رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: عبدالحق التركماني 6 يونيو، 2017 0 تعليق

رداً على التفسير النفعي للعبادات – الصيام عبادة دينية وليس رياضة دنيوية

 

من المسائل المهمة التي ينبغي أن ننتبه إليها، ونتفقَّه فيها؛ كلما استقبلنا هذا الضيفَ العزيز: شهرَ رمضان المبارك، شهرَ الصيام والقيام وتلاوة القرآن، شهرَ الخيرات والبركات والرحمات.. هذه المسألة المهمة وهي تصحيحُ النيَّة، وتحقيقُ الإخلاص لله -عزَّ وجلَّ- في هذه العبادة، والحذرُ من كلِّ ما يُفسد النيةَ، وينافي الإخلاص، ومن هذه الأمور التي تقدح في النية والإخلاص ما ظهر في هذا العصر من النظرة النفعية للصيام، لهذا كان لا بدَّ من التحذيرِ من التفسير النفعي للصيام ونقْضِه وبيانِ فساده، لماذا كتب الله علينا الصيام؟ ما حقيقة الصيام وما مقصِدُه وغايتُه؟ ما التفسير النفعي للصيام؟ هل الصيام وسيلة للصحة البدنية والنفسية والاجتماعية؟ أم أَنه عبادةٌ خالصةٌ لله عزَّ وجل؟ وهل صحيحٌ ما يدَّعيه بعضهم من الإعجاز العلميِّ في الصيام بالشفاء من كثيرٍ من الأمراض؟ هذه الأسئلة سأحاول الإجابة عنها في هذه المقالة.

دعوةٌ منحرفة

     لقد ظهرت في الأمة دعوةٌ منحرفة، مُفسِدةٌ لحقائق العبادات وغاياتِها، ومنها عبادةُ الصيام، فإنه مع كلِّ إطلالةٍ لشهر رمضان المبارك، يتكلَّم كثير من الخطباءِ والوعاظ والدُّعاة وعامَّةِ المثقَّفين في حكمة الصيام والغاية منه، فتذكر طائفةٌ من مشاهيرهم، وممن لهم تأثير في عامة المسلمين: أنَّ الصيام علاج من الأمراض، وصحة للأبدان، وتدريب للنفوس، وتذكير بأحوال الجياع والفقراء.

     وهذا اللَّون من الخطاب يستهوي كثيرًا من الناس، حتى صاروا يعتقدون أن هذا مقصِدُ الصيام وغايتُه، لهذا بدؤوا يهتمُّون بهذا الجانب اهتمامًا بالغًا، لا يخلو من المبالغة، بل ومن الكذب أيضًا، كما نراه في وسائل الإعلام، ولاسيما في مواقع الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي.

     يظنون أنَّ هذا من الأساليب الصحيحة في حثِّ المسلمين على الصيام، كما أنَّ فيه دعوةً لغير المسلمين وبيانًا للإعجاز العلميِّ في التشريع الإسلامي، فيذكرون معلوماتٍ كثيرةً في تأثير الصوم في الشِّفاء من كثير من الأمراض.. وأكثرُ تلك المعلومات غيرُ موثَّقة، أو مبالَغ فيها، وبعضُها كذب واختلاق.

     وأكثرُ المتكلِّمين بهذا، وكذلك أكثرُ المتلقِّين لهذا، والمتأثرين بهذا الخطاب؛ لا يعرفون حقيقةَ هذا التفسير لمعنى الصيام وغايته، ولا يدركون ما وراءَه مِن فكرٍ منحرفٍ، ودعوةٍ ماديةٍ خطيرة، لهذا كان من الأهمية بمكان أن نبيِّن حقيقة هذا الخطابِ والتفسيرِ لمعنى الصوم، وننقض أصولَه وشبهاتِه.

فلسفة نفعية

     فأول ذلك: أنْ نعلم أن هذا التركيزَ على الجوانب النفعية المادية للصيام، هو جزءٌ من فكرٍ ومنهجٍ وفلسفةٍ يفسِّر الدِّينَ كلَّه تفسيرًا نفعيًّا، بمعنى: أنه ينظر إلى الدِّين بأنه وسيلةٌ لتحقيق مصالحَ دنيويَّةٍ للبشريَّة، مِثْلَ: إقامةِ العدل، وإعمارِ الأرض، وإصلاح المجتمع، وهذا ما نُعبِّر عنه بالتفسير النفعي للإسلام، أي: افعل هذا فإنه نافع لك، ولا تفعل هذا فإنه ضار بك؛ فتصبح القاعدةُ في النظر إلى الدِّين هي النظرةُ النفعية، لا تحقيقَ العبودية لله عزَّ وجلَّ.

تحريف حقيقة الدين

     ويكمنُ خطر هذا التفسيرِ النفعي للإسلام في أنه يحرِّف حقيقة الدين وغايته المتمثلة في (العبادة)؛ فيرى أن العبادة وسيلةٌ وأداة لتحقيق المصالح الدنيوية، فالصلاة تمارين رياضية، ودورة تدريبية، والصيامُ صحة بدنية وتربية نفسية واجتماعية، والحجُّ مؤتمر سياسي.. وهكذا يُفسِّرُ هذا الخطاب، وهذا المنهج: يفسِّرُ كل أصل من أصول العبادة، وكل لون من ألوان العبادة بالآثار والنتائج والثمار الدنيوية والمادية التي يمكن أن تترتب عليها، ويبالِغُ في ذلك؛ بحيث تُصبح تلك النتائجُ والآثارُ إن صحَّت وثبتَتْ هي الغايةَ والمقصِدَ من العبادة والتشريع والدِّين كله.

     إنَّ التفسير النفعي للدين له جذور فلسفية وصوفية، كما أنه من أبرز الاتجاهات الفكرية في العالم الغربي، وليس المقصود هنا أن أتعرض له بالتفصيل، وقد سبق أن تكلمتُ في هذا، وكتبتُ فيه في مناسبات أخرى، وإنما المقصود هنا أن نبيِّن خطورةَ التفسير النفعي للصيام، ونثبت فساده وبطلانه.

     وأذكر لكم نموذجًا من ذلك التفسير النفعي للصيام، وستجدون نماذج كثيرة في محاضرات الدُّعاة الجُدُد وكتاباتهم، ولكنني أكتفي بنقل واحد عن الشيخ الدكتور مصطفى السباعي المتوفَّى سنة أربعٍ وستين وثلاث مئة وألف، وهو صاحب المؤلفات المشهورة، وكان عميدًا لكلية الشريعة بجامعة دمشق، فنحن هنا لا نتكلَّم عن متطفِّل على مائدة العلم، ولا عن داعية من دعاة الفضائيات، ومع ذلك نجده يفسِّر الصيام تفسيرًا نفعيًّا، بعيدًا عن حقيقة العبادة وغايتها.

     ذكر الدكتور مصطفى السباعي في كتابه (أحكامُ الصيام وفلسفَتُه في ضوء الكتاب والسنة) أنواعَ الناس إزاء الصيام ونظرتَهم إليه، فذكر من يفطر في رمضان كفرًا وجحودًا، ومن يفطر كسلاً وتهاونًا، ومن يرى في رمضان موسمًا سنويًّا للموائد الزاخرة بألوان الطعام والشراب، وفُرْصةً جميلةً للسمر واللهو الممتد إلى بزوغ الفجر؛ فهذه الأنواع الثلاثة لم يعرفوا حقيقة الصيام ولم يدركوا غايته، كما شرحه الدكتور السباعي، وأصاب في ذلك، ثم ذكر الصنف الرابع وهم الذين فهموا حقيقة الصيام وحكمته وغايته فقال الشيخ مصطفى السباعي: «ومنهم: وهم الأقلون؛ يرون في رمضان شهرًا غير هذا كلِّه، وأجلَّ من هذا كلِّه، يرون فيه: دورة تدريبية، لتجديد معانٍ في نفوس الناس من: الخلق النبيل، والإيثار الجميل، والصبر الكريم، والتهذيب الإلهي العظيم» ثم ذكر كلامًا طويلًا في تقرير هذه المعاني وشرحها، فربطها بالاجتماع وبالمعركة مع الأعداء، وجعل رمضان تعبئة للقوى النفسية والروحية والخلقية التي تحتاجها الأمة في الحياة، ووسيلة لنيل الحقِّ والقوة والحرية.

     ولا شكَّ أن هذا الكلام في بيان حقيقة رمضان وغايته؛ كلام فاسد، وتقرير باطل، وهو مفسِدٌ لمعنى العبادة، مبطلٌ لغايتها.. ونحن لا ننكر أن من ثمار وآثار الصوم الصحيح الخالص لوجه الله تعالى، من ثمراته وبركاته : زكاة النفس، واستقامة السلوك، وتهذيب الأخلاق، وكذلك قد يكون للصوم مدخل في الصحة البدنية والنفسية.

لكن المقصود هنا: التنبيه على خطورة هذا المنهج الذي يجعل الثمار والنتائج هي الغايات والمقاصد.

     نجد اليوم كثيرًا من الخطباء والدعاة والكُتَّاب من الإسلاميين الحركيين ومن تأثر بخطابهم يبالغون في بيان فوائد الصوم وثماره الصحية والنفسية والاجتماعية، ويفصِّلون في ذلك تفصيلاً مبالغًا فيه، ويتوسعون توسُّعًا غير محمود فيذكرون كلام الأطباء والتقارير الغربية في التداوي بالصيام وفوائده.

     ولقد كان لخطابهم هذا وما يزالُ أسوأُ الأثر في إضعاف جانب التديُّن والتعبُّد والإيمان والاحتساب عند المسلمين في صيامهم، إذ شغلوهم بالآثار والنتائج المادية الظنيَّة الممكنة لا الواجبة عن الغايات والمقاصد التعبديَّة المحضة الواجبة، حتى صارت تلك الآثار والنتائج هي الغاية والمقصد في أذهان أكثر المسلمين.

ولا شكَّ أنَّ تركيزهم على الجانب النفعيِّ والمادي والاجتماعي من آثار الصوم، والمبالغة في ذلك حتَّى تكون في مرتبة الغاية العليا؛ جزءٌ من تفسيرهم الماديِّ والنفعي والسياسي لدين الإسلام وحقائقه ومقاصده، كما ذكرتُ آنفًا.

ولا عجب بعد هذا؛ أن يخرج علينا في الضفَّة الأخرى بعض الملاحدة فيكتبوا في مساوئ الصيام وأَضراره، ويذكروا في ذلك تقارير طبيَّة، ثم يجعلوا ذلك مدخلاً للطعن في الدين!

     فيقال لهؤلاء الملاحدة: إطلاق القول بضرر الصوم باطل بيقين.. لماذا؟ لأن الأطباء مجمعون على أن الصومَ المعتدل مفيدٌ للأصحاء ولكثير من المرضى، ولهذا يعالجون مرضاهم بأنواع من الصيام، ولا يقصدون بذلك التديُّن أصلاً. وهذا معروف عند جميع الأمم.

     ويقال لهم أيضًا: من قال لكم: إنَّ الصيام لا يمكن أن يضرَّ بعض الأصحاء؟! وأنه مفيدٌ للمرضى بإطلاق؟! فإن غرَّكم خطاب أولئك الإسلاميين، فقابلتم باطلاً بباطلٍ، ثم زدتم عليه كُفرًا وإلحادًا؛ فهذا كتابُ الله تعالى بيننا، فيه التصريحُ بأمرين واضحين جليَّين لا لَبْسَ فيهما ولا غموض:

- الأول: أن الصيام شُرع لتقوى الله وعبادته، وليس فيه ذكر فائدة صحية أو نفسية أو اجتماعية.

- الثاني: أن المريض يُشرعُ له الفطر.

أما الأمر الأول: أعني بيان الغاية من الصيام: فقد بيَّن الله تعالى الغاية التي من أجلها فرض الصوم علينا وعلى الأمم من قبلنا فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}،.

وهذا نصٌّ صريحٌ لا يقبل تأويلاً ولا تحريفًا في أنَّ مقصدَ الصيام وغايتَه هي: (التقوى)، لا غير، وكلام علماء الإسلام في تفسير التقوى في هذا الموضع لا يخرج عن أحد معنيين لا ثالث لهما:

- المعنى الأول: أن المقصودَ اتِّقاءُ نفسِ محظورات الصَّوم، أي : لتتَّقوا أكل الطعام وشرب الشَّراب وجماع النِّساء فيه. فالصوم نفسه: التقيُّدُ بأحكامه واجتنابُ نواقضه.. هذا نفسُه هو التَّقوى، لأنك تطيع الله تعالى فيه وتلتزم بحُكمه. وهذا رأيُ شيخِ المفسرين الإمامِ محمدِ بنِ جريرٍ الطبريِّ رحمه الله.

- المعنى الثاني: أنَّه لبيان الغاية وهي تقوى الله عزَّ وجلَّ، أي: أن الصيام شرعه الله تعالى، وكتبه علينا: لغايةٍ وهدف، لكي يكون سببًا وعونًا لنا على تقوى الله -تعالى- ومراقبته؛ لأنَّ الصَّومَ وَصْلَةٌ إلى التَّقْوَى؛ لِمَا فيه منْ قَهْرِ النَّفْسِ وكَسْرِها، وترك الشهوات. وبهذا قال أكثر المفسرين كالإمام البغوي وابن الجوزي وابن كثير.. وغيرهم -رحمهم الله- وهذا المعنى الثاني أظهر وأقوى، وهو متضمِّن للمعنى الأول وزيادة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك