دلالات الألفاظ نموذجًا – أوراق بحثية.. أهمية أصول الفقه في تقرير مسائل الاعتقاد
إن تحديد منهجية الاستدلال يعدُّ من أهم الوسائل لإنتاج المعرفة اليقينية الصحيحة، كما أن ضبط هذه المنهجية وبناء مرجعية موحَّدة لها يجعلها ذاتية، ويحافظ على خصوصيتها في التصورات والأفكار، ويضع حدًّا للتأويلات الممكنة للنصوص الشرعية محل التطبيق أو الإشكال.
ولا شكَّ أنَّ أيَّ فكر له مبادئ ومنطلقات لا يمكن أن يكون فكرًا حتى يمتلك القدرة العلمية والعقلية الكافيتين لتحديد مبادئه ومنطلقاته؛ لينتقل من الهلامية والسيولة إلى الوضوح والتأسيس، ومن هنا تظهر أهمية أصول الفقه بوصفها أداة لضبط الاستنباط وحصر الأقوال التي يمكن القول بها في تفسير الوحي، كما تظهر أهميته في توفيره للآليات العلمية المنضبطة، التي يمكن من خلال إعمالها أن يدرك المختص الحصيف خطأ أيّ مجتهد، وذلك من خلال محاكمته إلى هذا العلم الجليل، وفحص مدى تمسكه بقواعده وضوابطه؛ لأن علم أصول الفقه علم متعال على الأشخاص، يحاكمون إليه ولا يحاكم إليهم، ويمكن دخول الخطأ على الخائض في علم الشريعة من نواح متعددة:
الدليل
- الناحية الأولى: الدليل، فالخائض في فهم النص يعرض له الخطأ في الدليل من جهة اعتقاد ثبوته؛ فيكون غير ثابت كما هو الشأن في الحديث الضعيف الواهي الذي لا يتقوَّى بغيره والحديث المتروك والموضوع، ويقع الخطأ له أيضا في نفي الدليل واعتقاد عدم ثبوته والأمر بخلافه، والتمسك بما يقابل من أصل كالعموم والحقيقة وغيرهما في باب الظاهر، أو الاستصحاب الأصلي عند انعدام الدليل مطلقا.
الاستدلال
- الناحية الثانية: الاستدلال، فقد يقع الإنسان في الخطأ في الشرع لا من ناحية تمسكه بالدليل، وإنما من جهة إعماله له إعمالا خطأ، فيردّ عليه ويبطل قوله.
ترتيب الدليل
- الناحية الثالثة: الخطأ في ترتيب الدليل، فيقدِّم من الأدلة ما حقُّه التأخير شرعًا، فيوقعه ذلك في فوضى منهجية، وقد يتفرع على هذا مسائل كثيرة تؤدي إلى الابتداع.
ونظرًا لأن الأخطاء الواقعة للناس في التعامل مع الشرع لا تخرج عن هذه النواحي؛ فإنها ليست مخصوصة بباب دون باب؛ فقد تشمل مسائل الاعتقاد كما تشمل المسائل العملية، ومن هنا تدعو الحاجة إلى التنبيه على أهمية هذا العلم عمومًا، وفي ضبط مسائل الاعتقاد خصوصًا، وهذا ما سوف نتناوله في هذه الورقة العلمية بشيء من التفصيل -إن شاء الله.
أهمية أصول الفقه
أصول الفقه هي التي تبنى عليها الشريعة؛ فهي قطعية بقطعيتها؛ لأن الأصل لا يكون أصلا حتى تشهد له كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي، وقطعيتها من كونها إما راجعة إلى أصول عقلية قطعية، وإما إلى الاستقراء الكلي للشريعة وهو قطعي أيضا، ولا يضر تخلف الجزئي أحيانا.
فحاصل الأمر أن تخلُّف الجزئي من الكلي لا ينقض قطعيته في الشرعيات ولا في العاديات ولا في العقليات؛ لأن الكلي الغالب منزَّل منزلة المقطوع به، وقد فصل الشاطبي -رحمه الله- هذا الأمر تفصيلا؛ فقال: إن المقدمات المستعملة في هذا العلم والأدلة المعتمدة فيه لا تكون إلا قطعية؛ لأنها لو كانت ظنية لم تفد القطع في المطالب المختصة به، وهذا بيِّن، وهي:
- إما عقلية؛ كالراجعة إلى أحكام العقل الثلاثة: الوجوب، والجواز، والاستحالة.
- وإما عادية، وهي تتصرف ذلك التصرف أيضا؛ إذ من العادي ما هو واجب في العادة أو جائز أو مستحيل.
- وإما سمعية، وجلها المستفاد من الأخبار المتواترة في اللفظ، بشرط أن تكون قطعية الدلالة، أو من الأخبار المتواترة في المعنى، أو المستفاد من الاستقراء في موارد الشريعة.
الأحكام المتصرفة
فإذًا الأحكام المتصرفة في هذا العلم لا تعدو الثلاثة: الوجوب، والجواز، والاستحالة، ويلحق بها الوقوع أو عدم الوقوع؛ فأما كون الشيء حجة أو ليس بحجة؛ فراجع إلى وقوعه، أو عدم وقوعه كذلك، وكونه صحيحًا أو غير صحيح راجع إلى الثلاثة الأول، وأما كونه فرضًا أو مندوبًا أو مباحًا أو مكروهًا أو حرامًا فلا مدخل له في مسائل الأصول؛ من حيث هي أصول؛ فمن أدخلها فيها فمن باب خلط بعض العلوم ببعض.
ولذا تجد العلماء يؤكدون على أهمية أصول الفقه ومعرفة مباحثه عمومًا، وأنه لا يحق لباحث في الشرع أو متصدِّر للفتيا أن يكون جاهلًا بأصول الفقه، يقول الشافعي -رحمه الله-: «لا يحلّ لأحد أن يفتي في دين اللَّه إلا رجلًا عارفًا بكتاب اللَّه، بناسخه ومنسوخه، وبمُحْكَمِه ومُتَشَابهه، وتأويله وتنزيله، ومَكّيّه ومَدَنيّه، وما أُريد به، وفيما أُنزل، ثم يكون بعد ذلك بَصيرًا بحديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثلَ ما عرف من القرآن، ويكون بصيرًا باللغة، بصيرًا بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مُشْرِفًا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحةٌ بعد هذا؛ فإذا كان هذا هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي».
أهميته في الاجتهاد
يقول السبكي مبينا أهميته في الاجتهاد وضرورته: وكل العلماء في حضيض عنه، أي: الاجتهاد، إلا من تغلغل بأصل الفقه، وكَرَعَ من مناهله الصافية بكل الموارد، وسَبَحَ في بحره، وتروى من زلاله، وبات يعل به وطرفه ساهد.
وهذا الشاطبي -رحمه الله- بعد أن قرر أهمية أصول الفقه وميزته العلمية في علوم المسلمين ختم حديثه بقوله: فإذا تقرَّر هذا فلا يؤخذ (العلم) إلا ممن تحقق به، وهذا أيضا واضح في نفسه، وهو أيضا متفق عليه بين العقلاء؛ إذ من شروطهم في العالم بأي علم اتفق أن يكون عارفا بأصوله، وما ينبني عليه ذلك العلم، قادرا على التعبير عن مقصوده فيه، عارفا بما يلزم عنه، قائمًا على دفع الشبه الواردة عليه فيه.
فإذا تبين للقارئ الكريم أهمية علم أصول الفقه في الاستدلال بقي لنا أن نأخذ له مباحث منه، يعرف بها الحق من الباطل، ويعرف كيف يدير العلماء خلافاتهم من خلالها، وهي مباحث الألفاظ والدلالات؛ فإن المجتهد والمتدبر للقرآن الكريم لا يهتدي سبيلا فيه ما لم يكن له علم ومعرفة بمباحث الألفاظ والدلالات حتى يتنسى له معرفة مراد الله -عز وجل- ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ، وسوف نبين أهمية معرفة الألفاظ والدلالات.
أهمية معرفة الألفاظ والدلالات
القرآن نزل بلسان عربي مبين؛ ففيه ما في اللسان العربي من الأساليب ولو لم يستوعبها لعلوه عن بعضها، لكن كل ما يعد من قبيل الفصاحة والتفنن في المعاني؛ فإن القرآن قد أتى بالمنتهى فيه، وكذلك رسول الله[؛ فإنه أوتي جوامع الكلم، وتكلَّم بما عهدته العرب من كلامها على مستوى الأساليب، وإن جهل بعض المستمعين بعض مفرداته كما هو الحال في لفظ الرويبضة والهرج وغيرها من الألفاظ التي استشكلها الصحابة، واستشكال المفرد لا ينفي أنَّ التركيب معهود عند المتكلِّم وإن استوحش بعض العبارات، ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى معرفة الألفاظ في القرآن ودلالتها.
تكلَّمت به العرب
فالقرآن تكلَّم بما تكلَّمت به العرب، وجرى على أساليبها في الخطاب، وذلك أن العرب قد تتكلَّم بالشيء؛ فلا يكون على ظاهره؛ فلابد له من تقدير، إما عقلي أو شرعي، مثل قوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} (المائدة: 3)؛ فلابد في كل هذا من تقدير يدل عليه السياق؛ ففي هذا يكون التقدير: حرم عليكم أكل الميتة.
الأخذ بالمفهوم
كما أن في القرآن الأخذ بالمفهوم، سواء كان مفهوم موافقة أم مفهوم مخالفة، ويمكن تعطيل مفهوم المخالفة من كونه خرج مخرج الغالب أو سيق للامتنان، وغير ذلك مما هو مبثوث في كتب أصول الفقه، وأصل كلام ابن عاصم هو نثرُ نَثَره الشاطبي في الموافقات حيث قال: للغة العربية؛ من حيث هي ألفاظ دالة على معان نظران:
- أحدهما: من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقة دالة على معان مطلقة، وهي الدلالة الأصلية.
- والثاني: من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة، وهي الدلالة التابعة.
الجهة الأولى
هي التي تيشترك فيها الألسنة جميعها، وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين، ولا تختص بأمة دون أخرى؛ فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلا كالقيام، ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام، تأتى له ما أراد من غير كلفة، ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الإخبار عن أقوال الأولين -ممن ليسوا من أهل اللغة العربية- وحكاية كلامهم، ويتأتى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها، وهذا لا إشكال فيه.
الجهة الثانية
فهي التي يختص بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك الإخبار؛ فإن كل خبر يقتضي في هذه الجهة أمورا خادمة؛ لذلك الإخبار، بحسب الخبر والمخبر والمخبر عنه والمخبر به، والإخبار نفسها في الحال والمساق، ونوع الأسلوب: من الإيضاح، والإخفاء، والإيجاز، والإطناب، وغير ذلك.
وذلك أنك تقول في ابتداء الإخبار: (قام زيد) إن لم تكن ثم عناية بالمخبر عنه، بل بالخبر؛ فإن كانت العناية بالمخبر عنه قلت: (زيد قام)، وفي جواب السؤال أو ما هو منزل تلك المنزلة: (إنَّ زيدا قام)، وفي جواب المنكر لقيامه: (والله، إن زيدا قام)، وفي إخبار من يتوقع قيامه أو الإخبار بقيامه: (قد قام زيد)، أو: (زيد قد قام)، وفي (التبكيت) على من ينكر: (إنما قام زيد).
ثم يتنوع أيضا بحسب تعظيمه أو تحقيره -أعني: المخبر عنه-، وبحسب الكناية عنه والتصريح به، وبحسب ما يقصد في مساق الإخبار، وما يعطيه مقتضى الحال، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها، وجميع ذلك دائر حول الإخبار بالقيام عن زيد.
فمثل هذه التصرفات التي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها ليست هي المقصود الأصلي، ولكنها من مكملاته ومتمِّماته، وبطول الباع في هذا النوع يحسن مساق الكلام إذا لم يكن فيه منكر، وبهذا النوع الثاني اختلفت العبارات وكثير من أقاصيص القرآن؛ لأنه يأتي مساق القصة في بعض السور على وجه، وفي بعضها على وجه آخر، وفي ثالث على وجه ثالث، وهكذا ما تقرَّر فيه من الإخبارات لا بحسب النوع الأول، إلا إذا سكت عن بعض التفاصيل في بعض، ونص عليه في بعض، وذلك أيضا لوجه اقتضاه الحال والوقت.
مراعاة هذا المعنى
فلزم مراعاة هذا المعنى في فهم الشريعة عموما؛ ولذا عد العلماء من المزالق تجاوز هذا المعنى والعدول عنه إلى غيره؛ فمن رام فهم كلام الله بالعدول بالألفاظ عن مساقاتها المفهومة من التركيب؛ فإنه يكون قد عدل بالقرآن عن معناه الأصلي إلى معان يعطيها هو من عند نفسه، وقد نبه الإمام الشافعي -رحمه الله- إلى أهمية معرفة الألفاظ وأساليبها في فهم الوحي؛ حيث يقول: «لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها، ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها»، وقال أيضًا: «فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله»، وقال ابن تيمية: «فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه».
وضع الكلمة اللغوي
وها هنا مسألة هي من متممات هذا الباب، وهي: معرفة وضع الكلمة اللغوي؛ إذ القرآن قد يستخدم اللفظ على أصله، وقد يستخدمه في بعض مجازاته، وقد يجعل له وضعًا خاصًّا؛ فتكون له حقيقة أخرى كما هو شأن الحقائق الشرعية عند من لا يراها مجازًا، وهنا يلزم على الإنسان أن يعد ألفاظ الشارع، ويقف عندها، ويعلم أن بيان الشارع مقدَّم على كل بيان، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: والاسم إذا بين النبي صلى الله عليه وسلم حدَّ مسماه لم يلزم أن يكون قد نقله عن اللغة أو زاد فيه، بل المقصود أنه عرف مراده بتعريفه هو صلى الله عليه وسلم كيفما كان الأمر؛ فإن هذا هو المقصود، وهذا كاسم الخمر؛ فإنه قد بين أن كل مسكر خمر؛ فعرف المراد بالقرآن، وسواء كانت العرب قبل ذلك تطلق لفظ الخمر على كل مسكر أو تخص به عصير العنب، لا يحتاج إلى ذلك؛ إذ المطلوب معرفة ما أراد الله ورسوله بهذا الاسم، وهذا قد عرف ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وبأن الخمر في لغة المخاطبين بالقرآن كانت تتناول نبيذ التمر وغيره، ولم يكن عندهم بالمدينة خمر غيرها، وإذا كان الأمر كذلك؛ فما أطلقه الله من الأسماء وعلق به الأحكام من الأمر والنهي والتحليل والتحريم، لم يكن لأحد أن يقيِّده إلا بدلالة من الله ورسوله.
لاتوجد تعليقات