رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: ياسر عبدربه 6 فبراير، 2012 0 تعليق

دفع الشبهات حول جمع القرآن الكـــــريم 3- تاريخ جمع القرآن الكريم

 

تناولنا في الحلقات السابقة مراحل جمع القرآن الكريم وصفته وأدوات الكتابة ومميزات جمع القرآن في عهد الرسول [، وكذلك أبوبكر الصديق رضي الله عنه وسنتحدث في هذه الحلقة عن تاريخ الجمع واللجنة التي اختيرت لهذه المهمة الجبارة فضلاً عن الفريق الذي سلكه عثمان رضي الله عنه لانجاز المهمة.

تاريخ هذا الجمع:

كان ذلك في أواخر سنة 24 وأوائل سنة 25 كما قال ابن حجر العسقلاني، رحمه الله تعالى.

فكرة الجمع:

       لما سمع عثمان -رضي الله عنه- ما سمع، وأخبره حذيفة - رضي الله عنه - بما رأى، استشار الصحابة فيما يفعل، فقد روى ابن أبي داود بإسناد صحيح -كما يقول الحافظ ابن حجر-  من طريق سويد بن غفلة قال: قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «يأيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف.. فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعًا، قال: ما تقولون في هذه القراءة؛ فقد بلغني أن بعضهم يقول:  إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفرًا، قلنا: فما ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا يكون اختلاف، قلنا: فنعم ما رأيت..  قال علي: والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل».

اللجنة المختارة:

اختار عثمان - رضي الله عنه - أربعة لنسخ المصاحف هم:

زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام، وهؤلاء الثلاثة من قريش.

فقد سأل عثمان الصحابة: «من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت، قال: فأي الناس أعرب؟ وفي رواية أفصح، قالوا: سعيد ابن العاص، قال عثمان: فليمل سعيد، وليكتب زيد».

المنهج في هذا الجمع:

       بعد ما اتفق عثمان مع الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- على جمع القرآن على حرف، سلك منهجًا فريدًا، وطريقًا سليمًا، أجمعت الأمة على سلامته ودقته.

- فبدأ عثمان - رضي الله عنه - بأن خطب في الناس فقال: «أيها الناس، عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن وتقولون: «قراءة أُبيّ» و«قراءة عبدالله»، يقول الرجل: والله ما تقيم قراءتك، فأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به، وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذكر كثرة، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلاً رجلاً فناشدهم، لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وهو أملاه عليك؟ فيقول: نعم».

- وأرسل عثمان - رضي الله عنه - إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر -رضي الله عنهما- أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نعيدها إليك، فأرسلت بها إليه، ومن المعلوم أن هذه الصحف هي التي جمعت في عهد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - على أدق وجوه البحث والتحري.

- ثم دفع ذلك إلى زيد بن ثابت والقرشيين الثلاثة، وأمرهم بنسخ مصاحف منها، وقال عثمان للقرشيين: «إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم».

- إذا تواتر في آية أكثر من قراءة تكتب الآية خالية من أية علامة تقصر النطق بها على قراءة واحدة فتكتب برسم واحد يحتمل القراءتين أو القراءات فيها جميعًا، مثل:

أ- {فَتَبَيَّنُوا} التي قرأت أيضًا: {فتثبتوا}.

ب- {نُنشِزُهَا} قرأت أيضًا: {نَنشُرُها}.

        أما إذا لم يمكن رسمها بحيث تحتمل القراءات فيها فتكتب في بعض المصاحف برسم يدل على قراءة، وفي مصاحف أخرى برسم يدل على القراءة الأخرى مثل:

أ- {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ} هكذا كتب في بعض المصاحف، وفي بعضها: {وأوصى}.

ب- {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}. بواو قبل السين في بعض المصاحف، وفي بعضها بحذف الواو.

        وبعد الفراغ من نسخ المصاحف بعث عثمان - رضي الله عنه - بنسخ منها إلى الأمصار الإسلامية؛ حيث نشط المسلمون في نسخ مصاحف منها للأفراد، وكان زبيد بن الحارث في المدينة يتفرغ في رمضان من كل سنة لعرض المصاحف فيعرضون مصاحفهم عليه، وبين يديه مصحف أهل المدينة.

مزايا جمع القرآن في عهد عثمان - رضي الله عنه -:

تميز هذا الجمع بمزايا عديدة، منها:

- كُتب القرآن على حرف واحد من الأحرف السبعة هو حرف قريش، وقد كتب مجردًا حتى يحتمل أحرفًا أخرى، فإن لم يحتمل إلا حرفًا واحدًا كتب بلسان قريش، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: «جمع عثمان - رضي الله عنه - الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي أطلق لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القراءة بها لما كان ذلك مصلحة».

- إهمال ما نسخت تلاوته؛ فقد كان قصد عثمان - رضي الله عنه - جمع الناس على مصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه؛ خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد.

- الاقتصار على ما ثبت في العرضة الأخيرة وإهمال ما عداه؛ فقد روى ابن أبي داود في «المصاحف» عن محمد بن سيرين، عن كثير بن أفلح، قال: «لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فيهم أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر، فجيء بها قال: وكان عثمان يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه. قال محمد: فقلت لكثير، وكان فيهم فيمن يكتب: هل تدرون لم كانوا يؤخرونه؟ قال: لا. قال محمد: فظننت ظنًا إنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الآخرة فيكتبونها على قوله».

- الاقتصار على القراءات الثابتة المعروفة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم -  وإلغاء ما لم يثبت. وقد كان الهدف من جمع القرآن الكريم في عهد عثمان - رضي الله عنه - تجريده مما لم يثبت من القراءات في العرضة الأخيرة للقرآن على الرسول -صلى الله عليه وسلم - وقد كان بعض الصحابة يقرأ بقراءة كان سمعها من الرسول -صلى الله عليه وسلم - ولم تثبت في العرضة الأخيرة.

- كان مُرتَّب الآيات والسور على الوجه المعروف الآن؛ قال الحاكم في «المستدرك»: «إن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة، فقد جُمع بعضه بحضرة الرسول -صلى الله عليه وسلم - ثم جمع بعضه بحضرة أبي بكر الصديق، والجمع الثالث هو في ترتيب السور، وكان في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنهم أجمعين».

الفروق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان -رضي الله عنهما-:

كان معنى «الجمع» ظاهرًا في جمع القرآن في عهد أبي بكر، فقد كان القرآن مفرقًا فأمر بجمعه، كما قال المحاسبي: «كان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء».

      إذاً فمعنى الجمع فيه ظاهر لا يحتاج إلى تفريق بينه وبين الجمع في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم - لكن الإشكال واللبس هو في الجمعين الثاني والثالث؛ إذ كيف يأمر عثمان بجمع القرآن وهو مجموع في عهد أبي بكر، رضي الله عنهما؟!

ولذا فإن العلماء يولون التفريق بين جمع القرآن في عهد أبي بكر وجمعه في عهد عثمان عنايتهم لإزالة هذا اللبس، ويذكرون فروقـًا.

        قال القاضي أبو بكر في «الانتصار»: «لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلغاء ما ليس كذلك».

       وقال ابن التين وغيره: «الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته؛ لأنه لم يكن مجموعًا في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبًا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم - وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرؤوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك ببعضهم إلى تخطئة بعض؛ فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبًا لسوره واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجًا بأنه نزل بلغتهم».

ونستطيع أن نستخلص أهم الفروق، وهي:

- أن الباعث لجمع القرآن في عهد أبي بكر - رضي الله عنه  - خشية أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حفظته، وذلك حين استحرَّ القتل بالقراء في حروب الرِّدَّة، أمَّا جمعه في عهد عثمان - رضي الله عنه - فلكثرة الاختلاف في وجوه القراءة.

- أنَّ جمع أبي بكر - رضي الله عنه - يشمل ما بقي من الأحرف السبعة في العرضة الأخيرة، أما جمعه في عهد عثمان فقد كان على حرف واحد هو حرف قريش مع تجريده، حتى يحتمل أحرفًا أخرى.

- أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - لم يلزم الناس باتباع المصحف الذي كتبه، أما عثمان - رضي الله عنه - فألزمهم باتباعه بمشورة الصحابة وإجماعهم؛ لذا مُنعت القراءة بما نسخ من الأحرف السبعة ولم يثبت في العرضة الأخيرة، وظهر بذلك ما يُعرف بالقراءة الشاذة، ولو صَحّ سندها وثبت قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم - بها، وبهذا يظهر أن ضابط القراءة الشاذة التي صح سندها ولم يقرأ بها الأئمة كونها نسخت في العرضة الأخيرة.

- أنَّ جمع أبي بكر - رضي الله عنه - كان مرتب الآيات، وفي ترتيب السور خلاف، أمَّا جمع عثمان فقد كان مرتب الآيات والسور باتفاق.

- أنَّ الجمع في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - بمعنى الجمع في مصحف واحد، وأما الجمع في عهد عثمان - رضي الله عنه - فبمعنى نسخه في مصاحف متعددة.

إنفاذ المصاحف:

       بعد أن أتمَّت اللجنة نسخ المصاحف أنفذ عثمان - رضي الله عنه - إلى آفاق الإسلام بنسخ منها، وأرسل مع كل مصحف مَنْ يوافق قراءته، فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبعث عبدالله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن أبي شهاب مع الشامي، وأبا عبدالرحمن السُّلمي مع الكوفي، وعامر بن عبدالقيس مع البصري، وتلقى التابعون في كل قطر قراءة إمامهم، وتفرغ قوم منهم لضبط القراءات حتى صاروا أئمة يُرحل إليهم.

موقف الصحابة من هذا الجمع:

       وبعد أن أنفذ عثمان المصاحف أمر بما سوى مصحفه أن يُحرق، وبعث إلى أهل الأمصار: «إني قد صنعت كذا وكذا، ومحوت ما عندي فامحوا ما عندكم».

       وقد رضي الصحابة -رضي الله عنهم- ما صنع عثمان، وأجمعوا على سلامته وصحته. وقال زيد بن ثابت: «فرأيت أصحاب محمد يقولون: أحسن والله عثمان، أحسن والله عثمان».

       وروى ابن أبي داود عن مصعب بن سعد، قال: «أدركت الناس متوافرين حين حرَّق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك، وقال: لم يُنكِر ذلك منهم أحد».  وروى سويد بن غفلة، قال: قال علي - رضي الله عنه -: «لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا»، وعند ابن أبي داود قال: قال علي في المصاحف:  «لو لم يصنعه عثمان لصنعته».

        ولم يُنقل عن أحد من الصحابة خلاف أو معارضة لما فعل عثمان -]- إلا ما روي من معارضة عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - وينبغي أن نعلم أن معارضته - رضي الله عنه - لم تكن بسبب حصول تقصير في الجمع، أو نقص أو زيادة، وإنما جاءت معارضته لعدم تعيينه مع أعضاء لجنة النسخ للمصاحف؛ ولهذا قال: «أُعْزَلُ عن نسخِ المصاحف ويتَوَلاَّها رجل، والله لقد أسلمت وإنَّه لفي صُلب رجلٍ كافرٍ».

وروى الترمذي عن ابن شهاب، قال: «فبلغني أن ذلك كَرِهَه مِن مقالة ابن مسعود رجالٌ من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ».

        وقد دافع أبو بكر الأنباري عن اختيار زيد بقول: «ولم يكن الاختيار لزيد.. إلا أن زيدًا كان أحفظ للقرآن من عبدالله؛ إذ وعاه كله ورسول الله -[- حيٌّ، ولا ينبغي أن يظنَّ جاهل أنَّ في هذا طعنًا على عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -  لأن زيدًا إذ كان أحفظ للقرآن منه فليس ذلك موجبًا لتقديمه عليه؛ لأن أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- كان زيد أحفظ منهما للقرآن، وليس هو خيرًا منهما، ولا مساويًا لهما في الفضائل والمناقب، وما بدا عن عبدالله بن مسعود من نكير فشيء نَتَجَه الغضبُ، ولا يعمل به ولا يؤخذ به، ولا يُشك في أنه -]- قد عرف بعد زوال الغضب عنه حُسْنَ اختيار عثمان ومن معه من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وبقي على موافقتهم وترك الخلاف لهم».

وأكَّد ذلك الذهبي -رحمه الله- فقال: «وقد ورد أنَّ ابن مسعود رضي وتابع عثمان ولله الحمد».

         وقال ابن كثير -رحمه الله-: «وإنما روي عن عبدالله بن مسعود شيء من الغضب بسبب أنه لم يكن ممن كتب المصاحف... إلى أن قال: ثم رجع ابن مسعود إلى الوفاق».

فإن قيل: كيف جاز للصحابة ترك ما لا يحتمله الرسم من الأحرف التي أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم - بقراءة القرآن بها؟

      قيل: إنَّ أمره إياهم بالأحرف السبعة لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة... وإذا كان ذلك كذلك لم يكن القوم بتركهم بقية الأحرف تاركين ما عليهم نقله، بل كان الواجب عليهم من الفعل ما يؤدون به الواجب، وهو أحد هذه الأحرف، فإذا حفظوه ونقلوه؛ فقد فعلوا ما كلفوا به.

        وقد علَّل ابن القيم -رحمه الله تعالى- جمع الناس على حرف واحد، وهو أيضًا تعليل حسن للاقتصار على ما يحتمله الرسم منها حيث قال: «فلما خاف الصحابة -رضي الله عنهم- على الأمة أن يختلفوا في القرآن، ورأوا أن جمعهم على حرف واحد أسلم وأبعد من وقوع الاختلاف؛ فعلوا ذلك ومنعوا الناس من القراءة بغيره، وهذا كما لو كان للناس عدَّة طرق إلى البيت، وكان سلوكهم في تلك الطرق يوقعهم في التفرُّق والتشتت، ويطمع فيهم العدو، فرأى الإمامُ جمعهم على طريق واحد، فترك بقية الطرق جاز ذلك، ولم يكن فيه إبطال لكون تلك الطرق موصلة إلى المقصود، وإن كان فيه نهي عن سلوكه لمصلحة الأمة».

عدد المصاحف التي أمر عثمان - رضي الله عنه - بنسخها:

       اختلف في عدد النسخ التي كتبها عثمان إلى خمسة أقوال: قيل أنها أربع نسخ؛ قال أبو عمرو الداني: «أكثر العلماء على أنَّ عثمان بن عفان -رضي الله عنه -  لمَّا كتب المصحف جعله على أربع نسخ، وبعث إلى كلِّ ناحية من النواحي بواحدة منهن، فوجَّه إلى الكوفة إحداهن، وإلى البصرة أخرى، وإلى الشام الثالثة، وأمسك عند نفسه واحدة».

- قيل: إنها خمس نسخ؛ قال السيوطي: «المشهور أنها خمسة».

- قيل: إنها سبع نسخ؛ فقد روى ابن أبي داود عن أبي حاتم السجستاني، قال: «لمَّا كتب عثمان المصاحف حين جمع القرآن كتب سبعة مصاحف، فبعث واحدًا إلى مكة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وآخر إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا». ونقل ذلك أبو شامة والمهدوي، وقال مكي: «ورواته أكثر».

- وقيل: إنها ثمانية، وهو قول ابن الجزري.

- وقيل: إنها ستة، وعلى هذا القول بنى ابن عاشر منظومته في اختلاف الحروف.

خبر هذه المصاحف:

         ذكر بعض المؤرخين القدامى رؤيتهم لبعض هذه المصاحف، وممن ذكر رؤيته لبعضها ابن جبير (ت614هـ) حين زار جامع دمشق رأى في الركن الشرقي من المقصورة الحديثة في المحراب خزانة كبيرة فيها مصحف من مصاحف عثمان - رضي الله عنه - وهو المصحف الذي وجَّه به إلى الشام كما قال.

        وقد زار المسجد أيضًا ابن بطوطة (ت779هـ) فقال: «وفي قبلة المسجد المقصورة العظمى التي يؤم فيها إمام الشافعية، وفي الركن الشرقي منها إزاء المحراب خزانة كبيرة فيها المصحف الكريم الذي وجهه أمير المؤمنين عثمان بن عفان -]- إلى الشام».

        ورأى النسخة نفسها ابن كثير (774هـ) -رحمه الله تعالى- حيث قال: «وأمَّا المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، وقد كان قديمًا في طبريَّة، ثم نقل منها إلى دمشق في حدود ثماني عشرة وخمسمائة، وقد رأيته كتابًا جليلاً عظيمًا ضخمًا بخط حسن مبين قوي بحبر محكم، في رقٍّ أظنه من جلود الإبل، والله أعلم».

      كما ذكر ابن بطوطة أنه رأى في مسجد علي - رضي الله عنه - في البصرة المصحف الذي كان عثمان - رضي الله عنه - يقرأ فيه لما قُتِلَ، وأثر تغيير الدم في الورقة التي فيها قوله -تعالى-: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة:137)، ويبدو كذلك أن ابن الجزري وابن فضل الله العمري قد رأيا كلاهما هذا المصحف الشامي نفسه، ورأى ابن الجزري مصحفـًا في مصر.

      ويبدو -كذلك- أنَّ المصحف الشامي ظلَّ محفوظًا في الجامع الأموي إلى أوائل القرن الرابع عشر الهجري حيث قيل: إنه احترق، فقد قال الأستاذ محمد كرد علي في حديثه عن الجامع الأموي: حتى إذا كانت سنة 1310هـ، سرت النار إلى جذوع سقوفه فالتهمتها في أقل من ثلاث ساعات فدثر آخر ما بقي من آثاره ورياشه، وحرق فيه مصحف كبير بالخط الكوفي كان جيء به من مسجد عتيق في بُصرى، وكان الناس يقولون: إنه المصحف العثماني. وقيل: إن هذا المصحف أمسى زمنًا في حوزة قياصرة الروس في دار الكتب في ليننجراد ثم نقل إلى إنجلترا.

        كما أن هناك مصاحف أثرية تحتويها خزائن الكتب والآثار في مصر، ومنها المصحف المحفوظ في خزائن الآثار بالمسجد الحسيني، ويقال عنها: إنها مصاحف عثمانية، وقد شَكَّك كثيرًا الشيخ محمد عبدالعظيم الزرقاني في هذا معللاً بأن فيها زركشة ونقوشًا موضوعة كعلامات للفصل بين السور ولبيان أعشار القرآن، ومعلوم أن المصاحف العثمانية كانت خالية من كل هذا.

        وفقد هذه المصاحف لا يقلل من ثقتنا اليقينية بما تواتر واستفاض نقله من المصاحف ثقة عن ثقة وإمامًا عن إمام، وسواء وجدت هذه المصاحف أو فقدت فإنَّا على يقين تام لا يزاوله شك ولا يعتريه ريب بسلامة هذه المصاحف من الزيادة أو النقصان، وقد اعترف بذلك غير المسلمين من العلماء المحققين.

       يقول المستشرق موير: «إنَّ المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف، ولقد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يُذكر، بل نستطيع أن نقول: إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها، والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم يُعدّ أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا».

من طرق جمع القرآن:

من الطرق لجمع كتاب الله بعد جمعه في صدور المؤمنين، وجمعه وتدوينه يأتي النوع الثالث:

جمعه بمعنى تسجيله صوتيًا:

         من المعلوم أنَّ للتلاوة أحكامًا ينبغي أن يأخذ بها تالي القرآن الكريم: كالقلقلة، والرَّوْمِ، والإشْمَامِ، والإخفَاء، والإدْغَامِ، والإقلاب، والإظْهارِ، ونحو ذلك، وليس من السهل بل قد تتعذر كتابة مثل هذا.

         ولهذا قرر العلماء -رحمهم الله تعالى- أنه لا يصح التعويل على المصاحف وحدها، بل لابُدَّ من التلقِّي عن حافظٍ متقنٍ، وكانوا يقولون: «من أعظم البَليَّة تشييخ الصحيفة»، ويقولون: «لا تأخذوا القرآن من مصحفي، ولا العلم من صحفيّ»، وهو الذي يُعَلِّمُ الناس وينظر إلى رسم المصحف، وكان الشافعي -رحمه الله تعالى- يقول: «من تفقه من بطون الكتب ضَيَّعَ الأحكام».

        بل إنَّ أعلام حُفَّاظ القرآن يُميزون الحفظ بالتلقي، فهذا ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول: «والله لقد أخذت مِنْ في رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بضعًا وسبعين سورة»، ويبين عمَّن أخذ باقيه فيقول في رواية أخرى: «وأخذتُ بقية القرآن عن أصحابه»، ولإدراكه -]- مكانة التلقي بالمشافهة كان إذا سُئل عن سورة لم يكن تلقاها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - صرَّح لهم بذلك ودَلَّهم على مَن تلقاها بالمشافهة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم - فعن مَعْدِ يكَرِبَ قال: «أتينا عبدالله، فسألناه أن يقرأ: {طسم} المائتين، فقال: ما هي معي، ولكن عليكم مَنْ أخذها مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - خبَّاب بن الأرت، قال: فأتينا خباب بن الأرت، فقرأها علينا».

        وما قاله ابن مسعود - رضي الله عنه - وغيره من أعلام الحفاظ في وجوب التلقي للقرآن مشافهة لم يبتدعوه من عند أنفسهم، وإنما أخذوه من سنة رسول الله -صلىالله عليه وسلم -  فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم - نفسه يتعلم القرآن من جبريل -عليه السلام- ويُشافهه به مشافهة، ويُعارضه القرآن في كل عام في شهر رمضان، وعارضه عام وفاته بالقرآن مرتين، والصلوات الخمس يُجْهَرُ في ثلاث منها، وكذا في صلاة الجمعة، والاستسقاء، والخسوف، والكسوف، والتراويح، والعيدين، وفي هذا إشارة إلى تعلم الناس للتلاوة الصحيحة في الصلاة الجهرية ثم تطبيقها في الصلاة السرية.

        وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم - يبعث القراء إلى مَن يدخل في الإسلام لتعليمهم التلاوة، وكان بإمكانه -صلى الله عليه وسلم - أن يكتب لهم، واقتدى بسنته من بعده الخلفاء الراشدون، فأرسلوا إلى أهل البلدان المفتوحة قُرّاءً يعلمونهم القرآن.

       ولما نسخ عثمان المصاحف أرسل مع كل مصحف قارئًا يُعَلم الناس عليه, ولا شك أنَّ هذا دليل قاطع على أن من أحكام القراءة ما لا يمكن إتقانه إلا بالتلقي الشفهي، ولم يكن من وسيلة لتحقيق ذلك إلا عن طريق القرّاء، وقد وجدت في العصر الحديث وسائل وآلات تسجل الصوت، ثم تعيده.

       ولا شك أنَّ هذه الآلات، والاستفادة منها في نشر القرآن الكريم وبثه في العالم الإسلامي؛ خاصة في البلدان التي تفتقد المُعَلِّم الضابط، من خير الوسائل لحفظه وتعليمه.

وقد أدرك هذا الأمر بعضُ الغيورين على الإسلام والحريصين على نشره، فتداعوا لجمع القرآن في أشرطة صوتية كما جُمِعَ على الورق في الصحف.

        وتبنَّت الجمعَ الجمعيةُ العامة للمحافظة على القرآن الكريم بمصر، وكان ذلك سنة 1379هـ باقتراح من رئيسها الأستاذ «لبيب السعيد»، وقد اتفقوا على تسمية المشروع بـ»المصحف المرتل» أو «الجمع الصوتي».

نسأل الله أن ينعم على الأمة بحفظ كتاب ربها، وصلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك