دفع الشبهات حول جمع القرآن الكريم 2- تدوين القرآن الكريم
من أنواع حفظ الصحابة والتابعين لكتاب الله -تبارك وتعالى- بعد حفظه في صدروهم -رضي الله عنهم- جمعه بمعنى كتابته وتدوينه:
جُمع القرآن الكريم بهذا المعنى ثلاث مرات:
- الجمع الأول: في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
- الجمع الثاني: في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
- الجمع الثالث: في عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.
المراد بالجموع الثلاثة:
وقد يشكل على الذهن كيف يجمع الشيء الواحد ثلاث مرات؛ فإذا كان جمع في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم - فكيف يجمع في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- وإذا جمع في عهد أبي بكر ثانية فكيف يجمع ثالثة؟!
والجواب:
أنه لا يُراد بالجمع معناه الحقيقي في جميع المراحل، فالمراد بجمع القرآن في عهد الرسول -[- «كتابته وتدوينه»، والمراد بجمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- «جمعه في مصحف واحد»، والمراد بجمع القرآن في عهد عثمان -رضي الله عنه- «نسخه» في مصاحف متعددة.
ويظهر بهذا أن الجمع بمعناه الحقيقي كان في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وسنتحدث عن كل مرحلة من مراحل هذا الجمع:
أولاً: جمع القرآن بمعنى كتابته وتدوينه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم :
- كُتَّاب الوحي: اتخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - عددًا من الصحابة وكان إذا نزل عليه شيء من القرآن أمر أحدهم بكتابته وتدوينه، ويعرف هؤلاء الصحابة بـ«كُتَّاب الوحي» ومنهم: الخلفاء الأربعة، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، ومعاوية ابن أبي سفيان، ويزيد بن أبي سفيان، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع، والزبير بن العوام، وعامر بن فهيرة، وعمرو بن العاص، وعبدالله بن الأرقم، والمغيرة بن شعبة، وعبدالله بن رواحة، وخالد بن الوليد، وثابت بن قيس وغيرهم.
صفة هذا الجمع:
وصف هذا الجمع صحابيان جليلان، فقال زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -[- نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنَ الرِّقَاعِ» (رواه الترمذي والحاكم، وصححه الألباني)، أي: نجمعه لترتيب آياته من الرقاع.
وروى عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من كان يكتبه فيقول: «ضَعُوا هَذِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا» (رواه أحمد الحاكم، وحسنه الحافظ ابن حجر).
أدوات الكتابة:
لم تكن أدوات الكتابة ميسرة للصحابة في ذلك الوقت، فكانوا يكتبونه على كل ما تناله أيديهم من:
العسب: وهي جريد النخل.
واللخاف: وهي الحجارة الرقيقة.
والرقاع: وهي القطعة من الجلد أو الورق.
والكرانيف: وهي أطراف العسب العريضة.
والأقتاب: جمع قتب وهي الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه.
والأكتاف: جمع كتف وهي عظم عريض للإبل والغنم.
وكان كُتاب الوحي -رضي الله عنهم- يضعون كل ما يكتبون في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينسخون لأنفسهم منه نسخة.
مميزات جمع القرآن في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
- كتب القرآن في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الأحرف السبعة، فقد ثبت في السنة نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف، ومما ورد في ذلك حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وفيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ» (متفق عليه).
- أجمع العلماء على أن جمع القرآن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مرتب الآيات، أما ترتيب السور ففيه خلاف.
- بعض ما كتب في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - نسخت تلاوته وظل مكتوبًا حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي الحديث عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ. ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ» (رواه مسلم).
- لم يكن القرآن الكريم في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مجموعًا في مصحف واحد، بل كان مفرقًا في الرقاع والأكتاف واللخاف وغيرها؛ ولهذا قال زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: «قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن القرآن جمع في شيء»، وقال أيضًا لما أمر بجمع القرآن في عهد أبي بكر -رضي الله عنه-: «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال».
ولعلك تسأل: لماذا لم يجمع القرآن في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مصحف واحد؟
وقد أجاب العلماء -رحمهم الله -تعالى- على ذلك، وذكروا أسبابًا، منها:
- أن الله -تعالى- قد أمَّن نبيه -عليه الصلاة والسلام- من النسيان بقوله -سبحانه -وتعالى-: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى. إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعلى:6-7)، أي: ما شاء أن يرفع حكمه بالنسخ، فلا خوف إذاً أن يذهب شيء من القرآن الكريم، وأما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فإن النسيان قد يقع، فبادر المسلمون إلى جمعه في مصحف واحد.
- قال الخطابي: «إنما لم يجمع - صلى الله عليه وسلم - القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة».
وقال الزركشي: «وإنما تُرك جمعه في مصحف واحد؛ لأن النسخ كان يرد على بعض، فلو جمعه ثم رفعت تلاوة بعض لأدى إلى الاختلاف واختلاط الدين، فحفظه الله في القلوب إلى انقضاء زمان النسخ، ثم وفق لجمعه الخلفاء الراشدين».
- أن القرآن الكريم لم ينزل جملة واحدة، بل نزل منجمًا في ثلاث وعشرين سنة.
- أن ترتيب آيات القرآن وسوره ليس على حسب ترتيب نزوله، ولو جمع القرآن في مصحف واحد حينذاك لكان عرضة للتغيير كلما نزل شيء من القرآن.
ولم يكن الصحابة -رضي الله عنهم- إذا اختلفوا في شيء من القرآن يرجعون إلى ما هو مكتوب، بل كانوا يرجعون إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيعرضون عليه قراءتهم ويسألونه عنها.
وبعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومقتل بعض القراء من الصحابة دعت الحاجة إلى جمع القرآن في مصحف واحد، فكان ذلك في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.
ثانيًا: جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-:
سببه: بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ارتدت بعض قبائل العرب، فأرسل أبو بكر -رضي الله عنه- خليفة رسول الله -[- الجيوش؛ لقتال المرتدين، وكان قوام هذه الجيوش هم الصحابة -رضوان الله عليهم- وفيهم حفاظ القرآن، وكانت حروب الردة شديدة، قتل فيها عدد من القراء الذين يحفظون القرآن الكريم فخشي بعض الصحابة أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حَفظته، فأراد أن يجمع القرآن في مصحف واحد بمحضر من الصحابة.
وقصة ذلك رواها البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أنه قال: «أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟! قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ.
قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كَلَّفَنِي مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟! قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ -رضي الله عنهما- فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرَهُ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ» (رواه البخاري).
تاريخ هذا الجمع:
هو كما جاء في الحديث بعد معركة اليمامة، وفي السنة الثانية عشرة من الهجرة.
أسباب اختيار زيد بن ثابت لهذا الجمع:
ترجع أسباب اختيار زيد بن ثابت لأمور، منها:
- أنه كان من حفاظ القرآن الكريم.
- أنه شهد العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، وقد روى البغوي عن أبي عبدالرحمن السلمي أنه قال: «قرأ زيد بن ثابت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العام الذي توفاه الله فيه مرتين... إلى أن قال عن زيد بن ثابت: إنه «شهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات؛ ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف رضي الله عنهم أجمعين».
- أنه من كُتَّاب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم .
- خصوبة عقله، وشدة ورعه، وكمال خلقه، واستقامة دينه، وعظم أمانته، ويشهد لذلك قول أبي بكر -رضي الله عنه-: «إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -». وقوله نفسه - رضي الله عنه -: «فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كَلَّفَنِي مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ».
منهج زيد في هذا الجمع:
من المعلوم أن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- كان يحفظ القرآن كله في صدره، وكان القرآن مكتوبًا عنده، ومع هذا فلم يعتمد على ما حفظه، ولا على ما كتب بيده، وذلك أن عمله ليس جمع القرآن فحسب، وإنما التوثيق والتثبت فيما يكتب؛ ولهذا يقول الزركشي -رحمه الله تعالى- عن زيد: «وتتبعه للرجال كان للاستظهار لا لاستحداث العلم»، وقال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: «وفائدة التتبع: المبالغة في الاستظهار، والوقوف عند ما كُتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ».
ويظهر لي أن من حِكَم ذلك أن زيد بن ثابت لا يكتب القرآن هنا لنفسه، وإنما يكتبه للأمة، وما دام كذلك فلابد أن يكتبه بمشهد من الأمة وحضورها، بل ومن صدورها مما تلقته عن نبيها -عليه الصلاة والسلام-، وثبت في العرضة الأخيرة للقرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم . والله أعلم.
وقد رسم أبو بكر لزيد المنهج لهذا الجمع فقال له ولعمر بن الخطاب -رضي الله عنهم-: «اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه».
وقد امتثلا ذلك فقد قام عمر في الناس فقال: «من كان تلقى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من القرآن فليأتنا به».
وقد بين زيد نفسه المنهج الذي سلكه بقوله -]-: «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال»؛ وعلى هذا فإن منهج زيد في جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- يقوم على أسس أربعة:
- الأول: ما كتب بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه مما ثبت في العرضة الأخيرة.
- الثاني: ما كان محفوظًا في صدور الرجال.
- الثالث: ألا يقبل شيئًا من المكتوب حتى يشهد شاهدان على أنه كُتب بين يدي الرسول -[- قال السخاوي معناه: «من جاءكم بشاهدين على شيء من كتاب الله الذي كتب بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -».
وقال ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى-: «وكان غرضهم ألا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي -[- لا من مجرد الحفظ». وكذا مما ثبت في العرضة الأخيرة.
- الرابع: ألا يقبل من صدور الرجال إلا ما تلقوه من فم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن عمر -رضي الله عنه- كان ينادي: «من كان تلقى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم - شيئًا من القرآن فليأتنا به»، ولم يقل من حفظ شيئًا من القرآن فليأتنا به.
مميزات جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-:
- جُمع القرآن الكريم في هذا العهد على أدق وجوه البحث والتحري والإتقان، وظفر هذا الجمع بإجماع الأمة عليه وتواتر ما فيه.
- أهمل في هذا الجمع ما نسخت تلاوته من الآيات.
- أن هذا الجمع كان على ما ثبت في العرضة الأخيرة من الأحرف السبعة.
- أن هذا الجمع كان مرتب الآيات باتفاق، واختلف العلماء في السور: هل كانت مرتبة في هذا الجمع أم إن ترتيبها كان في عهد عثمان -]-؟
- اتفق العلماء على أنه كتب نسخة واحدة من القرآن في هذا الجمع حفظها أبو بكر؛ لأنه إمام المسلمين.
- أن أبا بكر -]- لم يُلزِم الناس باتباع المصحف الذي كتبه، ولم يكن هذا من مقاصده لما أمر بكتابة المصحف؛ لذا بقي الصحابة يقرؤون بما سمعوه من الرسول -[- وكان في ذلك بعض المنسوخ في العرضة الأخيرة.
مكانة هذا الجمع:
ظفر هذا الجمع باتفاق الصحابة -رضي الله عنهم- على صحته ودقته، وأجمعوا على سلامته من الزيادة والنقصان، وتلقوه بالقبول والعناية التي يستحقها، حتى قال علي بن أبي طالب -]-: «أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر فإنه أول من جمع ما بين اللوحين».
ومع التصريح من علي -رضي الله عنه- فقد زعم قوم أن أول من جمع القرآن هو علي - رضي الله عنه - وقد رد عليهم الألوسي فقال: «وما شاع أن عليًا -رضي الله عنه -- لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم - تخلف لجمعه، فبعض طرقه ضعيفة، وبعضها موضوع، وما صح فمحمول كما قيل: على الجمع في الصدر، وقيل: كان جمعًا بصورة أخرى لغرض آخر، ويؤيده أنه قد كتب فيه الناسخ والمنسوخ فهو ككتاب علم».
ولهذا روي أن أول من جمعه عمر - رضي الله عنه - كما روي أن أول من جمعه سالم مولى أبي حذيفة، أقسم ألا يرتدي برداء حتى يجمعه، وكل ذلك محمول على ما حمل عليه جمع علي - رضي الله عنه - بل ذكر ابن حجر وغيره أن جمع علي - رضي الله عنه - كان حسب ترتيب النزول، وذكر النهاوندي -أحد مفسري الشيعة-: «أن الكتاب الذي جمعه أمير المؤمنين -عليه السلام- كان فيه بيان شأن نزول الآيات، وأسماء الذين نزلت فيهم، وأوقات نزولها، وتأويل متشابهاتها، وتعيين ناسخها ومنسوخها، وذكر عامها وخاصها، وبيان العلوم المرتبطة بها، وكيفية قراءتها».
وإن صح هذا -مع استحالته- فليس هو بجمع للقرآن وإنما هو كتاب في علوم القرآن، وإنما قلت: مع استحالته؛ لأن جمعه حسب ترتيب النزول غير ممكن، فقد سأل محمد بن سيرين عكرمة مولى ابن عباس فقال: «قلتُ لعكرمة: ألفوه كما أنزل الأول فالأول؟ قال: لو اجتمع الإنس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا».
تسميته بالمصحف:
لم يكن «المصحف» يطلق على القرآن قبل جمع أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وإنما عرف هذا الاسم بعد أن أتم زيد جمع القرآن، فقد روى السيوطي عن ابن أشته في كتابه «المصاحف» أنه قال: «لما جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر: التمسوا له اسمًا فقال بعضهم: السفر، وقال بعضهم: المصحف، فإن الحبشة يسمونه المصحف، وكان أبو بكر أول من جمع كتاب الله وسماه: المصحف».
خبر هذا المصحف:
بعد أن أتم زيد جمع القرآن في المصحف سلمه لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فحفظه عنده حتى وفاته، ثم انتقل إلى أمير المؤمنين من بعده عم بن الخطاب - رضي الله عنه - وبعد وفاته انتقل المصحف إلى حفصة أم المؤمنين -رضي الله عنها- لأن عمر - رضي الله عنه - جعل أمر الخلافة من بعده شورى، فبقي عند حفصة إلى أن طلبه منها عثمان - رضي الله عنه - لنسخه بعد ذلك، ثم أعاده إليها -لما سيأتي- ولما توفيت حفصة -رضي الله عنها- أرسل مروان بن الحكم إلى أخيها عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- ساعة رجعوا من جنازة حفصة بعزيمة ليرسلن بها، فأرسل بها ابن عمر إلى مروان فمزقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك خلاف ما نسخ عثمان - رضي الله عنه -.
ثالثًا: جمع القرآن بمعنى نسخه في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه -:
سببه: عندما اتسعت الفتوحات الإسلامية انتشر الصحابة -رضي الله عنهم- في البلاد المفتوحة يعلمون أهلها القرآن وأمور الدين، وكان كل صحابي يقرأ بما سمعه من الرسول -صلى الله عليه وسلم - وفي بعضه ما لم يثبت في العرضة الأخيرة، وكان أهل الشام يقرؤون بقراءة أبي بن كعب - رضي الله عنه - فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرؤون بقراءة عبدالله بن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فيكّفر بعضهم بعضًا. وعندما اتجه جيش المسلمين لفتح «أرمينية» و«أذربيجان» كان الجنود من أهل العراق وأهل الشام، فكان الشقاق والنزاع يقع بينهم، ورأى حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - اختلافهم في القراءة، وبعض ذلك مشوب باللحن، مع إلف كل منهم قراءته، واعتياده عليها، واعتقاده أنها الصواب، وما عداها تحريف وضلال، حتى كفـَّر بعضهم بعضًا؛ فأفزع هذا حذيفة - رضي الله عنه - فقال: والله لأركبن إلى أمير المؤمنين -يعني عثمان بن عفان رضي الله عنه - وكان عثمان قد رأى نحو هذا في المدينة، فقد كان المعلم يُعلـِّم بقراءة، والمعلم الآخر يعلِّم بقراءة، فجعل الصبيان يلتقون فينكر بعضهم قراءة الآخر، فبلغ ذلك عثمان - رضي الله عنه -، فقام خطيبًا وقال: «أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون! فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافًا، وأشد لحنًا، اجتمعوا يا أصحاب محمد، واكتبوا للناس إمامًا».
فلما جاء حذيفة إلى عثمان -رضي الله عنهما- وأخبره بما جرى، تحقق عند عثمان ما توقعه، وقد روى البخاري في «صحيحه» قصة ذلك الجمع في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: «إنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ؛ فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلاَفَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ...»
لاتوجد تعليقات