رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: وائل رمضان 22 مارس، 2018 0 تعليق

رئيس اللجنة العلمية بجمعية إحياء التراث الإسلامي في حوار مع مجلة الفرقان- الشيخ محمد الحمود النجدي يروي تجربته مع العمل الدعوي

  

 

المتابع لمسيرة الدعوة الإسلامية في الكويت، ولاسيما الجمعيات ذات المنهج الوسطي المنضبط بالكتاب والسنة وفهم سلف الأمة، يرى ثمرات هذه الدعوة في ترسيخ مبادئ الشريعة السمحة، والوسطية المستنيرة، وبرغم الجهود الدعوية الكبيرة التي تبذلها المؤسسات الدعوية الرسمية والأهلية، إلا أن هناك بعض التراجع والضعف في إقبال الشباب على العمل الدعوي، وطلب العلم، كما كان من قبل في بدايات الصحوة الإسلامية، وللوقوف على هذه الظاهرة وغيرها من الأمور المتعلقة بالدعوة الإسلامية عمومًا، كان هذا اللقاء مع رئيس اللجنة العلمية بجمعية إحياء التراث الإسلامي الشيخ محمد الحمود النجدي -حفظه الله, وقد سألته الفرقان في الحلقة الأولى من هذا الحوار حول تراجع العمل التربوي والدعوي في السنوات الأخيرة، وعن تجربته في العمل الدعوي، وأيهما أنفع لطالب العلم التخصص أم الدراسة العامة، وأسباب الهجوم على العلماء؟ ونصيحته لطلبة العلم الذين يتعصبون للمذهب وللرأي.

أزمة أخلاق

- لا يجادل أحدٌ اليوم في أنّ هناك أزمة في التربية والأخلاق تجتاح الأمة الإسلامية ، وتغير معالم الشخصية المسلمة، وهو ما يدعو إلى اهتمام العلماء والدعاة والوعّاظ، والمربين من المعلمين والآباء والأمهات، وتدعو بإلحاح إلى علاجها وتأمل أسبابها.

شخصية إسلامية

      والتربية الإسلامية هي بناء هذا الإنسان، وتنمية جوانب الشخصية الإسلامية جميعها فيه، العقلية والخُلقية والعاطفية والجسدية والاجتماعية، وتوجيه سلوكه وأخلاقه على أساس مبادئ الإسلام وتعاليمه السامية، بغرض تحقيق أهداف وجود هذا الإنسان في هذه الدنيا.

فالتربية الإسلامية إذاً: هي النظام التربوي الرباني القائم على الإسلام الصحيح، بمعناه الكامل والشامل، المستقى من الكتاب الكريم، والسنة النبوية، وبفهم سلف الأمة.

مسؤولية العلماء

     والتربية على الأخلاق الفاضلة ، وتعليم الناس الخير، هي مسؤولية العلماء والخطباء والدعاة إلى الله -تعالى- أولاً؛ فهي مدار بعثة النبي؛ حيث قال الله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ويُعلّمهم الكتابَ والحكمة وإنْ كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين}(الجمعة: 2). فقوله: {ويُزكيهم } التزكية هي التربية الإيمانية، وهي أسمى ما يُربى عليه الفرد والجماعة، بتحقيق العبودية لله رب العالمين، وإخلاص العبادة له، والسلامة من الشرك. 

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: «ويزكيهم: يطهرهم من رذائل الأخلاق، ودنس النفوس، وأفعال الجاهلية».  وهو أول ما يجب على الوالدين؛ حيث إنهما المحضن الأول للناشئة، والمدرسة الأولى للطفل، وبهما يتعلم مبادئ العقيدة وأصول الأخلاق.

الفطرة السليمة

     وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما: عن أبي هريرة رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما مِنْ مولودٍ إلا يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنْصرانه أو يُمَجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تُحسون فيها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه : {فطرةَ الله التي فَطَر الناسَ عليها لا تبديل لخَلق الله ذلك الدين القيم}.  فقد دل هذا الحديث على أنّ الأصل في كلّ مولودٍ أنه يولد مسلماً موحّدا، وأنّ التهود أو التنصر أو التمجس أمرٌ طارئ على أصل الفطرة، قال الحافظ ابن حجر كما في فتح الباري: الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه، بل إنما حصل بسببٍ خارجي؛ فإنْ سَلِم من ذلك السبب، استمر على الحق».  انتهى

العناية بالأبناء

فالطفل متهيئ للتوحيد خلقةً، وللاستقامة على دين الله -تعالى- واتباع رسله.

     ولهذا يجب على المسلم العناية بالأهل والأبناء، وتوجيههم لما يُصلحهم كما أمرنا الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(التحريم : 6) ، قال علي] في قوله -تعالى-: {قوا أنفسكم وأهليكم نارا} أدّبوهم وعلّموهم.

وروى أبو داود : عن عَمْرِو بن شُعَيْبٍ عن أَبيه عن جده قال : قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : «مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاة وهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سنِينَ ، واضْرِبُوهُمْ عليها وهُم أَبْناءُ عَشْرٍ، وفَرِّقُوا بيْنَهم في المضَاجِعِ».

أمانة التعليم

     وهذه التربية والتعليم للأهل والولد، أمانة يُسأل عنها الناس يوم القيامة، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: «كلُّكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته: الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعيةٌ في بيتِ زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤولٌ عن رعيته، فكلكم راع ومسؤولٌ عن رعيته». متفق عليه

     فالتربية إذاً عملية ضرورية لكل من الفرد والمجتمع معا؛ فضرورتها للفرد تكون بالمحافظة على بدنه وقلبه وروحه، وتوجيه غرائزه، وتنظيم عواطفه، وتنمية ميوله بما يتناسب ودينه وأخلاق أمته العظيمة؛ فالإسلام يسعى إلى إعداد الفرد وتكوينه ليكون عضواً نافعاً، وإنساناً صالحاً في الحياة.

الحياة المعاصرة

     والتربية أيضاً ضرورية لمواجهة الحياة المعاصرة اليوم بما فيها من انحرافات فكرية وعقائدية وأخلاقية، ولا بد أنْ نعلم أن تنظيم السلوكيات العامة في المجتمع، فرع عن تربية الفرد في البيت والمدرسة. لذا اهتم العلماء المسلمون بقضية تربية الأولاد، ويتضح ذلك أيضاً من خلال ما دونوه في مؤلفاتهم وكتبهم مما يتعلق بأخلاق العالم والمتعلم، وأهمية التربية في القرآن والسنة، أو بيان أساليبها المتنوعة ووسائلها أو ثمراتها.

طلب العلم

- طلب العلم من أعظم القربات، والفضائل الواردة فيه كثيرة في القرآن والسنة ، وهو من العبادات العظيمة ، بل هو أفضل من نوافل الصلاة والصيام، وهو نوعان :-

النوع الأول : فرض عين على كلّ مسلم ومسلمة: وهو ما يحتاجه الإنسان في معاملته لربه، ومن ذلك : تعلم العقيدة والتوحيد وأركان الإيمان ولو إجمالاً، وكذا تعلم أحكام الإسلام والفرائض كالصلاة والصيام والزكاة - لمن عنده مال يزكيه - والحج لمن أراد أن يحج، ونحو ذلك من العبادات.  وكذلك منه: ما يجب معرفته في معاملته للناس، من الأبوين والأرحام والزوجة والولد والأصحاب والجيران، ومنه: تعلم أحكام البيع والشراء بقدر حاجته له ، وكذا تعلم أحكام النكاح والطلاق والحقوق الزوجية والأولاد، وكذا أحكام الأطعمة والأشربة والألبسة وغيرها من الأبواب الضرورية.

والنوع الثاني من العلم : فرض كفاية:

     وهو التخصص في العلوم الشرعية والتبحر فيها، كحفظ القرآن والسنة، وتعلم التفسير والحديث، والفقه وأصول الفقه، والنحو والعربية، وغير ذلك من العلوم الشرعية؛ وكذلك العلوم الدنيوية كالطب والهندسة وعلوم الصناعات الحربية وغيرها مما تحتاجة الأمة، هي من فروض الكفايات.  وما من علم من علوم الشريعة المباركة إلا والأمة محتاجة إليه، على تفاوت في ذلك من حينٍ لآخر، ومن بلد لآخر، وهناك مجالات كثيرة تحتاج إلى مَنْ يُتقنها أفراد من المسلمين، ويبذل وسعه في تعلمها وتعليم الناس إياها، كالقرآن وعلومه، والعقيدة وتفصيل مسائلها، والفقه وما يتعلق به من أصول وقواعد.

والذي ننصح به الطلاب أنْ يُلم بالأصول من كل علم أولاً  ، ثم يتخصص في المجال الذي يفتح الله عليه فيه؛ من حيث الفهم والتحصيل والميول له والرغبة فيه.

الهجوم على العلماء

- نعم إنّها سنّةٌ من سنن الله الماضية، لكلّ من سَلك سبيل الأنبياءِ والرّسل، واقتفى آثارهم، بل قد حوى القرآن الكريم الأخبار الكثيرة مِن قَصَصِ الرّسل مع أممِهم، وما نالهم منهم مِن الأذى باللسان، والوصف بأبشع الأوصاف من اتهامهم بالكذب والجنون والرغبة في الملك والسيادة وغيرها من الاتهامات الباطلة .

     فلا غرابة أن يَظهر لمثل هؤلاء العلماء الأعلام الأفذاذ مَن يغمِسون ألسنتَهم في أعراضهم، ويبسطونها بإصدار الأحكامِ عليهم جزافاً دون علم، والتّشكيكِ فيهم، وإلصاقِ التّهم بهم، وطمسِ محاسنهم، والتّشهير بزلاّتِهم الّتي لا يَسلَم منها عالم، ولا شكّ أنّ هذا من سنن الله -عزّ وجلّ- الّتي قدّرها على أهلِ الحقّ إلى يومِ الدّين؛ فإنهم يُبتلون ويُمتحنون؛ فيَصبرون ويُبدلهم الله على ذلك رِفعةً في الأرض وتمكينًا، قال الله -عزّ وجلّ- لنبيّه صلى الله عليه وسلم : {ما يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ}.

الوفاء بحق العلماء

     ومِن باب حِفظ كرامة العالم ، والذَبِّ عن عِرضه وتعظيم حُرمته، يتحتّم علينا -معاشر المسلمين- أنْ نفي بحقِّ علمائِنا، ونردّ شيئًا مِن جميلهم، بالعملِ على دَفعِ ما مِن شأنه أنْ يخدِشَ كرامتَهُم، أو يَنتهِك حُرمتَهُم ، أو ينتقِصَ من عِرضَهُم، أو يُقلِّل من شأنَهُم، ونَدفع الشّبهةَ بالدَّليل، والظَنّ باليقين، والجهل بالعِلم، مُحتسبين في كلّ هذا عظيمَ الأجر .اغتياب العلماء

وقد يظن بعض من لا يعلم من الناس، أن الرد على من خالف في مسألة علمية عقدية كانت أم فقهية أم غيرها، أن هذا اغتياب للعلماء وطعن فيهم! وليس ذلك كما ظنوا؛ لأن الغيبة سب الناس، أو وصفهم بالأخلاق الرديئة، وذكرهم بالفواحش.

     قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في كتابه: (الفرق بين النصيحة والتعيير): فأما هفوة فى حرف ، أوزلة فى معنى، أو إغفال أو وهم، أو نسيان؛ فمعاذ الله أن يكون هذا من هذا الباب، أو أن يكون له مشاكلا أو مقاربا، أو يكون المنبه عليه آثما، بل يكون مأجورا عند الله، مشكورا عند عباده الصالحين، الذين لا يميل بهم هوى ، ولاتداخلهم عصبية، ولا يجمعهم على الباطل تحزب، ولايلفتهم عن استبانة الحق حسد .

الرضا بالسلامة

وقد كنا زمانا نعتذر فيه عن الجهل؛ فقد صرنا الأن نحتاج الاعتذار من العلم! وكنا نؤمل شكر الناس بالتنبيه والدلالة؛ فصرنا نرضى بالسلامة، وليس هذا بعجيب مع انقلاب الأحوال، ولاينكر مع تغير الزمان، وفى الله خلف وهو المستعان.

هكذا يتوجع الحافظ ابن رجب, من أُناس حملهم التعصب لأئمتهم، على المنع من الرد عليهم، والبيان للحق والصواب في المسائل الشرعية .

التعصب للرأي

- الإسلام ذمّ التعصب للرأي ، والشرع نهى عنه، سواء أكان التعصب لرأي، أم لشخص أم قبيلة أم بلد أم غيره, بل ونسب الإسلام العصبية إلى الجاهلية، ووصفها بالمنتنة تقبيحاً لها، وتنفيراً من شأنها، والعصبية لها أنواع شتى؛ فمنها العصبية من أجل الدنيا، كعصبية الرجل لرأيه ، ومبالغته في انتصاره لنفسه, وكعصبية الرجل لولده وأهله وقبيلته, وكعصبية الرجل لبلده وجنسيته وازدرائه من دونه من الجنسيات ولو كانوا مسلمين! ومنْ صور العصبية المعاصرة : التعصب لناد أو فريق رياضي تعصباً قد يودي بعلاقته بصاحبه المسلم، وأخيه وجاره! وهكذا في غضبه وانفعاله .

التعصب لشيخ

     وقد وصفت السنة المطهرة التعصب لشيخ أو عالم حبر واتباعه حتى لو خالف الدليل بالعبادة، قال صاحب معارج القبول : «وقد سمى الله -تعالى- طاعة العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله ، أو تحريم ما أحلّه ، سمى ذلك عبادة، وأنه اتخاذ لهم أرباباً من دون الله؛ فقال -تعالى-: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ}(التوبة: 31).  قال عدي بن حاتم رضي الله عنه حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم  يتلوها : إنا لسنا نعبدهم؟ قال: «أليس يُحلون ما حرّم الله؛ فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله؛ فتحرمونه؟»،  قال: بلى، قال: «فتلك عبادتكم إياهم».

التعصب مذموم

فالتعصب لعالم أو شيخ في مخالفته للكتاب والسنة، تعصب مذموم، قد يورد صاحبه المهالك.

     وقد تواترت الآثار عن أئمة السلف الدالة على ضرورة اتباع الدليل ووجوب ذلك، وترك التقليد الأعمى، والتعصب المذموم .  وقد روي عن الأئمة الأربعة وغيرهم من أصحابهم أقوالا شتى وعبارات متنوعة، كلها تؤدي إلى شيء واحد، وهو وجوب الأخذ بالدليل من الأية والحديث، وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة لها، وكل الأئمة قالوا : «إذا صح الحديث فهو مذهبي».

خذ من حيث أخذوا

يقول الإمام أحمد -رحمه الله- وهو أكثر الأئمة جمعاً للسنة ، وتمسكا بها ، حتى كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي؛ ولذلك قال: «لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا» .

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية فى الفتاوى: «وَمَنْ تَعَصَّبَ لواحِدِ بِعينه مِنْ الْأَئِمَّةِ، دُونَ الْبَاقِينَ؛ فهو بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَعَصَّبَ لواحدِ بِعَيْنِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، دُونَ الْبَاقِينَ!». الفتاوى (22/252).

وانظر كلام العلامة ابن القيم في «إعلام الموقعين» (2 /302) .

 أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله

 مدرسة عظيمة

- الدعوة إلى الله -تعالى- مدرسة عظيمة، يتعلم فيها المسلم دروساً شتى في الدّين والحياة، ويتعرف فيها على أحوال الناس وأخلاقهم على اختلاف أصنافهم وأجناسهم وطبائعهم.

أهمية الحكمة

     ومن الأمور التي تعلمناها في هذا المجال: أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله ، وعظيمُ نفعِها لمن حباه الله -تبارك وتعالى- بها، ومَنَّ عليه بتحصيلِها، ولاسيما الدعاة إلى الله؛ فالدعوة لا تستقيم إلا بها؛ فالله -تعالى- يقول: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(النحل : 125).

     فيأمر الله -تعالى- رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم  أنْ يدعو الخلق - مسلمهم وكافرهم - إلى سبيل ربه المستقيم ، المشتمل على العلم النافع والعمل الصالح ، (بِالْحِكْمَةِ) قال العلماء: الحكمة: هي وضعُ الأمور في مواضعِها، وقيل: هي البَصيرة والفَهم والسَّداد، وقال بعضهم: هي ما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم  من الكتاب والسنة؛ فيكون معنى الآية: فلتكن دعوتك للخلق بِالْحِكْمَةِ ، أي بالعلم الشرعي المستفاد من القرآن والسنة النبوية، لا بالجهل ومجرد العاطفة، وكذلك بما يناسب أحوال الناس ودرجاتهم ، كل على حسب حاله وفهمه وانقياده. ومن الحكمة: البداءة بالمهم فالأهم من الأمور، وبالأقرب إلى الفهم من الصعب، وبالأقرب منك من الناس من الأقارب قبل الأباعد، وبالرفق واللين، لا بالعنف والشدّة.   فالشَّاهد أنَّ الحكمةَ لها مكانةٌ عظيمةٌ في الدين والدعوة، وينبغي على كلِّ عبدٍ أنْ يجدَّ ويجتهدَ في نَيلها وتحصيلِها وتعلّمها، بالسُّبل المشروعة الَّتي تُنال بها الحكمة.

الموعظة الحسنة

     فإنْ انقاد الإنسان المَدْعو بالحِكمة، وإلا فينتقل معه بالدعوة بالموعظة الحسنة، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، وبالزواجر والوقائع التي حصلت للناس على مرِّ الدهر؛ فيذكّرهم بها، وكذلك التذكير بما تشتمل عليه الأوامر الشرعية من المصالح العظيمة وتِعدادها، وما في النواهي والمحرّمات من المضار المهلكة وتعدادها. وهذا من أساليب التربية العظيمة، والمؤثرة في الناس ، وهي من أساليب القرآن.

الجدال الحسن

     وقوله : {وجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: مَن احتاج منهم إلى المناظرة والجدال، لوجود شبهات عنده؛ فليكن الجدال معه بالوجه الحسن، لا بالخطاب الخشن، أي: تناظر برفق ولين وحُسن خطاب، كما قال: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (العنكبوت: 46)؛ فأمره -تعالى- بلين الجانب مع الكفار فكيف بالمسلمين؟! كما أمر الله موسى وهارون -عليهما السلام- حين بعثهما إلى فرعون فقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}(طه : 44).

التَّودُّد للناس

     ومما استفدناه من علمائنا ومشايخنا في مجال الدعوة : أهميَّة التَّودُّد للناس والتقرّب منهم ، وعظيم أثره على المتلقِّي والمتعلِّم والمَدعو.  فأنت عندما تُريد أن تَعِظ إنسانًا وتنصحه وتدعوه ينبغي لك أنْ تتودَّدَ إليه بالكلام ، ما معنى أن تتودّد إليه؟ يعني تذكُر له مِن العبارات اللَّطيفة، والكلام الجميل ما يجعل كلامَك يدخُلُ إلى قلبَه ، ويجعلُه يقبل عليك ويستمع لنُصحك.

لقمان الحكيم

     ولاحظ خطاب لقمان الحكيم وقد مدحه الله -عزَّ وجلَّ- بأن آتاه الحكمةَ، وهو يعظ ابنَه، كما في قول الله -تبارك وتعالى-: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ}؛ فقد جاء بكلام لطيف، وأسلوبٍ مؤثِّرٍ ، وكلماتِ تدخُل إلى القَلب ، وانظُر لطفَه في حديثِه مع ابنِه في وعظه، بتكرير عبارة «يا بُنَي ! يا بُني ! يا بُني !» في السِّياق؛ فهذه لها وقع في قلب الابن، ولها تأثيرٌ في تقبل قلبه للخير والنصح.

دعوة إبراهيم

     وكذلك الأمر لو نظرنا إلى دعوة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لأبيه، بتكرار قوله له : {يا أبت! يا أبت !} كما في سورة مريم.  وهكذا كانت دعوة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-؛ فإنهم كانوا يخاطبون أقوامهم بقولهم : يا قوم أي يا أهلي.  وكذلك لاحظ حُسن التَّودُّد عند نبينا محمد صلى الله عليه وسلم  لأصحابه -رضي الله عنهم- يقول مُعاذ بن جبل رضي الله عنه : إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم  أَخَذَ بِيدهِ يوما، ثُمَّ قال: «يا مُعَاذُ، إِنِّي لَأُحِبُّكَ »؛ فقال له مُعَاذٌ: بأَبي أَنتَ وأُمِّي يارسولَ الله! وأَنَا أُحِبُّكَ، قال: «أُوصِيكَ يا مُعاذُ، لا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صلَاةٍ أَنْ تقول : اللَّهُمَّ أَعِنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسْنِ عبادِتكَ».  رواه أبو داود.  والأمثلة في سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم  كثيرة جدا.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك