإذا هو بسحابة قد أظلته، يقول -عليه الصلاة والسلام-: «فنظرت فإذا فيها جبريل، قال: فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال؛ فسلم عليّ ثم قال: يا محمد، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين» الأخشبان: جبلا مكة، ولو أُطبقا عليهم لهلك أهل مكة أجمعون «قال: يا محمد إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً» رواه البخاري ومسلم.

القدرة على الانتقام

     تأمل هنا: هل توجد القدرة على الانتقام أم لا توجد؟ توجد، حتى أنه ضامن أن الله -سبحانه وتعالى- راضٍ عما يفعل؛ لأن الله أجاز له ذلك لما أرسل جبريل وملك الجبال معه؛ فبلاشك أنه يباح له الانتقام، وبعض الناس ينتقم شفاء لغليله، ويعرف أن الانتقام محرم عليه؛ فكان يستطيع صلى الله عليه وسلم أن يرد اعتباره عن هذه الأذية التي تعرض لها من العبيد والغلمان في الطائف؛ فالأسباب والدوافع للانتقام موجودة، ووسيلة الانتقام مضمونة تماماً، ولكن الرحمة والشفقة في صدر نبي الله صلى الله عليه وسلم  للناس عمومًا، ورفقه حتى بالذين يعاندونه موجود.

الصغار أولى بالرفق

     فمن في البشرية كلها أشرف وأعظم وأجل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع وجود كل الدوافع والقدرة على الانتقام، إلا أنه آثر جانب الرحمة، ورجا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده وحده لا شريك له؛ فبلاشك أن الصغار هم أولى بهذه الرحمة، وأولى بالرفق، وأولى بأن تتحرر من الدافع للانتقام.

     إذاً المربي المسلم سواء كان مدرساً، أم مدرسة، أم أباً، أم أماً، ينبغي له أن يكون عطوفاً، شفوقاً، ودوداً، محباً لمن يربيهم، مترفقاً بهم، صبوراً عليهم، متأنياً في تعليمهم، حريصاً على نفعهم، وهو في ذلك يقتدي بأسوته وقدوته، الذي كان نموذجاً يحتذى، وأسوة يقتدى به في هذا الخلق القويم صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان قمة في الرحمة، والشفقة، والعطف، والرفق، واللين لأمته.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك