رد الشبهات حول دور العلماء في بيان أخطاء الفرق المنحرفة (4) هل التفجيرات والاغتيالات من الجهاد المشروع؟
الطعن في أهل العلم والفضل مزلة خطيرة العاقبة، واتخاذ ذلك منهجًا وديدنًا من علامات البوار الظاهرة، وكثيرًا ما يكرر الغلاة حينما يجابَهون بأقوال العلماء المعاصرين الثقات التي تبين مناهجهم المنحرفة، بأن هؤلاء العلماء ما هم إلا علماء سلطان، وأذناب الطواغيت؛ فلا يعد قولهم ولا يؤخذ بأدلتهم، ونحن في هذه السلسلة سنذكر أهم الشبه التي يثيرها هؤلاء حول مواقف العلماء وأقوالهم في مناهج الفرق المنحرفة والرد عليها.
الشبهة الرابعة:
يقول أحدهم: إن الذل الذي أصاب الأمة بسبب ترك الجهاد، وقد قال صلى الله عليه وسلم : «إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًا، لاينـزعه حتى ترجعوا إلى دينكم». أخرجه أبو داود، وإذا كان ذلك كذلك؛ فنحن نريد أن نعيد للأمة عزَّها، ونرفع عنها الذل، ولا يكون ذلك إلا بالجهاد، فلماذا تنكرون علينا ؟!
الجواب على الشبهة:
لاشك أن ترك ما أمر الله به، والوقوع فيما نهى الله عنه سبب عظيم في إذلال هذه الأمة وإهانتها، ونسأل الله -عز وجل- أن يحيي قلوبنا بالإيمان، وأن يرزق المسلمين العزيمة عند ورود الشهوات، والبصيرة عند ورود الشبهات، واعلم بأن رفع هذا الذل لا يكون بالتفجيرات والاغتيالات؛ فإن هذه الأمور زادت الأمة إهانة وإذلالًا، والشرَّ كثرة واستفحالا، والعدوُّ تسلطًا واختيالا!!
كلمة الله هي العليا
إن الجهاد في سبيل الله ما شُرِع إلا لتكون كلمة الله هي العليا، كما قال -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}، ويقول -سبحانه-: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ}، وقال -عز وجل-: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}؛ ففي هذه الآيات بيان للغاية المرجوة -في الدنيا- من وراء القتال؛ فمن ذلك دخول الناس في دين الله -عز وجل - وانتهاء الكفار عن كفرهم، وخزيهم، وشفاء صدور المؤمنين، وإذهاب غيظ قلوبهم، وأن يحل الأمن في ثغور بلاد المسلمين -فضلًا عن بيضة الإسلام وحوزته- فأين هذه المصالح العامة النافعة، والبركات السابغة من آثار التفجيرات التي سبق ذكرها؟!
التفجيرات والاغتيالات
وقد سئل الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله تعالى- عمن يستدل على جواز التفجيرات والاغتيالات بكون الجهاد ماضيًا إلى يوم القيامة، فقال -حفظه الله تعالى-: «نعم، الجهاد ماض إذا توفرت شروطه ومقوماته؛ فهو ماض، أما إذا لم تتوفر شروطه ولا مقوماته؛ فإنه يُنْتظر حتى تعود للمسلمين قوتهم، وإمكانيتهم، واستعدادهم، ثم يقاتلون عدوهم، أنت معك مثلًا سيف أو بندقية، هل تقابل طائرات وقنابل وصواريخ؟ لا؛ لأن هذا بأس شديد، قال الله -تعالى-: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، وهذا يضر بالمسلمين أكثر مما ينفعهم - إن كان فيه نفع».اهـ.
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: «فمن ولي ولاية، يقصد بها طاعة الله، وإقامة مايمكن من دينه ومصالح المسلمين، وقام فيها ما يمكنه من الواجبات، واجتناب ما يمكنه من المحرمات لم يؤاخذ بما يعجز عنه، فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار، ومن كان عاجزًا عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد؛ ففعل ما يقدر عليه من النصيحة بقلبه، والدعاء للأمة، ومحبة الخير، وفَعَلَ ما يقدر عليه من الخير لم يُكلف ما يعجز عنه، فإن قوام الدين بالكتاب الهادي والحديد الناصر، كما ذكره الله -تعالى».اهـ.
فساد وليس بجهاد
هل هؤلاء الشباب يدركون أن أمة الإسلام غير قادرة -بسبب تفريطها- على المواجهة، أم لا ؟ هل هؤلاء الشباب يسلِّمون بأن الجهاد ضَرْب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا كان سيؤول أمره إلى شر أكبر؛ فهو فساد وليس بجهاد ؟!
الجهاد له شروط
إن الجهاد له شروط، منها: القدرة على إنزال النكال والنكاية بالعدو الذي يحول بين الناس وبين ربِّهم، وأن يؤول أمر الجهاد إلى عز وقوة، لا إلى ذل وضعف،فأين هذا كله من صنيعكم ؟!
ألا تعلمون أن الله -عزوجل- لم يشرِّع الجهاد بالسيف إلا بعد القوة والتمكين للمسلمين؟ وأما قبل ذلك فقد أمر الله المؤمنين بالكف، وقد كان هناك من يحب أن يشفي قلوب المؤمنين في الكفار؛ فَنُهُوا عن ذلك - كما يشير إليه قوله -سبحانه وتعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}، الآية وقوله صلى الله عليه وسلم -وقد استؤذن في قتال الكفار-: «إني أُمِرْتُ بالعفو؛ فلا تقتلوا القوم».
ولقد تدرج الأمر بالقتال حسب أطوار قوة المسلمين وضعفهم، وقد سبق كلام الأئمة فيما يجب على المسلم حال الاستضعاف، وما يجب عليه حال التمكين والاستخلاف، فهل راعى هؤلاء الشباب هذا كله ؟!
علاج الواقع لا يكون الشغب
والحديث الذي استدلوا به - وهو قوله صلى الله عليه وسلم : «إذا تبايعتم بالعينة» الحديث، إنما يتكلم عن واقع أليم، وعلاج هذا الواقع لا يكون بهذا الشغب، إنما يكون بالدعوة إلى الله -عز وجل- والقيام بما أمكن من الدين، وتَرْك ما نعجز عنه، أَوْ ما يجرّ علينا شرًّا أكبر، وسيأتي الله بكل شيء في وقته، وعند ذاك يفرح المؤمنون بنصر الله -عز وجل- أما هذا الحال؛ فإنه يؤخِّر النصر، ويُهلك الحرث والنسل، ويُذهب ما بقي من خير، ويسلِّط العدو ويُجَرّئه، ويبعثر الطاقات والجهود، ويهدم ما علا من البنيان، ويُمرض قلوب المؤمنين، ويُذْهب وُدَّ قلوبهم، وكما قيل: بآثارهم يعرفون!! ثم إن الحديث فيه: «حتى ترجعوا إلى دينكم»، ولم يقل: حتى ترفعوا راية الجهاد فقط!! والجهاد جزء من الدين، وليس الدين كله!!
الرجوع إلى الدين
فطلب العلم، وتعليمه الناس، والدفاع عن العقيدة، وإزالة الشبهات، والذب عن الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه -رضي الله عنهم- وأئمة الدين سلفًا وخلفًا، وطباعة كتب السنة ونشرها، وتقريرها في المدارس والجامعات، والقضاء بالشريعة، وإقامة الحدود، وبذل الخير والنفع للناس شرقًا وغربًا، وشمالا ويمينًا، ونشر الفضيلة، ومحاربة الرذيلة، وإقامة الصلوات، وإيتاء الزكوات، وصيام رمضان، وحج البيت، وتربية الأولاد على الصدق والعفاف والصلة، إلخ، كل ذلك من الرجوع إلى الدين، وكثير من ذلك مُمْكِنٌ وميسور -في الجملة ولله الحمد- لمن اشتغل بذلك، فكيف نسعى إلى ما نعجز عنه، ونهمل ما نستطيع القيام به؟!
الجهاد نوعان
وقد قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: «فقوام الدين بالعلم والجهاد؛ ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان، وهذا المشارِكُ فيه كثير، والثاني: الجهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين، لعظم منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه، قال -تعالى- في سورة الفرقان وهي مكية: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا! فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}؛ فهذا جهاد لهم بالقرآن، وهو أكبر الجهادين، وهو جهاد المنافقين».اهـ.
وقال -رحمه الله تعالى-: «فالفروسية فروسيَّتان: فروسية العلم والبيان، وفروسية الرمي والطعان، ولما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في الفروسيَّتَيْن؛ فتحوا القلوب بالحجة والبرهان، والبلاد بالسيف والسنان، وما الناس إلا هؤلاء الفريقان، ومن عداهما؛ فإن لم يكن رِدْءًا وعونا لهما؛ فهو كَلٌّ على نوع الإنسان.
وقد أمر الله -سبحانه وتعالى- رسوله بجدال الكفار والمنافقين، وجلاد أعدائه المشاقِّين والمحاربين، فَعِلْم الجدال والجلاد من أهم العلوم وأنفعها للعباد، في المعاش والمعاد، ولا يعدل مدادَ العلماء إلا دمُ الشهداء، والرفعة وعلو المنـزلة في الدارين؛ إنما هي لهاتين الطائفتين، وسائر الناس رعية لهما، منقادون لرؤسائهما».اهـ.
فإن قيل: ها هو ذا الإمام ابن القيم ذكر فضل الجهاد!!
فالجواب: ومن الذي يُنكر الجهاد الشرعي وفضله؟! لكن النـزاع معكم في توافر شروط الجهاد من عدمها، وقد سبق من كلام الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- ما صرح في كون الخروج على ولاة الأمور سبب الفتن الكبار والصغار التي دخلت على الإسلام على مَرِّ السنين.
فهناك فرق بين حالة الضعف وحالة القوة، وبين الوالي المسلم -وإن جار- وبين الكافر الأصلي، أو من طرأ عليه الكفر الأكبر، والمسلمون عاجزون عن إزالته.
والمراد من نقل كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى - بيان الجهاد بالعلم والدعوة، وأنه أعظم الجهادين، وأنتم تتهمون أهله بأقبح التهم، فالله المستعان!!
لاتوجد تعليقات