دور المجتمع في الإصلاح والتغيير (1)
هذه ورقة بحثية قدمها الشيخ ناظم بن سلطان المسباح في مؤتمر: (الإصلاح والتغيير رؤية شرعية)، الذي عقدته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت في ربيع أول عام 2013، ولأهمية تلك الورقة نعرضها على حلقات متتالية إن شاء الله.
بين الشيخ في مقدمة ورقته أن الإصلاح مطلب عظيم لاستقرار الدول واستمرار الحكم، ورفاهية الشعوب، وانتشار الأمن، وبغيابه ينتشر الفساد، ويكثر الخبث في تلك الأمم، ولقد جاء الإسلام بالإصلاح في كل مجالات الحياة، فأصلح للناس دينهم ودنياهم قال -تعالى- على لسان نبيه شعيب -عليه السلام-: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود :٨٨)، وجعل معيار الصلاح والإصلاح في موافقة شرعه، وجعل مخالفة شرعه إفسادا فقال -تعالى- : {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الأعراف: ٨٥) أي بعد أن أصلحها الله بإرسال الرسل وإنزال الكتب، كما جعل الإصلاح المتمثل باتباع شرع الله ضمان من الهلاك كما قال -تعالى- : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: ١١٧).
تعريف المجتمع لغةً
تعريف المجتمع في اللغة: لفظ مجتمع في اللغة اسم مشتق من جمع، فالجمع ضم الأشياء المتفقة، وضده التفريق والإفراد. وفي مختار الصحاح: «تجمع القوم اجتمعوا من هاهنا وهاهنا، ويطلق لفظ المجتمع ويراد به موضع الاجتماع أو الهيئة الاجتماعية، ثم نقل إلى الجماعة من الناس، ويلاحظ في التعريف اللغوي إطلاق لفظ المجتمع دون الالتفات إلى سبب الاجتماع.
تعريف المجتمع اصطلاحا
كانت كلمة المجتمع -من وجهة نظر الفلاسفة القدامی- ترادف كلمة الإنسانية، ثم تبلور مفهوم المجتمع ليطلق على أي مجموعة من الناس تربط بينهم مصالح دائمة، كالأسرة والعشيرة والقرية والطائفة من الناس التي تجمعها مهنة أو دين، والمجتمع كما يعرفه علماء الاجتماع هو : جماعات من البشر، تعيش على قطعة محددة من الأرض لفترة طويلة من الزمن تسمح بإقامة علاقات مستمرة ومستقرة معترف بها فيما بينهم، مع تحقیق درجة من الاكتفاء الذاتي.
مفهوم المجتمع المدني والأمة الإسلامية
المجتمع المدني: هو مجموعة من المنظمات السياسية والاجتماعية والمهنية والجماهيرية التي تعمل بين الدولة والمجتمع، وتعمل لتحويل دقائق الأمور في المجتمع إلى الدولة بأسلوب سلمي، أما الدولة: فهي المؤسسات والدوائر التي تدير السلطة، والسلطة في أحسن حالاتها يختارها المجتمع بانتخاب حر لمدة معينة ومحدودة؛ فالمجتمع المدني يقع في المساحة التي بين الدولة والمجتمع.
مفهوم شمولي
فالمفهوم هنا مفهوم شمولي، يجمع التنظيمات والمؤسسات خارج السيطرة الحكومية، ولعل السبب في إنتاج نظرية المجتمع المدني القائم على الديمقراطية هو الهروب من حكم الكنيسة وتسلطها على المجتمع، والمؤيدون لفكرة المجتمع المدني ينطلقون به على أساس الديمقراطية التي تعني قيام المجتمع بتشريع أنظمته وعلاقاته ويحتكم إليها بالتراضي.
المجتمع المسلم
أما المجتمع المسلم فإنهم يعرفونه بأنه: أفراد مسلمون مستقرون في أرضهم، تجمعهم رابطة الإسلام، ينتظمون بنظام الشريعة الإسلامية، ويرعى شؤونهم ولاة أمر منهم، فالمجتمع المسلم وإن كان يحمل فكرة التجمع نفسها، وينطبق عليه مفهوم المجتمع لغة إلا أنه يختلف عن مفهوم المجتمع الغربي من ناحيتين:
- الناحية الأولى: أن المجتمع المسلم لا تربطه أرض أو لغة أو جنس أو أي علاقة أخرى غير الدين الواحد والعقيدة الواحدة التي تعد من أهم سمات المجتمع المسلم.
- الناحية الثانية: أن المجتمع المسلم لا يخضع لنظرية الانفصال بين الدولة والمجتمع بمكوناته، فالمجتمعات الغربية إنما أنتجت مفهوم الدولة المدنية بواسطة ما يعرف بالدولة الديمقراطية أو المدنية التي تستمد سلطتها من الشعب ويفصل فيها الدين عن الدولة، أما المجتمع المسلم فإنه تربطه مع حاكمه أواصر العدل والشورى والمناصحة والطاعة بالمعروف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الإسلام لم يعط للولاة مكانة الحكم باسم الإله، ولم يرفع قدرهم فوق مستوى بشر، فلا يخطئون ولا يراجعون، فالمجتمع المسلم لا تجد فيه ذلك الانفصام بين الحاكم والمحكوم بل كلاهما يدخل في مضمون الأمة الواحدة، والمجتمع المسلم عبر عنه القرآن بالأمة التي تجمعها عقيدة الإسلام، بغض النظر عن أي اعتبار، فالمفهوم هنا هو مفهوم شمولي يجمع كل التنظيمات والمؤسسات خارج السيطرة الحكومية.
مفهوم المجتمع المسلم في القرآن
ويشهد لهذا القرآن الكريم بقوله -تعالى-: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران 110)، وقوله -تعالى-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92). وتكاد هاتان الآيتان أن تحددا مفهوم المجتمع المسلم في ثلاث نقاط :
- الأولى: أنه أمة واحدة.
- الثانية: أن الرابط لمكونات هذه الأمة هو الدين {وأنا ربكم فاعبدون}، وهذا الرابط هو الأساس في بقاء قوام هذا المجتمع واستمراره.
- الثالثة: دور المجتمع بقوله: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}.
- والخلاصة: أن المجتمع المسلم هو مجتمع رباني، ويستمد تنظيمه من نصوص الشريعة الإسلامية السمحة وأحكامها، التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية، ويرتبط أفراد هذا المجتمع برابطة الإيمان بالله، وهي رابطة الدين، وليست رابطة الدم ولا النسب ولا العصبية، وهي أشرف الروابط وأوثقها.
جوانب الإصلاح والتغيير المجتمعي
ينبغي على المجتمع المسلم أن يكون هدفه الأول في البقاء والبناء والتغيير هو تحقيق العبودية المطلقة لله -تعالى-، وتطبيق شرعه على المستوى الفردي وعلى مستوى المجتمع، ومن هذا الهدف تنطلق كل الأهداف الأخرى والإصلاحات والتغييرات.
أولاً: جانب التشريع
لا شك أن المشرع -أولا وآخرا- إنما هو الله -تعالى- وحده، فهو صاحب الحق في ذلك، وإنما يأتي دور الأمة بواسطة نوابها أو نقبائها لدى الدولة في تفهم نصوص الشرع واستنباط التشريعات في صورتها القانونية من تلك النصوص، ليتم إلزام المحكومين بالتقيد بها، وأهل الشوری سلطة ذات سيادة تنوب عن الأمة مباشرة، ولها مهام سيادية كالاختيار والرقابة وإصدار القوانين التي تنظم أمور الدولة فيما لا يخالف الشريعة الإسلامية.
ثانيًا: جانب الرقابة والمحاسبة
إن الحديث عن الإصلاح والتغيير يقتضي إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحقيق مبدأ الحسبة بأنواعها في الإسلام، سواء حسبة الراعي على الرعية أم حسبة الرعية على الراعي، أم حسبة الرعية على الرعية، فالحسبة بمعناها العام هي تجسيد لمبدأ رقابة الأمة وسلطتها الممنوحة لها من رب العالمين، ويمكن أن نقسم رقابة الأمة إلى قسمين:
القسم الأول: مبدأ الرقابة والمحاسبة
الحسبة هي الاسم الشرعي لإشراك الأمة في مبدأ الرقابة والمحاسبة، ومن المعلوم أن هذا المبدأ هو أحد ركائز ما يسمى في هذا العصر بالنظام الديمقراطي، الذي يقوم في الأصل على مبدأ إشراك الأمة، غير أن هذا النظام باصطلاحه الأصلي يتجاوز بالأمة أيضا حدوده لا يجوز تجاوزها عندما يعطيها حق التشريع المطلق، والفقه الإسلامي احتوى على إشراك الأمة في القرار وهو نظام الشورى الذي ورد في القرآن، وعلى تكليفها بالرقابة على الدولة، ومتابعة التزامها بالدستور الذي هو الشريعة الإسلامية، وتقويمها إذا انحرفت عنه، كما احتوى على تحميل الأمة مهمة النهوض بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع لحمايته من انتشار عوامل ضعفه أو تفككه، أو فقدان هويته وذوبانه في هوية ثقافات أجنبية أخرى، وقيد كل هذه المهام بأن تكون وفق هداية الله -تعالى- والتزام شريعته، غير أن هذا الأمر ليس موكولا لأحاد الناس يقوم به، بل هو من مهام أهل الحل والعقد من العلماء والوجهاء في الأمة، وهو في بعض الدول موكول إلى ما يسمى بمجلس الشورى، أو مجلس الأمة كإحدى الوسائل التي تمتلكها الأمة تجاه حاكمها.
الأمة ذات سلطة وسيادة
ولأن الأمة ذات سلطة وسيادة، فقد أنيط بها تنصیب حاكمها ليقوم بأمورها ويرعى مصالحها، ويسوس دنیاها بدينها، ومن دون أن يكون للناس إمام مطاع أو سلطان يحمل الناس على الحق لا يمكن أن تنتظم أمورهم ولا تتحقق مصالحهم ولا يقام الدين فيهم، كما أنيط بها مبايعته ونصرته والذب عنه وطاعته في غير معصية الله، وعدم الخروج عليه ما دام مستوفيا شروط الولاية قائما بحقها، والنصح له في كل أموره، قال -عليه الصلاة والسلام-: «الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم».
القسم الثاني: رقابة الأمة على بعضها
ومقتضاها أن يكون ضمن مؤسسات المجتمع التي تشرف عليه الدولة ما يكون اختصاصه حفظ واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمة، ومراقبة حال المجتمع، ومدى تمثل مبادئ الإسلام فيه، أو بمعنى آخر الرقابة على الجانب الاجتماعي والحفاظ عليه من الانحراف والشذوذ؛ إذ بانحرافه ينحرف المجتمع ويكثر الخبث، ونقصد بالجانب الاجتماعي الذي يخضع لرقابة الأمة كل ما يتعلق بالمجتمع من قيم ومبادئ وعادات وتقاليد وعلاقات تنشأ بين أفراده سواء على مستوى الأفراد أو العائلة أو القبيلة التي لا يقوم المجتمع إلا بها.
المهمة الجليلة
وأول من يكلف بهذا المهمة الجليلة والفرض العظيم أولو الأمر وهم العلماء والأمراء، كما قال شیخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «ولذلك كان أولو العلم هم الأمراء والعلماء إذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس، ولما سألت الأحمسية أبا بكر الصديق ما بقاؤنا على هذا الأمر؟ قال ما استقامت لكم أئمتكم».
أهمية الإصلاح بالنسبة للمجتمع
الحديث عن الإصلاح يقتضي وجود فساد حقیقي، مما يقتضي على الأمة القيام بإصلاح هذا الفساد وتقويم هذا الفاسد أو تغييره، ومعالجة أسباب الفساد وقطع موارده والطرق التي تؤدي إليه، والإصلاح الذي نقصده ليس مجرد التوفيق بين متخاصمين فحسب بل هو أشمل من ذلك، فهو يتناول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة بمعانيها التي وردت في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»، إذا: فالإصلاح بهذا المعني الشامل هو الدين كله، وهو الحصن الحصين لبقاء الأمة وحدة متماسكة، يُحمى فيها حق الضعيف، ويؤخذ حق المظلوم من الظالم، ويندر فيها الخلل، ويقوي الرباط بين أفراد الأمة، ويسعى بعضها في إصلاح بعض، وبالإصلاح يصلح المجتمع وتأتلف القلوب، وتجتمع الكلمة، وينبذ الخلاف، وتزرع المحبة والمودة، وقد أمر الله -تعالى- بالإصلاح في كتابه فقال -جل شأنه- : {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} (الأنفال 1).
لاتوجد تعليقات