رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 8 أغسطس، 2016 0 تعليق

رضا الناس غاية لا تدرك

الناس يختلفون اختلافاً كبيراً في عقولهم وأهوائهم وعاداتهم وتصرفاتهم فطلب رضاهم جميعاً من المحال وفيه من المشقة ما لا يخفى

يجب طلب ما يرضي الله وإن سخط الناس لأن الله هو الذي ينفع ويضر وأنه لا يجوز أن يلتمس ما يسخط الله من أجل إرضاء الناس كائنا من كان

 

من الأمثال الدارجة بين الناس قولهم: «رضا الناس غاية لا تدرك»، وهذا المثل كما قال الميداني في مجمع الأمثال يروى في كلام أكثم بن صيفي. وكان أكثم حكيم العرب في الجاهلية وأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان يوصي قومه باتباعه ويحضهم عليه وله كلام كثير في الحكمة.

وروى أبو نعيم في حلية الأولياء عن الربيع بن سليمان قال: قال الشافعي: «يا ربيع رضا الناس غاية لا تدرك، فعليك بما يصلحك فالزمه، فإنه لا سبيل إلى رضاهم».

وروى أيضا عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: «يا أبا موسى، رضا الناس غاية لا تدرك، ليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر ما فيه صلاح نفسك فالزمه، ودع الناس وما هم فيه».

الناس يختلفون اختلافاً كبيراً

     ومعلوم أن الناس يختلفون اختلافاً كبيراً في عقولهم وأهوائهم وعاداتهم وتصرفاتهم، فطلب رضاهم جميعاً من المحال، وفيه من المشقة ما لا يخفى، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى فقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(سورة الزمر: 29 )

      قال الشيخ ابن سعدي: «ضرب مثلاً للشرك والتوحيد فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا} أي: عبدا {فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} فهم كثيرون، وليسوا متفقين على أمر من الأمور وحالة من الحالات حتى تمكن راحته، بل هم متشاكسون متنازعون فيه، كل له مطلب يريد تنفيذه ويريد الآخر غيره، فما تظن حال هذا الرجل مع هؤلاء الشركاء المتشاكسين؟

{وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ} أي: خالصا له، قد عرف مقصود سيده، وحصلت له الراحة التامة. {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} أي: هذان الرجلان مثلا ؟ لا يستويان.

     كذلك المشرك، فيه شركاء متشاكسون، يدعو هذا، ثم يدعو هذا، فتراه لا يستقر له قرار، ولا يطمئن قلبه في موضع، والموحد مخلص لربه، قد خلصه الله من الشركة لغيره، فهو في أتم راحة وأكمل طمأنينة، فـ{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على تبيين الحق من الباطل، وإرشاد الجهال».

     وقال القرطبي: «{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} هذا الذي يخدم جماعة شركاء أخلاقهم مختلفة، ونياتهم متباينة، لا يلقاه رجل إلا جره واستخدمه ، فهو يلقى منهم العناء والنصب والتعب العظيم، وهو مع ذلك كله لا يرضي واحدا منهم بخدمته لكثرة الحقوق في رقبته، والذي يخدم واحدا لا ينازعه فيه أحد، إذا أطاعه وحده عرف ذلك له ، وإن أخطأ صفح عن خطئه ، فأيهما أقل تعبا أو على هدى مستقيم».

الإنسان خلق لغاية عظيمة

     والإنسان خلق لغاية عظيمة، وحكمة بالغة، خلق ليعبد الله تعالى وحده، ويسعى في طاعته ورضاه، فكل السعادة في توحيده وطاعته، وكل الشقاء في الإعراض عنه أو الشرك به، فهو سبحانه أحق أن يسعى في طلب رضاه لأنه الرب الخالق المدبر، والإله الحق لا إله إلا هو سبحانه، وله الأسماء الحسنى والصفات العليا لا شريك له، وقد قال سبحانه: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ ان يُرْضُوهُ إن كَانُوا مُؤْمِنِينَ} (التوبة: 62).

     قال ابن سعدي: «{يحلفون بالله لكم ليرضوكم} فيتبرؤون مما صدر منهم من الأذية وغيرها، فغايتهم أن ترضوا عليهم. {والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين}؛ لأن المؤمن لا يقدم شيئا على رضا ربه ورضا رسوله، فدل هذا على انتفاء إيمانهم؛ حيث قدموا رضا غير الله ورسوله».

تقديم رضا الله عز وجل

     ويبين لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أهمية أن يقدم المسلم رضا الله تعالى على رضا الناس عند التعارض والتزاحم، وأن مآل ذلك إلى خير عاقبة بسبب حسن القصد وتجريد الاتباع، فقد كتب معاويةُ إلى عائشة رضي الله عنهما أنِ اكتُبي لي كتابًا توصيني فيه، ولا تُكثري عليَّ؛ فكتبتْ إليه: «سلامٌ عليك، أما بعد، فإني سمِعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَن الْتمَس رضا الله بسخط الناس، كفاه الله مؤونة الناس، ومَن التمس رضا الناس بسخط الله، وَكَله الله إلى الناس» وسلام عليك»؛ رواه الترمذي وصححه الألباني.

وفي رواية: «من أرضى الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس، ومن أسخط الناس برضا الله، كفاه الله مؤنة الناس» أخرجه ابن حبان وصححه الألباني.

قال الشيخ ابن عثيمين شارحا الحديث: «(التمس): طلب، وقوله: «رضا الله»: أي: أسباب رضاه.

وقوله: «بسخط الناس»: الباء للعوض; أي: إنه طلب ما يرضي الله ولو سخط الناس به بدلا من هذا الرضا، وجواب الشرط: «رضي الله عنه وأرضى عنه الناس».

      وقوله: «رضي الله عنه وأرضى عنه الناس»: هذا ظاهر، فإذا التمس العبد رضا ربه بنية صادقة رضي الله عنه؛ لأنه أكرم من عبده، وأرضى عنه الناس، وذلك بما يلقي في قلوبهم من الرضا عنه ومحبته; لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.

قوله: «ومن التمس رضا الناس بسخط الله»: أي: طلب ما يرضي الناس، ولو كان يسخط الله; فنتيجة ذلك أن يعامل بنقيض قصده، لهذا قال: «سخط الله عليه وأسخط عليه الناس»; فألقى في قلوبهم سخطه وكراهيته.

فيستفاد من الحديث وجوب طلب ما يرضي الله وإن سخط الناس؛ لأن الله هو الذي ينفع ويضر، وأنه لا يجوز أن يلتمس ما يسخط الله من أجل إرضاء الناس كائنا من كان».

      وحيث إن طلب رضا جميع الناس مستحيل، ولا يخلو الإنسان من مخالطة من ينبغي التماس رضاه كوالديه، وزوجه، ورؤسائه في العمل ونحوهم، فهنا يطلب منه أن يرضيهم بالمعروف وبما لا يخالف الشرع ليستقيم عيشه وتصلح دنياه، قال أبو حاتم البستي: «من التمس رضا جميع الناس التمس ما لا يدرك، ولكن يقصد العاقل رضا من لا يجد من معاشرته بدًّا، وإن دفعه الوقت إلى استحسان أشياء من العادات كان يستقبحها، واستقباح أشياء كان يستحسنها، ما لم يكن إثماً، فإن ذلك من المداراة، وما أكثر من داراى فلم يسلم، فكيف توجد السلامة لمن لا يداري؟»

حدود التعامل مع الخلق وأصوله

ويوضح شيخ الإسلام حدود التعامل مع الخلق وأصوله فيقول: «السعادة في معاملة الخلق: أن تعاملهم لله فترجو الله فيهم، ولا ترجوهم في الله، وتخافه فيهم، ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم، وتكف عن ظلمهم خوفا من الله لا منهم.

      وفي الحديث : «إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، أو تذمهم على ما لم يؤتك الله» فإن اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقنا لا بوعده ولا برزقه، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم من الدنيا، فيترك القيام فيهم بأمر الله ; لما يرجوه منهم، وإما ضعف تصديق بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مؤنتهم، فإرضاؤهم بسخطه إنما يكون خوفا منهم ورجاء لهم; وذلك من ضعف اليقين.

فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين وهو كافٍ عبده {ومن يتق الله يجعل له مخرجا . ويرزقه من حيث لا يحتسب} .

     فالله يكفيه مؤنة الناس بلا ريب، وأما كون الناس كلهم يرضون عنه فقد لا يحصل ذلك لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض، وإذا تبين لهم العاقبة، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا، وأما كون حامده ينقلب ذاما : فهذا يقع كثيرا، ويحصل في العاقبة، فإن العاقبة للتقوى».

وقد قيل: «رضا الناس غاية لا تدرك، ورضا الله غاية لا تترك، فاترك ما لا يدرك، وادرك ما لا يترك». وبالله التوفيق وعليه التكلان.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك