ذنوب القلوب – الحرص على الدنيا – فقيرٌ كلُّ ذي حرصٍ
مع دخول الشهر السابع من التقويم الميلادي يشتد الحر، ويطول النهار ويقصر الليل، ويفضل كثير من الناس السفر، ومن لا يستطيع يجعل نشاطاته الاجتماعية ليلية، ويصلي الفجر ثم ينام إلى الصباح، ويقيل ساعتين قبل العصر أو بعده. - الحمدلله، وبصراحة أنا من محبي أشهر الصيف، أشعر أنها صحية، ويمكن للمرء أ ن ينجز الكثير في فترة العصر الطويلة. استغرب (أبو سالم) وجهة نظر صاحبي! - أظنك تقول ذلك لأنك لا تحب السفر ابتداء. سبقت صاحبي في التعليق. - كثير من الناس يحرص حرصا شديدا على السفر، وإن اضطر إلى الاستدانة، وإن أرهق ميزانيته، وهذا النوع من الحرص ليس من التدبير الصحيح، وليس من الدين، فالحرص على الدنيا من أشد ما يضر العبد في دينه. كنا ثلاثة، نعود بعد صلاة العصر أخا لنا في المستشفى الصدري، أجرى فحوصات القلب وتبين ضرورة إجراء عملية قلب مفتوح بعد ثلاثة أيام. - ماذا لديك في موضوع الحرص؟ - الحرص نوعان أساسيان، حرص على المال، وحرص على الشرف، ولكل منهما قسمان، أما الحرص على الشرف فهو الحرص على الرئاسة والإمارة والوزارة وغيرها، والقسم الآخر هو الحرص على العلم والدين لأجل العلو والرفعة، وهذا هو الأسوأ، والحرص على المال قسمان، طلبه بشدة والاشتغال به من الوجوه المباحة؛ بحيث يشغله عن الآخرة، والثاني طلبه من الأبواب المحرمة ومنع حقوق من لهم حق فيه. قاطعني: - اسمح لي أن أعترض على القسم الثالث وهو طلب المال من الحلال وصرفه في حلال، هذا لا شيء فيه. - لعلك لم تنتبه إلى مقولتي، «بحيث يشغله عن الآخرة»، ودعني أورد لكما بعض الأحاديث في ذلك. الطريق إلى المشفى يستغرق قرابة الثلاثين دقيقة، استخرجت هاتفي وأخذت أقرأ. - عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه» (صحيح الرغيب - الترمذي). وعن زين بن ثابت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كانت الدنيا همه، فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» (السلسلة الصحيحة). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله -تعالى- لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» (صحيح أبي داود وابن ماجه). - ما المقصود بـ(عرف الجنة)؟ - ريحها. وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من جعل الهموم هما واحدا على المعاد، كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا، لم يبال الله في أي أوديتها هلك» صحيح الجامع. فالقصد أن العبد مجبول على حب الدنيا وجمع المال، والتوسع في المباحات، وكما قال الله -تعالى-: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران:14). والآية التي بعدها مباشر: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (15). فلا ينبغي أن تكون الدنيا هما، يشغل العبد ليل نهار، بل يعطي الدنيا ما تستحق والآخرة ما تستحق ويضع كل منهما في مكانه. وماذا عن الحديث في التحذير من طلب الإمارة؟ - نعم ، جزاك الله خيرا ذكرتي. في البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة؛ فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة !» . فهذه الغرائز جعلها الله في خلقه لتستقيم دنياهم كبقية الشهوات الأخرى، فعلى العبد أن يتعامل معها تعاملا إيجابيا، ويستفيد منها، وإلا أصبحت سببا لهلاكه، شهوة الأكل وشهوة النساء وشهوة المال، وشهوة الرئاسة، وشهوة العلو، والارتفاع، والبروز، وشهوة القوة والسيطرة، وغيرها من شهوات النفس. قال ابن القيم في (الفوائد): إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده، تحمل الله عنه -سبحانه- حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه، حمله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه؛ فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحوش في خدمة غيره.
لاتوجد تعليقات