رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: عبدالوهاب السنين 12 نوفمبر، 2018 0 تعليق

رسائل تربوية – السبيل إلى علو الهمة

رسالتنا اليوم عن مسألة غاية في الأهمية، وهي: (علو الهمة)، فالهمة هي الباعث على الفعل، وتوصف بعلو أو سفول قال أحد الصالحين: همتك فاحفظها، فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها، صلح له ما وراء ذلك من الأعمال، والهمة محلها القلب، والقلب لا سلطان عليه لغير صاحبه، وكما أن الطائر يطير بجناحيه، كذلك يطير المرء بهمته، فتحلق به إلى أعلى الآفاق، طليقةًً من القيود التي تكبل الأجساد.

 

     وقد ورد عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه قال: جاء في بعض الآثار قول بعض العلماء: «إنِّي لا أنظر إلى كلام الحكيم وإِّنما أنظر إلى همته» فهذه قضية يجب أن يضعها أيها المسلم بين عينيه، كثير من الناس يتكلمون، ولكن الإشكالية لا نعرف عنهم شيء، إنما هي مجرَّد رسائل تُنقل إلينا من خلال الهاتف فنسمع منهم كلامًا جميلًا، ولكن لا نعرف عن أعمالهم شيء، ولا نعرف ما قدمه هؤلاء من خير، وما قدمه هؤلاء من عطاء أو بذل وتضحية للإسلام والمسلمين، ما قدَّمه هؤلاء من خدمةٍ للمجتمع وخدمة أوطانهم، هذه قضية مهمة، ولذلك نقول: «لا تنظر إلى الكلام بقدر ما تنظر إلى الأفعال» انظر إلى أفعال هذا المتكلم، فإذا تطابقت أقواله مع أفعاله حقًا صح عمله.

كيف تعلو الهمم؟

     من الأمور التي تُساعد الإنسان على علو الهمة هو سمو الغاية والهدف، فغايتك ليست فقط محدودة ومتعلقة فيما تكسبه من أمور الدنيا، فكثير من الشباب لا يعرف له هدفـًا ولا لماذا يعيش، فهو يسير في الدنيا يأكل ويشرب وينام ليموت، وبعضهم الآخر هدفه وغايته رضا الله ودخول الجنة، اجتمع عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة فقال لهم مصعب: «تمنوا»، فقالوا: «ابدأ أنت»، فقال: « ولاية العراق وتزوج سكينة ابنة الحسين، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله» فنال ذلك، وتمنى عروة بن الزبير الفقه وأن يحمل عنه الحديث فنال ذلك، وتمنى عبد الملك الخلافة، فنال ذلك، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة.

     وبعضهم علت همّته وسما هدفه ليسكن الفردوس الأعلى ويصل إلى الدرجات العلا في الجنة، قال أبو بكر رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ دُعِىَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا؟» قَالَ: «نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» (متفق عليه)، فمن أي أصناف الناس أنت؟ وما هو هدفك وغايتك في الحياة؟ لماذا تعيش؟ على قدر هدفك في الحياة تكون قيمتك ومكانتك، وتكون همتك، فصاحب الهدف الصغير يعيش صغيرًا ويموت صغيرًا، وصاحب الهدف السامي الكبير يعيش كبيرًا ويموت كبيرًا، وعلى قدر هدفك وغايتك وصدقك فيه تكون مكانتك في الآخرة. قال ابن القيم رحمه الله: «العامة تقول قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة تقول قيمة كل امرئ ما يطلب». (المدارج). على قدر هدفك تكون حياة قلبك: قال ابن القيم رحمه الله: «إن ضعف الإرادة والطلب من ضعف حياة القلب، وكلما كان القلب أتم حياة كانت همّته أعلى وإرادته ومحبته أقوى» (المدارج).

     ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ورد في الحديث الصحيح: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ»، ولهذا جاء في حديث البخاري قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «ذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَىْ» انظر كيف تكون الهمة؟!

     ولذلك جاء عن ابن كثير وهو يتكلم عن عمر بن عبدالعزيز الخليفة الراشد، يقول وهو يتكلم عن نفسه، يقول: «إن لي نفسًا توَّاقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلمَّا نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة»؛ ولذلك نقول: الإنسان حين تكون له همة يجب أن تكون هذه الهمة عالية، لا تكن همتك في أمور دانية، أمور زائلة، أمور زائفة، فيما يتعلق بالشهوات وغيرها.

القدوة الحسنة

     من الأشياء التي تعلو بها الهمم، أن تكون: « قدوة حسنة» فالإنسان الذي يحرص أن يكون صاحب همة عالية، عليه أن يكون قدوة حسنة، فالقدوة هي المؤثر الذي يحرِّك القلوب، ويستثير الهمم، ويؤثر في النفس أكثر من تأثير المواعظ والبيانات، ويزوّد المرء بقوة الاندفاع نحو العمل بمزيد من الهمة والعزيمة والتحمل الذي لا يمكن أن يتوفر في غياب مؤثر القدوة، ولذلك حينما جاء الأنبياء - عليهم السلام - بأمر ربهم لهداية الخلق لم تقتصر دعوتهم على التبليغ - لأن التبليغ وحده لا يغني عن مثال تربوي حي، يجسد بسلوكه وأخلاقه الأهداف والغايات والقيم التي يدعو إليها - بل كانت مهمة الأنبياء الكبرى التي لا تعدلها مهمة، هي أن يكونوا قدوة لأقوامهم في تطبيق المنهج الإلهي التربوي الذي جاؤوا به، لما للقدوة من أثر كبير جداً على سلوك الآخرين.

هدي النبي - صلى الله عليه وسلم 

     ولذلك لم يُؤثر عن رسول الله أنَّه فعل أمراً مشيناً، أو قال قبيحاً، أو ذكر شيئاً ولم يطبقه، بل كان أول آخذ بما يقوله؛ لأنه كان يمثّل القدوة الأولى لكل المسلمين وفي كلّ زمان ومكان، روى أنس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ»، فكان قدوةً في الصبر، وقدوة في الثبات، وقدوة في الشجاعة، وقدوة في الرحمة، وقدوة في اللين، وقدوة في السخاء، بل كان المثل الأعلى في كل ما دعا إليه، فمثلاً: في غزوة الأحزاب وفي ظل الظروف القاسية التي رافقت تلك الغزوة من شدة الجوع والبرد والتعب، جاءه ثلة من الصحابة وكشفوا عن بطونهم، فإذا بكل واحد منهم قد ربط على بطنه حجراً يخفف به ألم الجوع، فكشف لهم عن بطنه، فإذا به قد ربط عليه حجران! فكان لهذه القدوة أثرها الواضح في ثباتهم وتحملهم، إذ اشتدت عزائمهم، فما زالوا يضربون الأرض بمعاولهم حتى أتموا حفر الخندق قبل وصول المشركين إلى ساحة المعركة.

     لهذا يقول عز وجل: «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ» (الأحزاب: 21). وأقول: لا شك القدوة الحسنة تجعل منك محط أنظار الآخرين فلا تتصرف بما يسيء لهذه الصفة العظيمة، والأسوة الحسنة مرتبة في الآخرة، وتعلو فيها الهمم، وتعلو فيها الأعمال والطاعات إلى الله وهو يتقرب إليه بهمةٍ عالية.

     الإمام أحمد كان يجلس في مجلسه أكثر من خمسة آلاف يتعلمون العلم، فقط خمسمئة قلة قليلة من الخمسة آلاف يُسجلون العلم والباقي أربعة آلاف وخمسمئة طالب علم يجلس ينظر إلى سمته وإلى همته، ينظرون إلى أخلاقه، وينظرون إلى سلوكه، هذه القضية مهمة كما أورد هذه القصة الإمام الذهبي -رحمه الله-، فإذًا القدوة يجب أن تتوفر فيك حتى تكون صاحب همة ونشاط.

همة خبيب

      وفي رواية خُبيب الصحابي الجليل -رضي الله عنه وأرضاه- صاحب الهمة العالية، لمَّا جاءت به قريش وأرادت أن تقتله في الصحراء بعيدًا عن مكة، بدّحوا له الجلد أو البدن فجعلوه يشخُب دمًا، فقال لهم: اتركوني أصلي، فتركوه يُصلِّي ركعتين، فقال: «والله لولا أن تظنوا إنما أطلت في الصلاة جزعًا وخوفًا من القتل؛ لأطلت». لكن هو أراد أن يُصلي؛ طاعةً لله، يتقرَّب فيها إلى الله لا خوفًا من الموت، وإنما ارتفعت وعلت همة هذا الصحابي الجليل فهو يفعل هذا الفعل رغبةً وحبًا لله وطاعةً له.

التخلي ثم التحلي

     كذلك من الأمور التي تساعد على علو الهمم: «التخلي ثم التحلي»، فأعمالُ الخير - كل الأعمال - سواءٌ أعمال قلوبٍ، أم أعمال جوارح - كلما تحلَّى المرء بها، وامتلأ العقل والقلب والجوارح بها أزاحتْ نسبة هذا الخير ما يقابلها تلقائيًّا وتدريجيًّا، ودون عناءٍ، أو مجهودٍ يذكر؛ وكذلك كلما خلا القلبُ الذي هو مَلِك الجوارح وهي له تبعٌ - كلما خلا مِن الشر - حلَّ محله نسبة خيرٍ مساويةٍ للشر الذي قلع منه، وهذا أمرٌ يلْحَظُه كلُّ إنسانٍ منا في نفسه التي بين جنبيه يوميًّا، كلما فعل خيرًا شعر بنسبة سعادةٍ واطمئنانٍ على قدر الخير الذي فعله، وشعر بنقصانِ نسبةٍ مساويةٍ تقريبًا من التعاسة والقلق الذي كان.

     قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في مجموع الفتاوى (7/ 541): «وإذا قامَ بالقلب التصديقُ به والمحبةُ له، لَزِمَ ضرورة أن يتحرك البدَنُ بموجب ذلك مِن الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة، فما يظهر على البدَن مِن الأقوال والأعمال هو مُوجَب ما في القلب ولازِمُه ودليلُه ومَعْلُولُه، كما أنَّ ما يقوم بالبدن مِن الأقوال والأعمال له أيضًا تأثيرٌ فيما في القلب، فكلٌّ منهما يؤثِّر في الآخر، لكنَّ القلبَ هو الأصل، والبدَنَ فرعٌ له، والفرعُ يستمدُّ مِنْ أصله، والأصلُ يَثْبُتُ ويقوى بفَرْعه؛ كما في الشجرة التي يُضْرَب بها المَثَلُ لكلمة الإيمان».

الأكثر أملًا للنفس

     وقد بدأتُ بالتحلِّي قبل التخلِّي؛ لأنه الأيسر والأسرع تنفيذًا، والأكثر أملًا للنفس التي فعلت خيرًا، فيدفعها إلى فعل المزيد من الخير؛ فالشخص الغَضوب مثلًا قد لا يستطيع التخلي عن الغضب لاعتياده عليه، وقد يصاب باليأس أو الإحباط إن كرر المحاولة وفشل، ولكن الأيسر أن ينشغل بالتركيز على ملء قلبه بفعل الخير، وما يعود نفعه على نفسه وعلى الناس، ويفعل ذلك مخلصًا لله، محبًّا لربه، وكذلك إذا دعا الله خالصًا من قلبه، واستغفر، وذكر الله كثيرًا، وقام بالصلاة، وقراءة القرآن، وغير ذلك - نَسِيَ الغضب الذي هو من الشيطان، وغيره من الصفات الذميمة؛ كما قال الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (محمد: 17)؛ فتذوق نفسُه حلاوة السعادة، وينْزاح عنها الشرُّ، وتتقلص مساحته جدًّا، بل النفس عندما تتشبع بالحق تصبح تلقائيًّا تكره الشر كرهًا شديدًا، بل ويُصيبها بالمرارة، وكلُّ إنسانٍ يعلم هذا من نفسه، فالشابُّ المنحرفُ الذي يصاحب الفتيات ويَفعل الموبقات لو جلس مدةً من الزمان مع قومٍ يخشون الله، وشاركهم في أورادهم وعباداتهم - إذا رجع بعد فترةٍ وقابل صُحْبته القديمة، نفر منهم، وشعر بالوحشة معهم، بل قد يدفعه ذلك اللقاء إلى الندم والبكاء وعدم العود إلى المَعاصي.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك