رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. أمير الحداد 1 يوليو، 2024 0 تعليق

ذنوب القلوب – الحـزن

 

لم يأت الحزن في القرآن إلا منهيا عنه

  - من مداخل الشيطان إلى قلب المؤمن، أن يوسوس له بالحزن، كما قال -تعالى عن النجوى-: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (المجادلة:10). وقطعا لهذا السبب نهى النبي -صلى الله عليه وسلم - أن  يتناجى اثنان دون الثالث، وقال: «فإن ذلك يحزنه» مسلم. وهذا مجرد شعور مؤقت يدخل قلب المؤمن، فما بالك  بذلك  الحزن الذي يملأ قلب الإنسان فيجعله طريح الفراش عاجزا عن الحركة، تائه الذهن، مشوش التفكير، مسلوب الإرادة. - كثير من الناس يقع في هذه الحال؛ نتيجة عظم المصيبة والعجز عن التعامل معها، فيظنون أن ما يحصل لهم رغما عنهم، لا قدرة لهم على دفعه. - إنما ذلك من ضعف الإيمان وقلة العلم، وإلا فلا مصيبة أعظم من الموت، وبيّن لنا الله -تعالى- تفاصيل التعامل مع الحدث الجلل. كنت وصاحبي اللبناني، نتحاور، بانتظار وصول طلبنا من  المأكولات اللبنانية، في مطعم صغير، وقد حرص صاحبه أن ينقل زبائنه إلى أجواء لبنان، بتفاصيل الديكورات، والخدمة، وقائمة الطعام! - ابتداء، ذكَّر الله -تعالى- عباده أن ما يصيبهم إنما هو بقدر الله -تعالى-: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوبة:51)، تدبر هذه الآية، كله بأمر الله، وهو مولانا، بمعنى يتولى أمرنا، وهو اللطيف الخبير الرحيم العليم، وغير ذلك من صفات الكمال والرأفة والرحمة لله، فينبغي على العبد أن  يذكر نفسه بذلك، ويسلم أمره لله، توكلا، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، فتطمئن النفس، أن ما أصابها لم يكن ليخطئها: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، وزيادة في تثبيت النفس، حتى لا يكون العمل مجرد أفكار وعقائد، أرشدنا الله -تعالى- فقال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة)؛ فالعبد ينطق بلسان هذه العبارة الربانية: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، ليثبت إيمانه حال المصيبة فلا يحزن الحزن المنهي عنه. استوقفني صاحبي: - وهل هناك حزن غير منهي عنه؟! - ورد في الحديث عندما توفي إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له بعض أصحابه: يا رسول الله تبكي وأنت رسول الله؟ فقال: «إنما أنا بشر، تدمع العين ويخشع القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، والله يا إبراهيم، إنا بك لمحزنون» صحيح ابن ماجه. فهذا الحزن، الذي لا يؤدي إلى قول أو فعل لا يرضاه الرب -عز وجل- الذي هو من الجبلة الإنسانية، لا بأس به، وهو لا يضعف الإنسان ولا يعجزه ولا يقعده عن عمل ما يجب عليه. أحضر النادل، المقبلات والمزات اللبنانية الباردة، وهي أشهى إلىَّ من الوجبة الرئيسية! - ذكرت في البداية أن الحزن لم يذكر في القرآن إلا منهيا عنه، هل تذكر لنا بعض هذه الآيات؟ رنّ هاتف صاحبي، استأذنني أن يرد؛ لأن المتصل (أبو عبدالله) شريكنا الثالث في هذه المأدبة، لم يستدل إلى مكان المطعم، ذهب صاحبي ليرشد (أبو عبدالله) إلى المكان، وكان قريبا جدا منه، بعد التحية، تابعنا حديثنا. -  نعم، من الآيات التي ذكرها الله عن الحزن، قوله -تعالى-: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران:١٣٩)، وقوله -تعالى-: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر:88)، وقوله -عز وجل-: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} (النحل:127)، وكذلك قوله -تعالى-: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:40). قاطعني أبو عبدالله: - وماذا عن حزن يعقوب على يوسف -عليهما السلام- كما قال -تعالى-: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (يوسف:84). - كنت سأذكر شرح العلماء لموقف يعقوب في حزنه على يوسف -عليهما السلام- في تفسير (التحرير والتنوير) لابن عاشور، وأن إظهار الحزن كان مشروعا في الأمم السابقة، «وقد حكت التوراة بكاء بني إسرائيل على موسى أربعين يوما، وحكت تمزيق بعض الأنبياء ثيابهم من الجزع، وإنما التصبر على المصيبة كمال بلغت إليه الشريعة الإسلامية» انتهى. وفي موضع آخر قوله: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} يفيد قصر شكواه على التعلق باسم الله، فصارت الشكوى بهذا القصد ضراعة وهي عبادة؛ لأن الدعاء عبادة، وصار ابيضاض عينيه أثرا جسديا ناشئا عن عبادة مشروعة، مثل تفطر قدمي النبي - صلى الله عليه وسلم - من قيام الليل. - أحسنت. هكذا كانت ردة فعل أبي عبدالله. - وهنا نذكر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستعاذة من الحزن. عن  أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال» (متفق عليه). - ودعني أقرأ لك بعض ما ورد في الموضوع ذاته. عن  أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن  رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:  «إن الرؤيا ثلاث، منها: أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم، ومنها: ما يهم  به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها: جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة»، قال: قلت له: أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال نعم أنا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم » (ابن  ماجه). قال ابن القيم في (زاد المعاد): «وسن لأمته الحمد والاسترجاع، والرضا عن الله، ولم يكن ذلك منافيا لدمع العين، وحزن القلب؛ ولذلك كان أرضى الخلق في قضائه وأعظم له حمدا، وبكى مع ذلك يوم مات ابنه إبراهيم، رأفة منه ورحمة للولد، ورقة عليه، والقلب ممتلئ بالرضا عن الله -عز وجل- وشكره، واللسان مشتغل بذكره وحمده». المعتبر في تحريم الحزن إنما هو التسخط القلبي على أقدار الله -سبحانه-، سواء طالت مدته أم قصرت؛ فإن تجرد الحزن من التسخط، فلا يؤاخذ به صاحبه؛ إذ لا قدرة له على رفعه، ولا نعلم أصلا للتفرقة بين الحزن الطويل والقصير. فلا ريب في أن هناك فرقا بين الفائت من أمر الدنيا، والفائت من أمر الآخرة، فالحزن على الأول مضر مذموم غالبًا، وعلى الثاني نافع محمود مطلقًا، قال ابن الجوزي في كتابه (الطب الروحاني): العاقل لا يخلو من الحزن؛ لأنه يتفكر في سالف ذنوبه، فيحزن على تفريطه... فأما إذا كان الحزن لأجل الدنيا وما فات منها، فذلك الحزن... فليدفعه العاقل عن نفسه، وأقوى علاجه أن يعلم أنه لا يرد فائتًا، وإنما يضم إلى المصيبة مصيبة فتصير اثنتين، والمصيبة ينبغي أن تخفف عن القلب وتُدفَع ، فإذا استعمل الحزن والجزع، زادت ثقلا، قال -تعالى-: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}ٍ (الحديد (22-23). المراد الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر، والتسليم لأمر الله، ورجاء ثواب الصابرين، والفرح المطغي الملهي عن الشكر، فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه، مع الاستسلام، والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر: فلا بأس بهما.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك