د. زين العابدين كامل لـ(الفرقان): ينبغي الاهتمام بتراث أمتنا فأمة بلا تاريخ أمة بلا هوية وبلا مستقبل
إنّ للتاريخ أهمية قصوى في حياة الأمم والشعوب، وقد احتل التاريخ مكانة كبيرة عند المسلمين؛ وذلك بتوجيه القرآن الكريم {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}(يوسف: 111)، وأيضاً قوله: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون}(الأعراف: 176)، بل إنّ الله -سبحانه- أمر المسلمين أن يجيلوا النظر في مصائر الغابرين من الشعوب عِظة واعتباراً {أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم}(الروم: 9)، حول هذا الموضوع وكيفية الاستفادة من التاريخ وأحداثه، التقت الفرقان د. زين العابدين كامل، أحد الدعاة المتميزين والمعنيين بدراسة التاريخ الإسلامي، وله الكثير مِن المصنفات والمقالات والمحاضرات على شبكة الإنترنت.
- ما أهمية دراسة التاريخ ولاسيما التاريخ الإسلامي في حياة الأفراد والمجتمعات؟
- إن الاطلاع على أحوال السابقين ودولهم، وملوكهم وأيامهم، يوسِّع الآفاق الفكرية والثقافية للإنسان، ويعلِّم كيف ترتقي الأمم، وكيف تنهار ثم تزول؛ فالتاريخ ليس مجرد أقاصيص وحكايات تُروى، بل هو النبراس والذاكرة التي يطلع من خلالها الإنسان على الأحوال والحوادث والوقائع، وما صاحبها مِن تغيرات ومجريات، والتاريخ فيه استلهام للمستقبل على ضوء السنن الربانية الثابتة، التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا تحابي أحدًا من الخلق بحال، ودراسة التاريخ ركن أساسي لبناء أمة قوية، ومِن ثَمَّ فإن دراسة علم التاريخ ليست دراسة تكميلية كما يظن بعض الناس؛ لأن التاريخ بمثابة الثروة التي تحتاج إلى مَن يحسِن استثمارها؛ فلا مستقبل لأمة تجهل تاريخها، قال الله -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: 111).
- كيف يمكن للدعوة الإسلامية الاستفادة من دروس التاريخ؟
- لا شك أن دراسة التاريخ تضيف أعمارًا إلى عمر الإنسان؛ وذلك لكثرة التجارب التي يطلع عليها؛ مما يساعده على أن يسير دومًا وفق رؤية واضحة المعالم، وإذا تأملنا قصة المعراج، يظهر ذلك جليًّا؛ فلقد صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلا، ثم فَرض الله عليه خمْسِينَ صَلَاة كُلَّ يَوْمٍ، قال صلى الله عليه وسلم : «فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قَالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ المُعَالَجَةِ؛ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ؛ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا؛ فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ؛ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّيعَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ؛ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ؛ فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ؛ فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ؛ فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ» (رواه البخاري).
تعلَّم الفاضل مِن المفضول
وهكذا تعلَّم الفاضل مِن المفضول، واستفاد محمد -عليه الصلاة والسلام- من موسى -عليه السلام-؛ لأنه سبقه في أمر الدعوة وجرَّب الناس قبله، وهكذا استفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من تجربة تاريخية سبقته، وكذا في غزوة الأحزاب يوم أن اجتمع المشركون مِن قريش وغطفان ويهود على المسلمين، وأصبحوا خطرًا كبيرًا على كيان المدينة؛ وذلك لكثرة عددهم وقوة عتادهم، وهنا قام سلمان الفارسي رضي الله عنه وقال: «يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا»؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة، وهذا أمر لم يكن معروفًا في حروب العرب؛ فهذا هو الطريق الصحيح للتعلم من التاريخ، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه أبناء الصحوة الإسلامية المعاصرة، أن يتعلموا من الوقائع والأحداث التي وقعت في صدر الإسلام، ولاسيما أحداث الفتن والمحن، كمقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وما تبعه مِن أحداثٍ وفتنٍ، ثم الأحداث والثورات وحركات المعارضة التي وقعت في العصر الأموي؛ لأنها تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ جدًّا ما نحياه خلال هذه السنوات.
وهنا أريد أن ألفت الانتباه إلى أمر مهم، وهو: إدراك الفرق بين قراءة الأحداث التاريخيةٍ مجردةٍ، وبين قراءتها من الناحية التفسيرية والتحليلية.
- ما القواعد المنهجية التي تمكننا من قراءة التاريخ الإسلامي قراءة صحيحة؟
- قراءة التاريخ الإسلامي تحتاج إلى منهجية؛ وذلك حتى يقف الإنسان على أرضٍ صلبةٍ لا تغوص فيها الأقدام، ومن هنا أقول:
دراية بأحوال المؤرخين
إنه ينبغي أولًا للباحث، أو القارئ في التاريخ، أن يكون على درايةٍ كاملةٍ بأحوال المؤرخين، على اختلاف مشاربهم وتنوع روافدهم الفكرية؛ وذلك لأن المناهج في كتابة التاريخ متعددة، والأسانيد المتصلة لناقليه قليلة، كما قال الإمام أحمد -رحمه الله-: «ثلاثة ليس لها أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير»، وقال ابن خلدون -رحمه الله-: «وكثيرًا ما وقع للمؤرخِّين والمفسِّرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثًّا أو سمينًا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها»، ومِن ثَمَّ لابد من معرفة حال المؤرخ وفكره ومنهجه، ثم لابد من الرجوع إلى المصادر التاريخية القديمة الموثقة: كتاريخ (خليفة بن خياط)، وكتاب: (تاريخ الرسل والملوك) للطبري، ولاسيما الطبعات المحققة منه؛ حيث إن تاريخ الطبري -رحمه الله- قد احتوى على كثيرٍ من الروايات الضعيفة، و(الأخبار الطوال) للدينوري، و(المنتظم في تاريخ الملوك والأمم) لابن الجوزي، و(الكامل في التاريخ) لابن الأثير، و(تاريخ الإسلام)، و(وفيات المشاهير وَالأعلام) للذهبي، و(البداية والنهاية) لابن كثير.
الحذر من الكتب غير الموثَّقة
ثم لابد من الحذر من الكتب غير الموثَّقة، التي أسهمت كثيراٍ في تشويه التاريخ الإسلامي، ككتاب: (الإمامة والسياسة) المنسوب لابن قتيبة، وكتاب: (الأغاني) للأصفهاني، وكتاب: (نهج البلاغة) المنسوب إلى الشريف الرضي، وكتاب: (تاريخ اليعقوبي)، وكتاب: (مروج الذهب ومعادن الجوهر) للمسعودي. وقلنا: إنه لابد من معرفة فكر المؤرخ؛ لأن ميوله الفكرية تطغى على الضوابط العلمية في كثيرٍ مِن الأحيان.
- ما دور التاريخ في الحفاظ على الهُوية الإسلامية وانتماء المسلمين لدينهم وأمتهم ؟
- لعل هذا السؤال يمثِّل مقياسًا حقيقيًّا لحال الأمة؛ لذا فهو مِن أهم الأسئلة في هذا الحوار الطيب.
وأقول: أولًا: إن قضية الهوية الإسلامية من أهم القضايا التي ينبغي لنا أن نهتم بها، وأن نتوقف معها؛ لأننا نرى بعض أبناء الأمة قد قاموا بدورٍ مشبوه،ٍ فاق كل تخيل من أجل مسخ الهُوية الإسلامية، وقد سلك هؤلاء مسالك عدة، وقعَّدوا بعض القواعد من أجل إنفاذ مهمتهم، كعصرنة التدين، وتطويع أحكام الدين ونصوصه، وغير ذلك، وهذه القضية تُعد معلمًا من معالم النبوة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بالفعل عن زمن ضياع الهوية الإسلامية، وانسلاخ المسلمين عنها؛ فقد صوَّرها لنا حديث: «لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعاً بِذرَاعٍ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ حُجْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ، وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بِالطَّرِيقِ لَفَعَلْتُمُوهُ» (رواه الحاكم، وصححه الألباني)، وفي رواية: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ»، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟» (متفق عليه).
المقصود بالهوية الإسلامية
المقصود بالهوية الإسلامية الإيمان بعقيدة هذه الأمة، واحترام قيمها الحضارية والثقافية، والاعتزاز بها، وإظهار الشعائر التعبدية، والشعور بالتميُّز والاستقلالية؛ فكل أمة لها ما يميزها عن الأمم الأخرى، وإلا تشابهت الأمم كالأسماك في الماء؛ فلابد للمسلم أن يعتز بدينه وإسلامه، والإسلام منهج حياة يتميز بالشمولية والتكامل، وقد جاءت تشريعات الإسلام في نواحي الحياة كلها (العقيدة، والأخلاق والآداب، والعبادات، والمعاملات).
مكونات الهوية
من مكونات الهوية (العقيدة والتاريخ واللغة والثقافة)؛ فالتاريخ هو إحدى المكونات الأساسية الأصيلة للهوية، وأمة بلا تاريخ هي أمة بلا مستقبل، ومن ثم فهي أمة بلا هوية، لكن المشكلة ليست في التاريخ نفسه؛ فتاريخ أمة الإسلام تاريخ مشرق في مجمله، إنما تكمن المشكلة الحقيقية في حفظ هذا التاريخ وتنقيحه مما علق به من أباطيل، ثم تدوين إضاءاته المشرقة ونشرها؛ فكم مِن الأمم لا تملك تاريخًا مشرقًا مشرفًا كما تملك أمة الإسلام؛ لذا لا بد من دراسة التطورات التاريخية الحضارية في عصور الإسلام الأولى، والوقوف على معالم التجديد في بلاد الأندلس وغيرها؛ لنرى وليرى العالم ما الذي أحدثه المسلمون في تلك الدول؛ فلقد كانت أوروبا تستلهم علومها من بلاد المسلمين.
ثم إننا نعاني من مسألة أخرى، ألا وهي: حصر التاريخ في تاريخ العرب، وهذا خطأ بلا شك؛ لأنه قد نتج عن هذا، الانتماء للعربية فقط، وهي الفكرة التي تبلورت فيما بعد إلى (القومية العربية).
- هل هناك علاقة بين التاريخ والسياسية؟ وهل للإعلام دور في ذلك؟
- نعم هناك علاقة وطيدة بين التاريخ والسياسة؛ فالتاريخ هو المنارة الفكرية لعالم السياسة، وعندنا في الأبحاث التاريخية نهتم دومًا بما يعرف بالتاريخ السياسي؛ فهناك أبحاث، ورسائل ماجستير، ودكتوراة تتحدث عن التاريخ السياسي لبعض الدول، أو لبعض الأشخاص، أو الجماعات، والتاريخ السياسي يتحدث عن الأحوال والحوادث السياسية، وهو يختلف في موضوعه عن غيره من أنواع العلوم التاريخية، كالتاريخ الاجتماعي مثلًا؛ حيث إن التاريخ الاجتماعي يهتم بحياة الناس وأوضاعهم الاجتماعية؛ ولذلك يهتم كثير من الذين ينشغلون بالسياسية، أو الذين يتولون بعض المناصب القيادية من الساسة بدراسة التاريخ، ويستخدمونه رافدا مهما من روافد التوجيه السياسي؛ فيقومون بتحليل المواقف والأحداث السياسية التي وقعت في الماضي، ويترجمون ذلك التحليل الإيجابي في واقع مستقبلهم؛ حيث إن التاريخ يعكس لنا الماضي بجوانبه كلها؛ ولذا لا بد للحكام أن يعكفوا على دراسة التاريخ السياسي؛ لأنها تجربة وقعت بالفعل، بل اشترط الفقهاء في شروط مَن يتولى أمر الخلافة والحكم شرط العلم، ويعنون به العلم بأمور الدين، ومصالح الأمة وسياستها.
سيرة عمر رضي الله عنه
ومن الآثار في ذلك: سيرة عمر -رضي الله عنه- في أمرائه الذين كان يؤمِّرهم في البلاد، من أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة، مع اجتناب ما يخالف الشرع فيها؛ فلأجل ذلك أَمَّرَ معاوية، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص -رضي الله عنهم-، مع وجود مَن هو أفضل منهم في أمر الدِّين والعلم: كأبي الدرداء رضي الله عنه في الشام، وابن مسعود رضي الله عنه في الكوفة وغيرهما، وعلى الإعلام أن يوضِّح هذا الارتباط الوثيق بين التاريخ والسياسة.
لفظة: السياسة
وأريد أن أذكر شيئًا في مسألة السياسة، وهو: أن لفظة: (السياسة) لم يأتِ لها ذكر في كتاب الله -تعالى-، ولكن ذكر الله في القرآن مفاهيم ومدلولات كلمة (السياسة)؛ وذلك أثناء الحديث عن العدل والإصلاح، والأمر والنهي والحكم، وغير ذلك من المعاني التي اشتمل عليها لفظ: (السياسة)، ولكن قد جاء في السُّنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ» (متفق عليه)؛ فقوله صلى الله عليه وسلم : «تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ»: أي تتولى أمورهم، كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية.
وقد استعمل أهل العلم قديمًا كلمة السياسة، قال ابن جرير الطبري -رحمه الله- في بيان السبب الذي مِن أجله جعل عمر رضي الله عنه أمر الخلافة في الستة الذين اختارهم: «لم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين، والهجرة والسابقة، والعقل والعلم، والمعرفة بالسياسة، ما للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم».
- يتصور بعضهم عند الحديث عن التاريخ الإسلامي أنه ليس إلا غزوات وحروب ودماء، فهل هذا صحيح؟
- هذا الشق المذكور في السؤال هو شق التاريخ السياسي والعسكري، وهو يشمل الحروب بأنواعها كافة، سواء الفتوحات الإسلامية، أو الثورات الداخلية، ولكن هناك الشق الحضاري، فقد تقدَّم المسلمون في ميادين شتى ومجالات متنوعة، فقد أحدث المسلمون قفزة هائلة في علوم الإدارة والنظم الإدارية، وكذا تقدموا في علوم الطب والكيمياء والهندسة، وغيرها من العلوم، ولقد كانت أوروبا في بعض الأزمنة ترسل بعثاتها العلمية لتنهل من علوم المسلمين.
دخول الإسلام إلى الهند
وأنا أريد خلال الإجابة عن هذا السؤال أن أستشهد برجلٍ من علماء الهند، أي: من أبناء الطرف الشرقي للدولة الإسلامية، وهو: (أبو الحسن الندوي) -رحمه الله-؛ حيث يقول عن قصة دخول الإسلام إلى بلاد الهند والسند ما نصه: «إن دخول الإسلام إلى بلاد السند وبلاد الهند، كان فاتحة عصر جديد، عصر علم ونور، وحضارة وثقافة؛ فلم يكن العرب المسلمون من طراز أولئك الغزاة، الذين إذا دخلوا قرية أفسدوها، وعدها بقرة حلوبًا، أو ناقة ركوبًا، يحلبون ضرعها، ويركبون ظهرها، ويجزون صوفها، ثم يتركونها هزيلة عجفا، ولا يعدون أنفسهم إلا كالإسفنج، يتشرب الثروة من مكان، ويصبها في مكان آخر، كما كان شأن غيرهم من المستعمرين.
بل وهب العرب البلاد التي فتحوها أفضل ما عندهم، من عقيدة ورسالة، وأخلاق وسجايا، ومقدرة وكفاية، وتنظيم وإدارة، أقبلوا عليها بالعقل النابغ، والشعور الرقيق، والذوق الرفيع، والقلب الولوع، واليد الحاذقة الصنّاع؛ فنقلوها من طور البداوة إلى طور الحضارة، ومن عهد الطفولة إلى عهد الشباب الغض؛ فأمنت بعد خوف، واستقرت بعد اضطراب، وأخذت الأرض زخرفها، وبلغت المدنية أوجها، وتحولت الصحاري الموحشة والأرض القاحلة إلى مدن زاخرة وأرض خصبة، وتحولت الغابات إلى حدائق ذات بهجة، والأشجار البرية إلى أشجار مثمرة مدنية، ونشأت علوم لا علم بها للأولين، وفنون وأساليب في الحضارة لا عهد لهم بها في الماضي، وانتشرت التجارة، وازدهرت الزراعة، فكأنما ولدت هذه البلاد في العهد الإسلامي ميلادًا جديدًا ولبست ثوبا قشيبًا»؛ فهذه شهادة واحد من أبناء الطرف الشرقي للدولة الإسلامية، وكما يُقال: (وشهد شاهد من أهلها).
- ما أسباب تشويه التاريخ الإسلامي، ولاسيما الدولة الأموية والعباسية؟
- لعل الدولة الأموية هي مَن نالت النصيب الأوفر من حملات التشويه؛ لذا أقول: إن البحث عن حقيقة التاريخ الأموي خصوصًا، والوقوف على أهم معالم الدولة الأموية، ومآثرها وأسباب نجاحها ثم الوقوف على أسباب وتداعيات سقوطها وانهيارها، يعد ضرورة تاريخية وثقافية وفكرية؛ فنحن أمام دولة دام ملكها إحدى وتسعين سنة تقريبًا، من عام 41هـ وحتى 132هـ، ولقد حققت هذه الدولة إنجازات كبرى في ميدان الجهاد والفتوحات، حتى امتدت حدودها من حدود الصين إلى جنوبي فرنسا، وكذا حققت قفزات هائلة في مجالات الفكر والعلم والأدب، ولكن -مع الأسف- الشديد، لقد صور بعضهم تاريخ هذه الدولة على أنه تاريخ حافل بالمؤامرات السياسية، والحروب والدموية، والمشكلات الاقتصادية، ونحن لا ننكر وقوع أحداث عظيمة الشأن في العصر الأموي، ولكن على الباحث المنصف أن ينقل التاريخ كاملًا بحسناته وسيئاته.
أسباب تشويه التاريخ
وأما عن أسباب تشويه التاريخ ولاسيما الأموي، أقول: لقد تضافرت عوامل شتى ساهمت وساعدت على تشويه تاريخهم، ومن هذه العوامل: ضياع معظم النتاج التاريخي الباكر الذي سُطر في العصر الأموي، وقيام كثير من الثورات والصراعات؛ ومما لاشك فيه أن الحزبية السياسية والعصبية، أثرت على عملية تدوين تاريخهم، وكذا ظهور الفرق المخالفة لهم فكريًّا، ثم إن بعض كتب التفسير والحديث قد ساهمت هي الأخرى في تحريف التاريخ الأموي.
تاريخهم كُتِبَ بعد ذهاب دولتهم
ومن الأسباب أيضًا: أن تاريخ دولتهم كُتِبَ بعد ذهاب دولتهم، ثم يأتي سبب هو في نظري من أهم الأسباب التي ساعدت على تشويه تاريخهم، وهو كتابة غير المتخصصين في التاريخ؛ فلقد ظهر على الساحة في العالم العربي بعض الكُتاب والمفكرين الذين كتبوا في علم التاريخ وهم ليسوا أهلًا لذلك؛ فتراهم يتصدرون ويقومون بتدوين بعض الأحداث التاريخية الشائكة، ثم يقومون بدور النقد والتحليل بلا علمٍ ولا درايةٍ، وهذه النوعية من الكتابات قد اعتمد أصحابها على بعض المصادر والمراجع التي لم تكن في معظمها تاريخية أصيلة، ثم افتقرت هذه الكتابات إلى التحقيق والتنقيح للمرويات التاريخية، وحملات التشويه للتاريخ لا تنقطع، وهنا يأتي دور الباحثين المحبين لأمتهم، والمعتزين بتاريخهم؛ فلا بد من إظهار حقائق التاريخ الإسلامي المشرق.
- كيف يمكن دحض الأكاذيب والافتراءات والشبهات المثارة حول التاريخ الإسلامي؟
- التاريخ الإنساني لا يعرف أمة على مرِّ العصور دونت تاريخها بحسناته وسيئاته كأمة الإسلام؛ فلم يحاول المؤرخون أن يتستروا على سيئات تاريخهم، بل نقلوا الأحداث بأمانة؛ فليس في تاريخنا ما نخجل منه، حتى ما وقع من أحداثٍ مؤلمةٍ لا تخلو دراسته من فائدة.
ولقد تعرَّض التاريخ الإسلامي للتشويه والتحريف بشكلٍ كبيرٍ متعمدٍ، وبخطة خبيثة محكمة، والواجب علينا بوصفنا باحثين: أن نقوم بدور التحليل والتنقيح للروايات التاريخية، وأن نعكف على تاريخنا بعزيمة صادقة، وبصيرة نافذة، وأن نُعلِّم الناس كيف يقرؤون التاريخ؟ وما الكتب المعتمدة والموثقة؟ وما الكتب الساقطة؟ وأن نجتهد في تطبيق ضوابط علم الحديث على الروايات التاريخية، ولاشك أن علم الحديث أقدم من علم التاريخ، بل إن التاريخ ظهر كجزءٍ من الرواية الحديثية.
لاتوجد تعليقات