رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 14 مايو، 2023 0 تعليق

دور الخطيب في مواجهة الانحرافات الفكرية

 

الخطابة في الإسلام من أهم أدوات البلاغ وبيان الدين وتذكير الناس بأمور دينهم وعقيدتهم؛ فالخطابة نافذة واسعة لعرض الإسلام بنصاعته الكاملة، وتوعية المسلمين بالمرحلة التي يعيشونها، وبالأخطار والتحديات التي تحيط بهم، وهي الوسيلة المهمة في توصيل الرسالة المحمدية، وهداية الناس، وتربية الأمة بعمومها، وتوعية المجتمع بشتى أطيافه، وصياغة الإنسان الإيجابي الصالح المصلح.

     وحتى يستثمر الخطيب منبر الجمعة الاستثمار الأكمل، عليه أن يطرح المواضيع التي تمس إليها الحاجة ضمن منهج متوازن شامل، يغطي المعاني والأفكار، ويترجم منهج الإسلام في صورة القيم النبيلة والمثل الرفيعة والأخلاق الفاضلة التي تصل من القلب إلى القلب، فتنتعش الروح، ويتجدد الإيمان، وتتسع المدارك، ويتعمق الوعي إزاء قضاياه المعاصرة.

ترجمة للواقع

ويوم أن يفقد الخطيب قدرته على ترجمة واقع الناس، وقراءة مشكلاتهم القراءة الصحيحة التي تمكنه من انتقاء المواضيع التي تهمهم، وتعرفهم رأي الإسلام فيها، عندها ينصرف الناس عن سماع هذا الخطيب، ويزهدون في بضاعته، وحتى لو حضروا خطبته حضروها كالأموات، أجساداً بلا أرواح ولا قلوب ولا عقول.

رسالة الخطيب

     فرسالة الخطيب عظيمة، وأمانة التبليغ ثقيلة، وذلك من منطلق أن الخطيب الناجح أو مقومات الخطبة الناجحة هي التي تمس واقع الناس وتتصل بالعصر، وتنفتح على قضاياه الشاغلة، وتتجاوب مع آلامهم ومشكلاتهم وما يتعرضون إليه كل يوم من مستجدات وأفكار وأطروحات ومناهج، وكلها نوازل يقف الناس أمامها حيارى، كيف يتفاعلون معها، فيتلهفون وقتها إلى خطاب أصيل وعصري، يقبس من مشكاة الوحي، ويتابع خطوات الحياة، ويجيب عن موقف المسلم تجاه تلك النوازل والمستجدات بروح من وسطية الإسلام وشموليته وأصالته.

أساسيات نجاح الخطيب

     ومن ثم كان من أساسيات نجاح الخطيب في تأدية رسالته المقدسة، قدرته على وضع استراتيجية متوازنة في التعامل مع نوازل الأمة ومستجداتها، وعرضها من خلال منبر الجمعة من غير إفراط ولا تفريط، ولا إخلال ولا تطويل، ولن يتأتى ذلك للخطيب إلا من خلال الجمع بين ضرورتين متلازمتين:

- الأولى: ضرورة المعرفة الصحيحة الشاملة للإسلام النقي دينا ومنهج حياة متكامل، ونظاما فكريا وعقائديا متفردا يمتلك الإجابة الشافية عن كل تساؤلات البشر القديمة والحديثة.

- الثاني: ضرورة معرفة ظروف العصر ومتطلباته، والتفريق بين ما هو ناشئ عن التطور العلمي والصناعي، وبين ظواهر الانحراف وأسباب الفساد والانحطاط.

ثقافة الخطيب

     وهذا يستدعي ألَّا تنحصر ثقافة الخطيب في حدود تحصيله للعلم الشرعي فحسب، وإنما تتجاوزه إلى الإلمام بثقافة العصر والاطلاع على ما أمكنه من مستجدات زمانه ونوازله الملحة التي يبحث عن حقيقتها عموم الناس، وليسوا المتلبسين بها وحدهم؛ ليكون ذلك كله مكملا لثقافته الشرعية، ومعينًا على استكمال متطلبات القيام بواجب الخطابة والوعظ والإرشاد والدعوة إلى الإسلام العظيم.

سلاح الداعية والخطيب

     وثقافة مواجهة النوازل عامة، والفكرية خاصة، والوعي بها وسبر أغوارها والوقوف على حقيقتها وحكمها وموقف الإسلام منها، ستكون سلاح الداعية والخطيب الذي يواجه به حيرة الناس إزاء هذه النوازل، وجهلهم بقيم الإسلام وأحكامه، وانشغالهم المفرط بشؤون دنياهم عن أمور دينهم، وغفلتهم عن اتخاذ الإسلام أساسًا لإصلاح الواقع وبناء المستقبل، وستكون هذه الثقافة عونًا له على حسن النظر في التسارع اللاهث لنمط الحياة الحديثة الذي تتلاحق فيه أنفاس الحياة، وتتعاقب فيه المستجدات والمتغيرات، وتدور فيه عجلة الأحداث بسرعة لا تمهل حملة الدعوة وصناع الرأي وفرسان المنابر من صناعة التوعية والتذكير.

مقدمة في فقه النوازل

     من المعلوم أن القرآن الكريم قد نزل منجماً تبعاً للحوادث والمستجدات التي تعرض للأمة على مدار ثلاث وعشرين سنة، ومن ثم كان هذا هو النهج النبوي في البيان والبلاغ، كلما عرض للمسلمين أمر جديد وطرأ عليها طارئ ومستجد لم يعهدوه من قبل هرعوا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم -لبيان موقف الشرع منه.

النوازل والانحرافات الفكرية

      النوازل والانحرافات الفكرية هي تلك المستجدات من الأفكار والمناهج والأطروحات والأيديولوجيات المعاصرة والحديثة، التي نشأت في الغرب ثم غزت بلاد الإسلام مع عصر الانفتاح الثقافي والإعلامي، ولاقت رواجاً وقبولاً عند الكثيرين من أبناء الإسلام، وتأثروا وفتنوا بها، وتحتاج لبيان الحكم الشرعي منها، وموقف الإسلام وتقييمه لها.

- مثال ذلك: الحداثة، الليبرالية، العلمانية، العصرانية، التغريب، الاستشراق، الإلحاد، النسوية، الجندرية، إلى آخر القائمة الطويلة من مستجدات العقل البشري البعيد عن نور الوحي.

استراتيجية الخطيب في تناول النوازل الفكرية

     مهمة الخطيب في مواجهة النوازل الفكرية بالغة الأهمية، وتحتاج إلى الإعداد الجيد، والدراسة المستفيضة من أجل الإحاطة الكاملة بتلك النوازل، وأهم أسس الخطيب في تناول النوازل الفكرية ما يلي:

أولاً: القراءة المستفيضة عن هذه النازلة

      ويتم ذلك بالاحاطة الكاملة عن حقيقتها ونشأتها وبيئتها وواضعها وروافدها وأصولها ومبادئها وأهم أهدافها، وأهم رجالها ودعاتها في بلاد الإسلام، وعدد المتأثرين بها وشرائحهم، ومدى نفوذها، وتاريخ دخولها إلى بلاد الإسلام. وكل ذلك انطلاقاً من القاعدة الأصولية: «الحكم على شيء فرع عن تصوره»، وهذا التصور الصحيح يمكن الخطيب من تعريتها وكشف زيفها ونزع الهالات الراقة التي تصاحب الدعاية لها؛ فما من نازلة فكرية إلا كالسم المدسوس في العسل، لا يأتي إلا في أبهى هيئة وأشهى مذاق، فينخدع الكثيرون ويقعون في حبائلها.

ثانياً: دراسة بيئة النازلة وواقعها

      فليس كل النوازل والانحرافات الفكرية على قدم السواء في الأثر والانتشار، فبعض النوازل الفكرية مثل النسوية والجندرية لا تلقى الرواج الذي تلقاه العلمانية والليبرالية والقومية والديمقراطية، ومن ثم فمعرفة بيئة النازلة وواقعها ومداها وأثرها تجعل الخطيب يحدد أولوياته، ويرسم استراتيجيته ويبني خططه. قال ابن القيم-رحمه الله-: «فإنه لا يمكن من الحكم في النازلة إلا بنوعين من الفهم:

- أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.

- والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر».

ثالثاً: عرض النازلة على مصادر التشريع

     فالحكم على النازلة لن يكون من خلال الهوى والتشهي، ولكن من خلال الأصول الشرعية والقواعد الكلية للدين. فتعرض النازلة الفكرية على الكتاب والسنة والإجماع والقياس وأقوال الصحابة والنظر والعقل الصحيح والفطرة السليمة وأعراف الناس الموافقة للشرع والمقارنة مع المناهج المتشابهة مع النازلة في القديم والمعاصر، ومن خلال هذه الأصول والمصادر الكلية للشريعة يستطيع الخطيب بناء رؤية متكاملة عن رأي الشرع في هذه النازلة.

رابعاً: بيان نظرة الإسلام ورؤيته

     فكما قلنا في تعريف النوازل والانحرافات الفكرية أنها تقدم نظرة خاصة عن الحياة والأخلاق والمعاملات بعيدة تماماً عن نظرة الإسلام. فالعلمانية مثلاً ترى الحياة بلا أي مؤثر ديني أو أثر سماوي وتنزع سلطة التشريع من الله -تعالى- وتضعها بيد البشر، ومن ثم توجب على الخطيب بيان نظرة الإسلام عن دور الدين في الحياة وأهمية التحاكم إلى شرع الله. والليبرالية مثلاً تري الحياة منفتحة دون أدنى قيود باسم الحرية والدفاع عن الحقوق، ومن ثم توجب على الخطيب بيان المفهوم الحقيقي للحرية في الإسلام وحدودها، فكما قالت العرب من قبل «وبضدها تتمايز الأشياء».

خامساً: عرض النازلة على مقاصد الشريعة

     وذلك أن عرض النازلة على كليات الشريعة ودلالاتها يضبط مسيرة الحكم عليها من الانحراف إليها أو الوقوع في معارضتها دون أدلة واضحة. مع التنبيه أن هذا الإدراك هو ميدان تمايز العلماء وإنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها. والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك