ديننا دين التآلف
قال -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات 10)، وقال عزوجل: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح 29)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَدخُلونَ الجنَّةَ حتَّى تُؤمِنوا، ولا تؤمِنوا حتَّى تَحابُّوا، أوَلا أدلُّكُم علَى شيءٍ إذا فعلتُموهُ تحابَبتُم؟ أفشُوا السَّلامَ بينَكُم». (رواه مسلم)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «تبسُّمُكَ في وجْهِ أخيكَ لَكَ صدقةٌ». (رواه الترمذي).
هذه النصوص الشريفة وغيرُها الكثيرُ تدل على مقصد عظيم من مقاصد شريعتنا، وهو إشاعة التآلفِ والمحبةِ بين المسلمين، فديننا هو دين التآلفِ والمحبةِ والاجتماع، وبالمقابل فإن شريعتنا تحذر من أسباب الفرقة والنزاع؛ فقد قال -تعالى- محذرا من ذلك: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال 46)، أي تذهبَ قوتُكم ودولتكم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقطع أسباب الفرقة والنزاع بين المسلمين؛ فعن كعبِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه - أنه تَقاضَى ابنَ أبي حَدْرَدٍ دَينًا له عليهِ، في عهدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في المسجدِ، فارتفعت أصواتُهُما، حتى سمِعَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيتهِ، فخرج إليهِما رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حتى كشفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، ونادَى: «يا كَعْبَ بْنَ مالِكٍ، يا كَعْبُ». قَالَ: لَبَّيْكَ يا رسولَ اللهِ، فأشارَ بيَدِهِ أَنْ: «ضَعِ الشَّطْرَ من دَيْنِكَ». قال كَعْبٌ: قدْ فعَلْتُ يا رسولَ اللهِ. قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قُمْ فاقْضِهِ». (متفق عليه).
الحث على التآلف
وهكذا فإن ديننا يحثنا على كل وسيلة لتآلف القلوب، ويحذرنا من كل ما ينفر بين القلوب، فالتحريشُ بين المسلمين من صفات الشيطان، الذي هو العدو المبين للإنسان، قال الله -عز وجل-: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} (الإسراء 53)، فالشيطان يسعى بين العباد بما يفسد دينهم ودنياهم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»، (رواه مسلم). قال الإمام النووي -رحمه الله- في شرح الحديث: «ومعناه: أيس أن يعبده أهل جزيرة العرب، ولكنه سعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن ونحوها»، فيحرص إبليسُ اللعين على تفكيك جماعة المسلمين؛ لأنه يعلم أنهم باجتماعهم أقوياء، وإن تفرقوا أصبحوا ضعفاء، وتكالب عليهم الأعداء. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يبعثُ الشيطانُ سَراياهُ فيفتِنون الناس، فأعظمُهم عنده منزلةً أعظمُهم فتنةً». (رواه مسلم)، أما ديننا فهو دين التآلفِ والمحبةِ والاجتماع؛ فالتآلف والاجتماع هو سبب النجاح لأي اجتماع بشري؛ ولذلك فهو مطلب عظيم في شريعتنا.
غريزة التآلفِ
لقد جعل الله غريزة التآلفِ والاجتماعِ حتى في الحيوانات العجماوات، التي تعرف بغريزتها وما فطرها الله عليه أنها قوية بتآلفها واجتماعها، وأنها إن تنافرت وتفرقت هانت وذلت؛ فترى الطيور والحيوانات تسير جماعات وأسرابا، والنحل يجتمع لبناء مملكته والقيام بشؤونها في تعاون وانتظام، وقل مثل ذلك في عالم النمل الذي إن دهمه الخطر اجتمع وتكتل، ومن مظاهر تعاونه ما ذكره الله في كتابه الكريم في قصة نبيه الكريم سليمان -عليه السلام- عندما سار بجنوده وكان في طريقهم مساكن النمل: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (النمل 18). فما أحرانا -نحن البشر الذين أكرمنا الله بهذا الدين العظيم- أن نبذل الأسباب كلها لذلك. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا»، ثم شبك بين أصابعه. (متفق عليه).
فعلينا جميعًا أن نعرف ما للتآلف والتعاون من أثر طيب في ديننا ودنيانا. فلنحرص على ذلك، ولنحث على ذلك، ولنتواص فيما بيننا بذلك؛ فإن ذلك من أعظم مننِ الله علينا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران 103). ولاحظ كلمة (جميعا): فديننا دين التآلف والاجتماع.
فعلينا بالاجتماع على كلمة واحدة، وجماعة واحدة، لمصلحة ديننا ودنيانا، فقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الانفراد عن الجماعة فقال: «عليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية». (رواه النسائي). يعني: القاصية من الغنم؛ فهي أسهل للذئب بالصيد والافتراس من المجتمِعات، وفي ذلك دليل على أنه لا ينبغي للمسلمين الافتراقُ والخلافُ، وأن التآلفَ والاجتماع واجبٌ عليهم.
من مقاصد الشريعة العظيمة
انظروا إلى الأوامر الشرعية، تجدوا أن اجتماع الأمة من مقاصدها العظيمة، انظر إلى العبادات، تجد أن الصلاة المفروضة تجب جماعة، وينادى لها بـ»حي على الفلاح»؛ لأن الجماعة من أعظم أسباب النجاح؛ فيجتمع المسلمون فيها على إمام واحد، لا يكبرون حتى يكبر، ولا يركعون حتى يركع، ولا يرفعون حتى يرفع؛ بل حتى المسبوق منهم يؤدي ما أدرك مع الجماعة ولا يخالفهم، ثم يتم ما فاته، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا». (متفق عليه)؛ فحث على أدائها جماعة، وأمر بالاجتماع في الصف؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله». (رواه أبو داود )؛ فالصلاة فيها حث على الاجتماع والتآلف ووحدة الصف.
فريضة الزكاة
أما الزكاة ففيها مواساة الغني للفقير بماله، وفي ذلك من أسباب التآلف والترابط بين المسلمين ما لا يخفى، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - حين بعثه إلى اليمن: «أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم». (متفق عليه).
فريضة الصيام
وأما فريضة الصيام، فقد أمر الشارع بالاجتماع في مطلعها، وفي العيد بعدها، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤكدا على اجتماع الكلمة فيها: «الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون». (رواه الترمذي). أما الحج، فكلُّه تآلف واجتماع: اجتماع زماني، واجتماع مكاني؛ فيؤدي المسلمون الحج في مكان واحد، وفي زمان واحد، فيحصل فيه من تآلف واجتماع المسلمين ما لا يعلم مدى أثره إلا الله -تعالى-. لا يشذ فيه مسلم عن إخوانه المسلمين، لا في منسك ولا في توقيته، ولا في صفته.
فهذه فرائض الإسلام، كلها تحث على التآلف والاجتماع، إنها شريعة عظيمة، الاجتماع والتآلف فيها من أعظم المقاصد؛ فديننا دين التآلف والاجتماع.
المعاملات في الإسلام
أما المعاملات في الإسلام، فيدور جُلُّها -إن لم تكن كلُّها- على تآلفِ قلوبِ المسلمين واجتماعِهم ووحدتهم، والنأيِ بهم عن التنازع والاختلاف والفرقة؛ فكل ما من شأنه تأليف القلوب حَرَص عليه الإسلام في تشريع المعاملات، وكل ما من شأنه تفريق المسلمين نهت عنه الشريعة المحكمة في التعاملات.
في البيوع
ففي البيوع حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على بيان صفات السلعة موضع الشراء، والصدق في التبايع بين الطرفين، وقال: «فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما». (متفق عليه). ونهى عن الغش، أو أن يبيع الرجل على بيع أخيه.
في التداين
وفي التداين أمر الله تبارك و-تعالى- بكتابة الدين، تحذيرا من الخلاف وقتَ السداد، وحتى في آداب المجالس نهى أن يتناجى اثنان دون ثالث في المجلس؛ من أجل أن ذلك يحزنه، وذلك حرصا على سلامة القلوب.
في الزواج
وفي شريعتنا الكثيرُ من مثلِ هذه الأوامر والنواهي؛ مما يحافظ على تآلف القلوبِ واجتماعها، ففي الزواج نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، درءا للمشكلات والخلاف، وأمر الزوجين بالتعاشر بالمعروف، وقال الله -تبارك وتعالى- مبينا أهمية تفضل كل من الزوجين على الآخر: {ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير} (البقرة 237).
أشد ما يحرص عليه الشيطان
وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أشد ما يحرص عليه الشيطان أن يفرق بين المرء وزوجه، فقال: «إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، ويجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا؛ فيقول: ما صنعت شيئا». قال: «ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته». قال: «فيدنيه منه ويقول: نِعْمَ أنت». (رواه مسلم). فالشيطان يدعو إلى التفرق والنزاع، وما يحرص الشيطان إلا على ضد مقاصد الشرع؛ فيدعو بذلك إلى النار، أجارنا الله جميعا منها. ولذا كان ذلك أيضا من مقاصد أعداء المسلمين، يسعون إلى تفريقهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
أهمية اجتماعنا وخطورة تفرقنا
فهلا عرفنا أهمية اجتماعنا وخطورة تفرقنا؟ قال الحسنُ بنُ علي -رضي الله عنهما-: «أيها الناس، إن الذي تكرهون في الجماعة خير مما تحبونه في الفرقة»، فلنتذكر دائما أن دينَنا دينُ التآلف والاجتماع، ولنحرص جميعا على اجتماع الكلمة، ونبذ الخلاف؛ فإنه شر. قال الإمامُ القرطبي -رحمه الله- (تفسير القرطبي 4/156): إن الله -تعالى- يأمر بالألفة، وينهى عن الفرقة؛ فإن الفرقةَ هلكة، والجماعةَ نجاة، ورحم اللهُ ابنَ المبارك؛ حيث قال:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دانا
لاتوجد تعليقات