رفع الحرج في الشريعة الحدود والجنايات نموذجًا (1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد؛ فهذا بحث مختصر كتبته لما وجدت الحاجة الماسة لتحقيق المراد بالتجديد في الإسلام؛ حيث كثر القول في ذلك، وأضيف إلى التجديد ما هو من قبيل الابتداع أو الانحراف الكبير عن الدين، وكذلك الحال بالنسبة للمجدد وصفاته وشروطه وهل هو واحد أم أكثر في كل قرن؟ ومعرفة الحق من بين الدعاوى الكثيرة بالتجديد للنفس أو للآخرين، وما بين الفرق والمذاهب والجماعات، واليوم نكمل ما بدأناه بالحديث عن صفات المجددين.
قال الله -تعالى-: {وجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}(الحج: 78)، إن اعتبار المكلف في الشريعة الإسلامية والسعي لإسعاده في الدنيا والآخرة أمرٌ مقطوع به؛ ولهذا الاعتبار مظاهرُ كثيرة، منها: سعي الشريعة لوضع القواعد المنظمة لحياة الإنسان، التي تضمن أن يسير في الحياة سيرًا لا يشق عليه، كما شرعت له شرائع تراعي حاله وترفق به، وتضع حدًّا للمشقة التي قد تعرض له في حياته طبقًا للسنن الكونية القاضية أن الإنسان خُلق في كبد؛ فلابد أن يسعى ويجدَّ ليُحَصِّلَ مصالحه الدنيوية والأخروية؛ ولهذا راعت الشريعةُ المشقّةَ التي تطرأ على المكلف في عبادته ومعاملته؛ فشرعت له ما يدفعها به، ويحقق له المقصود.
ومع هذا كله فإن الشريعة لم تُلغِ كذلك العوارضَ التي تكون سببًا في حجب الإنسان عن الحق، وإبعاده عن المصلحة من اتباع للهوى والجهل والظلم؛ فهي عوارض إذا اتصف بها الإنسان رَدَّ الحق، واستبدل الشهوات والشبهات بالأمور الواضحات، ورأى الأشياء على غير حقيقتها، وهنا جاءت الشريعة بالحدود وجعلتها أدواتٍ ردعيةً وإجراءاتٍ وقائيةً، تعالج بها الظواهر السلبية للجريمة التي يصدرها الإنسان في حق نفسه، أو حق غيره، وهذه الإجراءات تختلف عن الإجراءات البشرية في كونها تخدم المقصد العام للشرع، وليس للنفس البشرية فيها أي تأثر، كما أنها ليست ردة فعل، ولا انتقامًا من مجتمع معين؛ لذلك لم تخلُ هذه الحدود من رفق بالناس، مع أنها عقوبات؛ لكنْ لأنها لم تشرع انتقامًا وليست مقصودة لذاتها؛ فإنها لم تطغَ على حساب الشرع ومقصده، فقُيِّدَتْ بقيود تضمن تفادي الخلل الذي قد ينتج عن تطبيق حدٍّ أو قصاص، وهذا ما سوف نفصله -إن شاء الله- في هذه الورقة العلمية، وقبل الخوض فيه نبين مكانة رفع الحرج في الشريعة، ويحسن بنا أن نبين معناه لغة وشرعًا ليتبين حكمه بعد ذلك.
رفع الحرج لغة واصطلاحًا
تدل مادة (رفع) في اللغة على معان عدة، ترجع في أغلبها إلى معنى العلو والإزالة، وهي نقيض الوضع والخفض، قال الله -عز وجل- في صفة القيامة: {خافضة رافعة}(الواقعة:3)، قال الزجاج: المعنى: أنها تخفض أهل المعاصي وترفع أهل الطاعة. والرفع: ضد الخفض، وفي الحديث: «إن الله يرفع القسط ويخفضه»، كما تدل مادة (رفع) في الاستعمال على الإكرام والفوقية؛ فمثال الإكرام قولهم: «نساء مرفوعات»، أي مُكْرَمَاتٌ، ومثال الفوقية قوله -تعالى-: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ}(الواقعة:34)، أي مصفوفة بعضها فوق بعض، تأتي مادة (رفع) أيضًا بمعنى التعظيم ومنه قوله -تعالى-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَال} (النور:36) أي تعظَّم. وأقربها للمعنى الشرعي هو الإزالة.
الحرج معناه الضيق
أما الحرج فإن معناه الضيق، وهو الذي يدل عليه الاستعمال عند أهل اللسان، ويستخدم في معانٍ أُخَرَ مجازية كالإثم والحرام، قال ابن الأثير: «الحرج في الأصل: الضيق، ويقع على الإثم والحرام. وقيل: الحرج أضيق الضيق. وقد تكرر في الحديث كثيرًا»، ومثال مجيئه بمعنى الضيق في قوله الله -تعالى-: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا}(الأنعام: 125)، ويقال حرِجت العين تحرَج، أي تحار، وتقول: حَرُج علي ظلمُك، أي حَرُم، ويقال: أحرجها بتطليقة، أي حرمها، ويقولون: أكسعها بالمحرِجات، يريدون: بثلاث تطليقات. والحرج: السرير الذي تحمل عليه الموتى، وقد نص صاحب تاج العروس أن الحرمة والإثم مجازيّان في معنى الحرج.
سياقات متعددة
أما في الاصطلاح؛ فإن لفظ الحرج ورد في سياقات متعددة، بعضها ينص على رفعه، وبعضها يطلب عدم وجوده من المكلف تجاه القضايا العقدية، ويذم عليه؛ فهذا التنوع في الأسلوب جعل لمدلول الكلمة معانيَ واسعةً وشاملة، وقد دلت نصوص شرعية على نفي الحرج عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أمته جميعًا وعن بعض أفرادها خصوصًا لأعذار قامت بهم.
رفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم
فمن أمثلة رفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله -سبحانه-: {ما كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا}(الأحزاب:38)؛ فهذه مخاطبة من الله -تعالى- لجميع الأمة، أعلمهم أنه لا حرج على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نيل ما فرض الله له وأباحه من تزويج زينب بعد زيد، ثم أعلمَ أن هذا ونحوه هو السنن الأقدم في الأنبياء من أن ينالوا ما أحل الله لهم»، وكذلك قوله -تعالى-: {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}(الأحزاب:50).
نفيه عن الأمة
ومن أمثلة نفيه عن الأمة قوله -سبحانه-: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}( الحج:78)، مَعْنَاهُ: أَنَّ المؤمِنَ لا يُبْتَلَى بِشَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ إِلا جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْهُ مَخْرَجًا، بَعْضُهَا بِالتَّوْبَةِ، وَبَعْضُهَا بِرَدِّ المظالِمِ والقِصَاصِ، وَبَعْضُهَا بِأَنْوَاعِ الْكَفّاراتِ؛ فَلَيْسَ فِي دِينِ الإسلامِ ذَنْبٌ لَا يَجِدُ الْعَبْدُ سَبِيلًا إِلَى الْخَلَاصِ مِنَ الْعِقَابِ فِيهِ.
نفيه عن بعض الأمة
ومن أمثلة نفيه عن نوع مخصوص من الأمة قوله -تعالى-: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا}(الفتح:17)، فالآيَةَ أَصْلٌ فِي سُقُوطُ التّكلِيفِ عن العاجز؛ فكل من عجز عن شي سقطَ عَنْهُ، فتارَةً إِلَى بَدَلٍ هُوَ فِعْلٌ، وَتَارَةً إِلَى بَدَلٍ هُوَ غُرْمٌ، ولا فرقَ بَيْنَ العَجْزِ مِن جِهةِ القُوَّةِ أَوِ الْعَجْزِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِ. وهذه الاستعمالات تُرجع معنى رفع الحرج إلى رفع الضيق والشدة، وبه فسرت الآيات القرآنية التي مرت معنا.
المنفي شرعًا
والحرج المنفي شرعًا يرجع إلى معنيين؛ أحدهما: أن الحرج هو ما لا يطاق، والآخر: هو ما ليس في الوسع مما لا يقدر عليه المكلف، وإذا قَدَرَ عليه؛ فإن ذلك يكون بمشقة تخرج بالمكلف عن المعتاد.
ولذا كان من شرط التكليف العلم والقدرة قال في المراقي:
والعلمُ والوُسع على المعروفِ شرطٌ يعمّ كلَّ ذي تكليفِ
ولذلك ورد تفسير رفع الحرج عن السلف بأنه ما كان على بني إسرائيل كقرض موضع النجاسة، وأداء الربع في الزكاة، وكون التوبة قتلًا، وتحريم السَّلَبِ، وعدم جواز الصلاة إلا في المسجد، وعدم حل الغنائم. فيتبين من هذا أن الحرج المرفوع شرعًا هو ما كان غير مطاق للمكلف، أو كانت فيه مشقة خارجة عن المعتاد يلحق المكلف بها العنت، إما بسببها أو بسبب الدوام عليها؛ فأما المشقة المعتادة -وهي المقارنة للفعل، التي إذا ترك الفعل لأجلها عُدَّ التارك له متكاسلًا ومتهاونًا-؛ فإنها لا تعتبر، وشرط المشقة ألا تُعَارَضَ بما هو أشد منها؛ فلا تعد حرجًا كالحدود والجهاد والعقوبات؛ فإنها وإن كانت المشقة بها حاصلة على النفس والمال، لكن لا يمكن تعطيلها، وذلك للمصلحة الراجحة المرجوة منها، ونفصّل ذلك في القسم الموالي، وهو أقسام رفع الحرج.
أقسام رفع الحرج
باب الرخصة كله مبني على رفع الحرج، وذلك ظاهر، ومنه قوله -تعالى-: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم}(المائدة:3)، وقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا}(النساء:101)؛ فإذا تبين هذا علم أن الترخّص في الشريعة على قسمين:
- الأول: أن يكون في مقابلة مشقة لا صبر عليها طبعًا، كالمرض الذي يعجز معه عن استيفاء أركان الصلاة على وجهها مثلًا، أو عن الصوم لفوت النفس.
أو شرعًا، كالصوم المؤدي إلى عدم القدرة على الحضور في الصلاة، أو على إتمام أركانها، وما أشبه ذلك.
- الآخر: أن يكون في مقابلة مشقة بالمكلف قدرة على الصبر عليها، وأمثلته ظاهرة.
حق الله
فأما الأول؛ فهو راجع إلى حق الله؛ فالترخص فيه مطلوب، ومن هنا جاء حديث: «ليس من البر الصيام في السفر»، وإلى هذا المعنى يشير النهي عن الصلاة بحضرة الطعام، أو وهو يدافعه الأخبثان؛ فالترخص في هذا الموضع ملحق بهذا الأصل، ولا شك أن الرخصة ههنا جارية مجرى العزائم، ولأجله قال العلماء بوجوب أكل الميتة خوف التلف، وأن من لم يفعل ذلك فمات؛ دخل النار.
حظوظ النفس
وأما الثاني؛ فراجع إلى حظوظ العباد، لينالوا من رفق الله وتيسيره بحظ؛ إلا أنه على ضربين:
- أحدهما: أن يختص بالطلب حتى لا يعد فيه حال المشقة أو عدمها، كالجمع بعرفة والمزدلفة؛ فهذا أيضًا لا كلام فيه أنه لاحق بالعزائم؛ من حيث صار مطلوبًا مطلقًا طلبَ العزائم، حتى عده الناس سنة لا مباحًا، لكنه مع ذلك لا يخرج عن كونه رخصة؛ إذ الطلب الشرعي في الرخصة لا ينافي كونها رخصة؛ كما يقوله العلماء في أكل الميتة للمضطر؛ فإذًا هي رخصة من حيث وقع عليها حد الرخصة، وفي حكم العزيمة من حيث كانت مطلوبة طلب العزائم.
- والثاني: ألا يختص بالطلب، بل يبقى على أصل التخفيف ورفع الحرج؛ فهو على أصل الإباحة؛ فللمكلف الأخذ بأصل العزيمة وإن تحمل في ذلك مشقة، وله الأخذ بالرخصة.
صحة الحكم
والأدلة على صحة الحكم على هذه الأقسام ظاهرة؛ فلا حاجة إلى إيرادها، فإن تشوف أحد إلى التنبيه على ذلك فيقال:
أما الأول؛ فلأن المشقة إذا أدت إلى الإخلال بأصل كلي؛ لزم ألا يعد فيه أصل العزيمة؛ إذ قد صار إكمال العبادة هنا والإتيان بها على وجهها يؤدي إلى رفعها من أصلها؛ فالإتيان بما قدر عليه منها -وهو مقتضى الرخصة- هو المطلوب، وقبل الخروج عن هذا الباب يجدر التنبيه إلى أن اعتبار الرخصة من قبيل رفع الحرج دليل على أنها ليست مبنية على التخيير مطلقًا، بل هو عارض لها؛ لأن رفع الحرج موجود مع الواجب كما هو الحال في الصوم وقصر الصلاة؛ فإن الصوم شرع أيامًا معدودات رفعًا للحرج وهو واجب، والصلاة شرع قصرها مع وجوبها، وهكذا فالأصل أنها ليست مبنية على التخيير لما يعرض لها من الوجوب.
لاتوجد تعليقات